رواية البراني عمل أدبي يفاجئ به الكاتب والمنتج الصحفي أحمد ولد إسلم العالم إنه إشراقة إبداعية غير مسبوقة في جنسها على مستوى بلد الكاتب إن لم نقل على مستوى العالم العربي أجمع.

رواية البراني من ذلك النمط من الأعمال متعدد الأبعاد الذي يجمع إلى اللغة والسرد فكرا وفلسفة حيوية لمعاني الوجود في عوالمه الحسية والخيالية المختلفة إنها حوار غير مكرر يفحمنا بأسئلة جوهرية تتعلق بواقعنا وإلى أين نسير تعالج إشكاليات من الضروري أن نحضر لها حلولا لأنها ببساطة ستقتحم حياتنا في لحظة من زمن آت بسرعة فائقة.

تتميز الأعمال الروائية بصعوبة القراءة التأويلية والتقويمية لأنها من نمط الأجناس الأدبية التي تحكمها نظرية موت صاحب النص فحتى الكاتب المبدع لا يستبعد هو ذاته التأويلات التي تطرح لعمله، وإن كان يعترف بأن التأويل المطروح لنصه لم يقصده لحظة ولم يدر بخلده وهو يكتب نصه، ولكن القارئ يؤطر النص وفقا لثقافته وأدواته المعرفية وخياله وتصوره الذي تشكل بعيدا ربما عن نفس سياق وجوانيات الكاتب الأصلي.

شخوص الرواية

تشخص الرواية تعايش عالمين في واقع حياة الناس، بين تيارين تيار بلهث خلف ما يتصوره تطورا وتقدما يجب اللحاق به والتضحية في سبيل ذلك بكل شيء بينما يرى التيار الآخر أن التضحية بواقعهم وثقافتهم وخصوصياتهم أمر غير مقبول مهما كان الثمن.

وبين هذين التيارين يعيش بطل الرواية وشخصيتها المحورية مختور، الذي لحق بعالم التطور وعايشه وعاد لعالمه التقليدي القديم وأضحت لديه فكرة جديدة يتطلع من خلالها لتعامل مركب مع صراع هاذين العالمين عبر تحديد مصفوفات اختيار وبناء تصور للعامل الواعي للصراع المحتدم بين العالمين.

ومن أولئك الذين اكتشفوا وفهموا التركيب الذي يمر به الشخص القادم من عالم الجنوب للعالم المتقدم وكأن قصة مختور تشير لجوانب تتعلق بالحد الفاصل بين عالمين تتطلب الموافقة بينهما الكثير من التحليل والتركيب وإدراك الفوراق الزمنية والمكانية بينهما.

وتشير قصة احتجاز مختور سبع سنوات في المستشفى ثم استيقاظه المفاجئ لتنحت في ذهن القارئ الصدمة الحضارية التي يصاب بها القادم من عالم الجنوب المتخلف للعالم الجديد فهذه السبع سنوات في القصة هي في الحقيقة أيام أو لحظات في حياة القادمين لموسكو من افريقيا، فارق زمني في حقيقته قرون متعددة بين مسيرة التقنية والحضارة لمن هم في الجزء الشمالي من الأرض ومن هم في الجزء الجنوبي والذين لايكتشفون الفرق في جانب الزمن إلا بعد انتقالهم للبلدان الشمالية.

الرواية إذن بهذه الرمزية تطرح إشكالية الفوارق التنموية والحضارية بين بلدان العالم خصوصا العالم المتقدم في أوروبا وأمريكا وعالم الجنوب في الشرق الأوسط وافريقيا، إن الإنسان في هذه المنطقة يعيش خارج التاريخ وخارج الزمن أو بعبارة أدق خارج الدورة الحضارية لدنيا الناس في الوقت الراهن.

حوار مختور مع ممرضته يضعنا أمام تجسيد فعلي لاستعادة هذه الأوطان بحركاتها الوطنية ويقظاتها النخبوية وصحواتها الفكرية مساءلة تأطرت من خلال حوار ينبئ عن استعادة الوعي والعافية والأسى على ما تعرض له من فقد سبع سنوات فمابالك إذا كانت هذه السنوات ربما سبعة قرون فيما يخص عالمنا الإسلامي..

تستشرف الرواية مستقبل القوة العاملة التي تعتبر الآن بمثابة المستعبدين المرتهنين لأرباب العمل والذين يعيشون على وقع القلق من المستقبل حيث يفقد منهم الآلاف وظائفهم بفعل اختزال أعمالهم من طرف الشركات العالمية، عبر روبوتات وبالتالي فهم مهددون في وجودهم المستقبلي، يقتلهم القلق والتذمر من مما ينتظرهم من صعوبات تنبأت الرواية بحدوثها وفعلا جاءت أحداث الإغلاق الناتج عن الوباء العالمي فأضحى ما توقعته حقيقة واقعة.

عنوان مبدع 

عنوان الرواية "البراني" في حد ذاته يأخذنا لعمق الأصالة الموريتانية حيث الفن الموريتاني الأصيل يسبح في مسار تطوره التاريخي وسياقاته الخصوصية بعيدا عن العولمة والإنترنت والذكاء الصناعي ولذلك فإن بطل الرواية وهو في عالم الأصالة يدخل تغييرات على سيارته القادمة حديثا من المصنع فيستغني عن لوحتها الإلكترونية ليركب فيها آلة المسجل القديمة التي توافقت بشكل أكبر مع الثقافة المحلية.(مقطع من البراني وتعريفه عند أهل آكمتار....) وهذا من جانب آخر يكشف عملية التبيئة الناقصة للكثير من القيم العولمية لأن آلة التسجيل في لحظاتها الأولى كانت تقنية جديدة في وقتها لكنها أخذت مكانتها بينما لم نصل بعد للحظة التي نستكمل فيها عملية تبيئة القيم العالمية الجديدة ونستوعبها ضمن نموذجنا الحضاري كآلة شريط الكاسيت التي أضفينا عليها من خصوصيتنا حتى أضحت بمثابة الملك الشخصي لنا وتناسينا كونها وافدة، أو هي نتيجة تقادمها لا أحد يعتز بها فكرست الذاكرة الشعبية لها حيازة وتبنيا، يجعلها جزءا من ذاتيتنا الثقافية والحضارية.

 تصنيف الرواية 

تندرج الرواية ضمن فن روايات الخيال العلمي وهذا ملمح إبداعي جديد يأخذ قيمته وأهميته من حجم التوظيف الكبير للتراث الموسيقي الموريتاني بمصطلحاته وأدواته ودمجه مع فنيات التقنية ومصطلحاتها والعجيب أن ثمة تناسقا كبيرا يلاحظه القارئ للرواية ويستوعبه بسرعة خصوصا وأن ثمة بناء هندسيا قويا للآلة الموسيقية الموريتانية وثمة كثافة في فنون هذه الموسيقى، يتطلب اعادة النظر فيها كجزء من الإرث الحضاري القابل للتقديم كتجربة انسانية فاعلة وممتعة تستحق أن تروى وتثرى بالإنتاج الأدبي الذي طالما كانت أهم محتضن له وفاعل بارز فيه.

ومن دون شك فقد قدم أحمد ولد اسلم هذا الإرث الحضاري الموريتاني للعالم من خلال هذه الرواية وبطريقة معاصرة وحيوية وضمن سياق فلسفي وفكري مقنع.

إن هذه الرواية عرفت القارئ العربي والعالم بجوانب مهمة في الموسيقى الموريتانية ومقاماتها المتفردة عن بقية التجارب الموسيقية العربية مما يتطلب من النخب الموريتانية فهم حقيقة كون الثقافة الشنقيطية أيضا لديها أبعاد فنية وموسيقية عربية وافريقية تشكل قيمة مضافة للثقافة العربية الإسلامية في الغرب الإسلامي وهذا العطاء الحضاري وإن كان معروفا محليا ويدركه المختصون إلا أن ثمة حاجة ماسة لتقديمه للجمهور في المنطقة العربية والعالم، ولا شك أن الرواية نجحت في لفت هذا الإنتباه لهذا الملمح الثري في تراثنا الوطني.

مقطع من الأغنية التي كان ستمع لها مختور......قل للمليحة ...

 رسالة الرواية 

لم أتصور في البداية حجم الفكر الفلسفي النير المتدفق عبر فصول هذه الرواية وبلغة سهلة وسلسة فقد تطرقت لقضية انسانية خطيرة هي اللهاث وراء الآلة لدرجة كاد الإنسان معها يفقد انسانيته ويتحول إلى روبوت أو مجرد آلة إلكترونية كما اقترحت الرواية دعوة الإنسان بحذق للتحكم في الآلة بدل أن تتحكم فيه هو نفسه الآلة ويصبح تبعا لها كما هو واقع الآن في حياة كثير من الناس والمجتمعات وما حذرت منه الرواية وقع مؤخرا فحجم الإرتباط بخدمات الإنترنت كبير لدرجة أن كثيرا من اقتصاديات العالم، والأرقام المالية الكبيرة لعمل الشركات مرتبطة بحواسيب وشبكات خدمات المواقع الإلكترونية وعند أي عطب فمن دون شك، فإن ذلك يؤثر على حياة الملايين من الناس.

نقاش عميق تقدمه الرواية لهذه الإشكالات المتعلقة بالرقمنة، والإلكترونية فكثير من الوظائف التقليدية للإنسان، يمكن أن يقوم بها الروبوت وبالتالي الإستغناء عن أعداد هائلة من الناس بل ربما يأتي يوم ينشأ مجتمع واسع من الروبوتات لخدمة الطبقات الثرية في المجتمعات وتستغني تماما عن البشر وما يطرحه استخدامهم من اشكاليات وعقد للخادم والمستخدم.

ينبغي أن ننبه إلى أن رواية البراني حظيت باهتمام كبير في العالم العربي قلما تحظى به الروايات العربية فقد ترجمت فصولا منها مجلة أميركية تهتم بالخيال العلمي وهي في طريقها للترجمة للغة الإنجليزية وفي الحقيقة من الضروري أن تهتم النخبة الموريتانية بالعمل الإبداعي وبأصحاب الأعمال الإبداعية كالصحفي المتميز والكاتب المبدع أحمد ولد اسلم.




0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم