السعودي أحمد السماري يرصد محاولات التمرد على ذكورية المجتمع وقهر الرجال.

فسر الكاتب في توطئة استهل بها روايته دلالة اسم ليليت في الميثولوجيات القديمة، وجعل ما تحيل إليه من سمات الندية والإباء والتمرد على سلطة الرجل صفات لشخصيته المحورية "جواهر"، ووقوداً للصراع في النص، وكذا محركاً رئيساً للأحداث.

في بقاع شتى من العالم خاضت النساء نضالاً طويلاً لنيل حقوقهن، وتحدين ذكورية مهيمنة لم تنفك تحاول - من واقع شعور بالتفوق والفوقية - إخضاعهن وتهميشهن. وعلى رغم أن التاريخ وثق هذا النضال النسوي التحرري منذ ماض ليس ببعيد، فإن محاولات المرأة التمرد على امتهانها وإخضاعها ربما بدأت منذ عهود سحيقة ظهر صداها في الميثولوجيات القديمة، السومرية واليونانية والمصرية أيضاً، فكانت أسطورة ليليت تجلياً لهذا التمرد، إذ أبت بطلة الأسطورة الخضوع لسلطة الرجل، وحازت على رغم رفضها الانصياع إعجاب كل الرجال.

هكذا ارتبط اسم "ليليت" بدلالات تحيل إلى رفض المرأة محاولات إخضاعها وتمردها على غطرسة الرجل، وهذا ما دفع الكاتب السعودي أحمد السماري لاتخاذ الاسم نفسه، عنواناً لروايته الأحدث "ابنة ليليت" (منشورات رامينا – لندن)، وفسر الكاتب في توطئة استهل بها روايته دلالة اسم ليليت في الميثولوجيات القديمة، وجعل ما تحيل إليه من سمات الندية والإباء والتمرد على سلطة الرجل صفات لشخصيته المحورية "جواهر"، ووقوداً للصراع في النص، وكذا محركاً رئيساً للأحداث.

أصوات نسائية  

وزع الكاتب صوت السرد بين شخصيتين نسائيتين، الأولى هي "جواهر" الطبيبة السعودية المولودة لأم هندية، التي تصدت لمحاولات إخوانها الذكور إثناءها عن دراسة الطب، وقاومت أخاها الأكبر "دعيج" حين استولى على نصيبها ونصيب أمها من تركة أبيها، ثم نفضت يدها من عائلتها وتحدت القيود والموروث من الأعراف، فهاجرت إلى الولايات المتحدة باحثة عن مجد طبي تستعيض به عن خذلان أسرتها وخساراتها المادية والإنسانية.

أما الشخصية الثانية التي منحها الكاتب سلطة قيادة السرد في مساحات متفرقة من النسيج فكانت "ميلا" ابنة "جواهر" من زوجها المكسيكي "كاستليو"، وهي ابنة خالصة للحضارة الغربية حتى وإن كانت ثمرة تزاوج ثقافات متعددة. وعلى رغم استحواذها و"جواهر" على صوت السرد، فإن المساحات الواسعة من الديالوغ سمحت ببروز أصوات الشخوص الثانوية والتعبير بحرية عن ذواتها وثقافاتها ورؤاها.

ومثلما تعددت أصوات السرد، تعددت كذلك فضاءاته المكانية التي شملت السعودية وموريتانيا وولايات أميركية عدة مثل نيويورك ولوس أنجلوس وتكساس، وحرص الكاتب على وصف المكان ورصد ملامحه وتبيان خصوصيته الثقافية خلال حقبة امتدت من العقود الأخيرة في القرن الماضي وحتى العقد الثاني من الألفية الثالثة، "هنا شوارع وأحياء كاملة تجدها في وقت النهار آمنة تماماً، لكنها تتحول في الليل إلى ما يشبه حرب الشوارع، يملأها العنف والاعتداءات، وإطلاق النار يسمع بوضوح بين العصابات وبين الشرطة، أو بين بعضهم بعضاً، تلك نيويورك الثمانينيات التي تعج بالجرائم والقتل والسطو المسلح" (ص 53).

ودعا تبادل صوت السرد بين الأم وابنتها إلى انتهاج نسق زمني غير منتظم تشاركت الشخصيتان بعض لحظاته، في حين استأثرت "جواهر" بزمن ما قبل ميلاد "ميلا"، غير أن عدم انتظام النسق الزمني للسرد لم يحل دون انسيابيته ولم يعطل تدفقه.

محلية وموروث

اعتنى الكاتب برصد أثر المكان والبيئة المحلية في الشخوص، وفي أفكارهم ومشاعرهم واختياراتهم، وبذا منح الفضاءات المكانية للسرد دوراً رئيساً في التطور الدرامي وفي تحريك الأحداث. واتسق مع أهمية دور المكان في النص حضور تقنيات الوصف، وكذا حضور الخطاب المعرفي، واستدعاء معارف تاريخية وجغرافية حول تلك الأماكن، "انطلقت القافلة جنوباً نحو ولاية الحوض الشمالي إلى مدينة كمبي صالح عاصمة إمبراطورية غانا القديمة وفيها قصر ملكي قديم" (ص 85)، غير أن اختزال بعض تلك المعارف جاء مخلاً، فلم يذكر الكاتب حين عرج على مدينة كمبي صالح وقصرها القديم أية معلومة عن هذا القصر.

استدعى السماري موروثاً شعبياً يبرز الخصوصية الثقافية للمجتمعين السعودي والموريتاني، فرصد بعض العادات التي تتصل بالبادية، ويتشاركها كلا المجتمعين مثل صناعة البيوت من شعر الماعز، والتعلق الشديد بالإبل ومكانة التمر والقهوة. ورصد بعض العادات الاجتماعية السعودية مثل تقبيل رأس كبير العائلة على سبيل التحية والتبجيل، وإرغام الفتيات في بعض القرى الموريتانية على تناول الأطعمة الدسمة وحليب النوق والابتعاد من أشعة الشمس مدة شهر قبل الزفاف. كما أبرز الخصوصية الثقافية لتلك المجتمعات عبر استدعاء بعض الأمثال الشعبية، وعبر استخدام اللهجات المحلية في الحوار، فأسهمت بدورها في تعدد مستويات اللغة ومناسبة مقتضى الحال، "كلما مر حديث عن العائلة والماضي يقول: خلاص يا جواهر طاح الحطب؟ فأجيبه وأهز رأسي برضا: خلاص طاح الحطب" (ص 152).

كذلك وظف السماري الشعر والابتهالات لتحقيق الغاية ذاتها من إبراز الخصوصية الثقافية للمجتمعين السعودي والموريتاني، مستفيداً منهما - على مستوى بنية النص - في تعزيز جمالية السرد عبر المزج بين أجناس أدبية عدة.

قضايا نسوية  

بدا منذ اللحظة الأولى للسرد اهتمام الكاتب بطرح القضايا التي تتصل بأوضاع المرأة في المجتمعات الشرقية، وما تتعرض له من غبن وتهميش وحرمان من حقها في الميراث، وكذا حقها في التعليم بخاصة إذا أرادت دراسة فرع من فروع العلوم كالطب على سبيل المثال. كما تطرق لقضايا الاعتداء والاغتصاب التي تضيء مدى ما تعانيه النساء في مجتمعات غربية وشرقية لا تنصف المرأة حتى عند استغلالها جسدياً، وإنما تعفي الجاني من دفع ثمن جريمته لتتحمله عنه الضحية.

كما طرق السماري قضايا أخرى تؤرق الإنسانية شرقاً وغرباً، مثل التفكك الأسري وتشظي الهوية وانتهاك الخصوصية الفردية والمطاردات الإعلامية والتمييز والعنصرية والإرهاب والحروب السياسية القذرة والعوار القانوني والثغرات التي يفلت عبرها المجرم من العقاب، "ظهرت على وجهها ابتسامة باردة وقالت: لقد مسحت جميع الأدلة بعد استحمامك، ومسألة فض عذرية امرأة بالغة في عمرك أمر مشكوك به في مجتمعنا، ولأن الاغتصاب جرى على سرير غرفة نومك، فهذا يجعل القضية تقفل من أول تحقيق، لذا لا بد من أخذ حقك بطريقتنا في حواري نيويورك" (ص 66).

التناقض والصراع

 أبرز الكاتب خلال رحلته السردية عدداً من تناقضات النفس والعالم، فالطبيبة جواهر الطموحة النشيطة المشتعلة ليست كزوجها كاستليو البطيء الكسول الساكن. والمرأة جواهر المعتزة بذاتها الأنثوية ليست كإخوتها الذين ينظرون للمرأة بفوقية فيبخسونها حقوقها، والأحياء في نيويورك آمنة نهاراً لكنها مخيفة ليلاً، ومن ترعرعوا في الشرق يجنحون للصمت والكتمان في حين يمتلك الغرب قدرة أكبر على الحديث والبوح. ومثلت البداوة والمدنية الفردية والروابط الاجتماعية، مادية الغرب وروحانية الشرق، ذروة التناقض في النص.

وكانت كل تلك التناقضات وازعاً للصراع، سواء على المستوى الخارجي، بين البطلة "جواهر" وإخوتها، وبينها وزوجها، أو في عوالمها الداخلية المأزومة بالوحدة والاغتراب نتيجة خذلانها من أسرتها من جهة، ومحاولاتها دمج هوياتها المتعددة والتوفيق بينها قسراً بدلاً من تقبلها كما هي من جهة أخرى، "ألقيت نظرتي الأخيرة على نيويورك من نافذة الطائرة وفي داخلي مشاعر مختلطة من الحب والكره والإعجاب والسخط والعظمة والانحطاط والطموح والخيبة" (ص 74).

وفي زخم تلك التناقضات مرر الكاتب بعض صور التماثل، لا سيما بين المجتمع السعودي والمجتمع الموريتاني اللذين يتشابهان في الروابط الاجتماعية وبعض سمات وقيم البادية، وكذا بين "جواهر" المقاتلة التي لا تنكسر، وطائر الفينيق الذي تقول عنه الأسطورة إنه يعيش أعواماً طويلة يحترق في نهايتها، ومن الرماد الذي يتخلف عن احتراقه يخرج طائر جديد.

التناص والحلم  

عمد الكاتب إلى التناص مع الموروث الأدبي والشعري فاستدعى أبياتاً من قصيدة مطلعها "بلادي وإن جارت علي عزيزة"، ووظف استدعاءاته من رواية "ترتيلة" للكاتبة الأميركية من أصل روسي آيان راند في خدمة الأحداث، كما استدعى كتاب "الملحمة الأميركية" للمؤرخ جيمس ترالسو، وهو أول من استخدم عبارة "الحلم الأميركي". ولجأ السماري إلى تكرار هذه العبارة في أنحاء متفرقة من النسيج للدلالة على انبهار المهاجرين بالمجتمع الأميركي ودوافعهم للنزوح إليه وتراوحهم بين النجاح والإخفاق.

كما عمد إلى التناص المباشر وغير المباشر مع الموروث الديني، مما أسهم في تعزيز جمالية اللغة والسرد، واستعان بتقنية الحلم فكانت لرؤية الجدة الموريتانية للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يبشرها بشفاء الضيف وبعودة الطبيبة لوطنها وفوزها بصوغة الملك وظيفة تنبؤية مهدت للاحق من الأحداث، إذ عادت الطبيبة لوطنها، وفازت عن بحثها - للاستعانة بصمامات الإبل في عمليات القلب المفتوح - بجائزة "الملك فيصل".

وعلى رغم نجاح الكاتب في تجسيد مشاعر الخوف والوحدة والسلام المفقود لدى بطلته الأولى "جواهر"، فإن تسامح بطلته الثانية "ميلا" مع أم تركتها وابتعدت لتحقيق أحلامها الخاصة كان مربكاً. كما إنه لم يجسد أزمة "ميلا" الداخلية الناجمة عن الشعور بالفقد واليتم على النحو ذاته من تجسيده أزمة بطلته الأولى، كذلك أحدث ما وضعه من نهايتين متواليتين ومتباينتين للأحداث الأثر المربك نفسه، لا سيما أنه لم يصنع رابطاً بينهما، وربما كان من الأفضل لو ترك النهاية مفتوحة ليقرر القارئ وحده مصائر الشخوص.

المصدر: اندبندنت عربية



0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم