الدهاء الروائي في رواية "غراميات استثنائية فادحة".. للروائي السوداني عاطف الحاج سعيد
صدرت رواية (غراميات استثنائية فادحة) للروائي السوداني 2023م عن منشورات عندليب بالخرطوم. وتكشف أعماله الروائي وهو الأستاذ الجامعي، الروائي، المثقف الأصيل، عن ألاعيبه السردية. متلاعبا - بحكم خبراته الأكاديمية وموهبته العظيمة - بالقارئ العادي. وذلك من خلال عمله الروائي الرائع (غراميات استثنائية فادحة)، والذي يعتبر آخر أعماله الروائية وقد سبقتها روايات (عاصف يا بحر، ربيع وشتاء، نورس يجهره السرب، شمسان على النيل) وحازّ على جوائز مرموقة على ما استحقه أعماله من تقدير ومن بينها على الصعيد الإقليمي جائزة توفيق بكار للرواية العربية، الدورة الثالثة، ٢٠٢١م، وجائزة جائزة إبييدي للرواية العربية، ٢٠١٩م، محلياً حاز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي 2016، - ويعكف على أعمال أخرى، روائية وابداعية وبحثية تتصل بمشروعه السردي. بعيداً عن الأضواء.
رؤيا وتقنية سردية:
تنهض العملية السردية في رواية (غراميات استثنائية فادحة) تأسيسا على " التدليس السردي" بما يمكن أن يتيح مجالاً للتداخل بين السرد والأحداث في مغامرة غير مطروقة، ولكنها تدخل في سياق تقنية سردية وفق اختيارات الكاتب في النص الروائي؛ فقد ختم روايته الرائعة بفصل، مستخدما ضمير المتكلم لأول مرة في الرواية التي تعدَّدت حكاياتها بعناوينها المفارقة ، مما يربك القارئ الذي تابع شخصياته وأحداثه وعلاقات الرواية المتفاعلة داخل بينة النص الروائي المركب، ومسلما نفسه بسلاسة السرد الذي يتبناه صوت سارد النص "الراوي العليم Protagonist "، كما يسميه النقاد على حدِ الإحاطة التي تستوعب النص وعناصره في بعدها السردي المكون لسردية النص. ومن ثم يمسك بزمام الحكي ببراعة منقطعة النظير متسانداً إلى تجربته، يجلس في الزاوية المظلمة، ليحكي لنا قصص سودانيين، دفعتهم ظروف البلاد إلى الهجرة إلى أوربا، وفرنسا، تحديداً، وينخرطون في مغامرة عبور المانش إلى بريطانيا، وربما إلى بلاد أخرى. والهجرة هنا تحول يستدعى ليس حصراً على الانتقال إلى مكان جغرافي آخر، ربما تجلت ظلمات الهجرة من صراع على الوجود إلى صدام الهوية. وهو ما تنزع إليه الروايات التي عالجت قضية الهجرة أو ما بات يعرف مؤخراً بسرديات المنفى Narratives of Exile في أكبر موجة مواجهة بين مهاجري الجنوب والغرب.
لكن د. عاطف، وهو يمضي نحو خواتيم عمله، يفاجئ القارئ بضمير متكلم غريب، جديد، هو "سيد راستا"، الذي بدأت به أحداث الرواية، ولم يكن – بحسب ما يقتضيه السياق السردي - ثمة مبرر فني أو منطق درامي يجعل سيد راستا، فجأة، سيدا للحكي، حتى ولو كان ذلك فيما يتعلق بحياته الشخصية منذ أن أفتتح مدخل الرواية.
تبدأ الرواية، والتي يسميها د. عاطف، "متتالية حكائية"، بقصة "سيد راستا" على الرابية، وهي مكان منعزل، بعيدا عن مدينة كاليه الفرنسية، ينقطع فيه اللاجئون من جنسيات مختلفة، وسودانيون، بالطبع، في انتظار مغامرة عبور المانش. يعتمدون بشكل كبير على خبير في التهريب، وهو سوداني اسمه ابنعوف. لكن الرابية تصبح مسرحا للأحداث التي تجعل الأحلام تتهشم. تنضم إلى سيد راستا امرأة نصف مجنونة، تغنى، فيما هو يعزف جيتاره...ينضم شاب من جبال النوبة، عشريني، وتدور القصص.
حكايات متعددة:
ليس ثمة من بطل بالمفهوم التقليدي للرواية ل (غراميات استثنائية فادحة)، لكن تتعدد الأصوات في سياق الأحداث التي تشكل ثمة حكايات عميقة، ثمة أناس مقهورون، منفيون، تطاردهم أحلامهم وتتحطم على جدران الواقع المرير."سيد راستا" الذي هجر السودان إلى فرنسا، بقي لاجئا لسنوات عدة. وقع في حب فتاة ارتيرية، هربت منه، ليلا، مع شخص آخر. لم يكن يتصور أن يحدث ذلك معه. كما لم يكن مستعدا، فانفتحت حياته على المجهول. يقضى سنوات ثقيلة، لا يعرف ماذا يصنع بها.
ثمة سودانية موجوعة هي الأخرى، تطارد حبيبا هرب منها نواحي مدينة سنار تعرف أنه جاء إلى أوربا تحمل مواجدها، ذكرياتها الجميلة معه، حلمها بأن تتزوجه وتنجب منه صبيا جميلا. لكن كل ذلك يتحطم. كما تتحطم أحلام وإنسانية الشاب العشريني الذي يفهم لطف الشابة الفرنسية المتطوعة في المنظمة تجاهه، بأنه حب، فيقع في حبها المستحيل. ينتهي به الأمر إلى قتلها حين يعجز أن ينال حبها.
خبير التهريب، إبنعوف، تخلب لبه غجربة ماكرة، باهرة الجمال، تأتى مع أسرتها لتسلية اللاجئين المتواجدين على الرابية. ومع أن ابنعوف يعلم - كما يعلم الجميع - أن الغجرية تقوم بإراحة اللاجئين، جنسيا، مستخدمة يديها، إلا أنه وقع فى حبها...الحب الذي يجعله يريد الزواج منها لكنه يصطدم بأن الغجرية ليست للزواج سترحل مع أسرتها إلى مكان آخر لكسب العيش. ينتهي الأمر بابنعوف منتحرا في الغابة. ثمة شخصيات ثانوية تظهر وتختفي. أغلبهم لاجئون غير سودانيين ويشكل هذا التجليِّ الهامشي للشخصيات (الثانوية) محوراً في النص بما يضيفه إلى بنية الرواية من حشد لتفاصيل تأخذ بالبعد المتعدد للأصوات المتفاعلة وأحداث الرواية.
تماسك سردي:
يمسك د. عاطف الحاج سعيد ببراعة بالخيوط كلها بدقة في الوصف، ونابه جدا في التقاط التفاصيل الصغيرة التي تجعلك جزءا من المكان والزمان بما يشكله من ضرورة يقتضيها الحيز السردي. مقتصد في استخدام اللغة، وشاعري، أيضا. ولعل ميله الواقعي للصمت، نفوره من الثرثرة، جعله منضبطا، جدا في كل شيء في الرواية. ليس هناك من أحداث كبرى أو شخصيات كثيرة بطلة، معقدة يحكي ببساطة عن أناس عالقين. فاللغة التي استخدمت في الرواية بالتطابق والموافقة الموضعية بين مستوى الشخصيات وهوياتها المتنازعة في محيط مهجرها داخل شبكة العلاقات الأخرى التي لا تكتفي بالتداول اللغوي وحده، بل تستدعي التداعيات الإنسانية من قلق وتساؤل وتأمل. على الرغم من أن الجدل حول طبيعة اللغة في حقل الدراسات اللغوية قد احتَّدم حول مسوغات الاستخدام اللغوي ومستوى هوية الشخصية اللغوية وموقعها في المحيط الروائي.
كرئيس سابق لقسم اللغة الفرنسية، بكلية اللغات، بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، وكشخص عاش، ويعيش جزء من أسرته في فرنسا، وزار أغلب مدنها...عايش حياة اللاجئين السودانيين هناك، تطوع في العمل الإنساني في فرنسا، فإن ذلك وفر له أن ينقلك إلى هناك ببساطة وخبرة. لا شك أن الاطلاع على الأدب والرواية الفرنسية وترجمة بعض اعمالها، أضافت إضافات بينة وملحوظة في نسق د. عاطف وتخطيطه للرواية. الشيء الذي جعلها تبدو وكأن كاتبها أجنبيا. فالرواية السودانية مليئة بالثرثرة والاستعراض، مؤخرا، إلا ما رحم ربى. مما اقعد بالسردية وبالتالي افتقدت إلى التحكم ببنية النص وضبط مسارات الأحداث التي تقتضيها الضرورة السردية في مجمل الخطاب الروائي، وأخذاً بتقنيات كتابة الرواية.
تعد رواية (غراميات استثنائية فادحة) إضافة للرواية السودانية، بحق. لامست انسانيا عوالم وشخصيات لم تتطرق إليها الرواية، إلا لماما. ولكن: هل أراد أن يقول شيئا عن الحب؟ هل يعتقد أن الحب مشروع غير قابل للتحقق؟ هل ينعى إلينا الحب؟ لماذا كل هذا الأسى؟ كل هذه الجراح؟
هل من المشروع نقدياً أن نتمنع عن فضحه: تلاعب بأصوات الحكي. أقحم سيد راستا فى ضمير المتكلم قسرا، وسيد راستا ليس عالما بتفاصيل حيوات الآخرين على الرابية، على الرغم من أنه أقدمهم لجواء. كما أنه ورط سيد راستا في تفاصيل لا يمكن أن ينتبه إليها المريض النفسي المحبوس في مستشفى للأمراض.
0 تعليقات