«غثيان» سارتر: رحلة روكنتان ومحاولة فهم الوجود
هيڤا نبي
«خُلق الإنسان عارياً» عن أي عري نتحدث؟ عري الجسد أم الفكر؟ إذا كان العري في الأديان هو أولى إشارات المعرفة لما نتحدث إذن عن شعورين مختلفين إزاء العري؟ لم يخجل المرء من العُري الجسدي في حين أنه يخاف من العُري الفكري؟ ماذا سيحصل لوهلة لو تم نزع الأسمال التي تقي الوجود من الفراغ السابق لإلباسه؟ هذا ما أورده سارتر في روايته الأولى التي نشرت عام 1938 مبرهناً على أن تعرية الفكر، وإن بدت مغامرة ميتافيزيقية غير محتملة الحدوث، إلا أنها تفتح أبواباً عديدة لفهم الوجود وتركيبته وأمانه المزيف. صدرت «الغثيان» عن غاليمار، بعد أن رُفضت في المرة الأولى، وفيها عرض «سارتر» قضية فلسفية على لسان بطله «روكنتان».
تعرية الوجود
على الرغم من أن كلمة العُري لم ترد في رواية «الغثيان» بأي شكل إلحاحي، إلا أنها تُعتبر الكلمة المفتاحية التي يمكن من خلالها قراءة الرواية. كيف؟ رحلة روكنتان القاسية هي عبارة عن رحلة لتعرية الوجود، أساسها رفض الامتثال لأي نوع من الأمان المبتكر ومنها: رفض اللجوء للماضي، رفض منطقية الكون والأحداث والأشياء، رفض الاستكانة للحياة الداخلية أو النفسية، رفض الامتثال للنموذج البورجوازي بكل تجلياته ومظاهره، رفض العصامية، الإنسانية وأكاذيبها، المغامرة، الأمان الزمكاني، التاريخ أو المنطق التاريخي، الحب كمبرر، الملكية والثبات.. كل هذا الرفض ليس إلا عرياً بصورة دقيقة.
الوعي بالحقيقة
بقراءة الكلمات الأولى للرواية تسقط وروكنتان في هوة عميقة، تسائله ويسائلك إلى أين المسير؟ لكن، لا إجابة.. ما إن يخبرك أن نوبات غثيانه ابتدأت بإلقاء حصى في النهر حتى يتسرب الغثيان إليك أيضاً. تنسى بطبيعة الحال أنك في قلب رواية، حيث لا أحداث، لا شخصيات، لا مغامرات، لا حبكة مبتكرة، لا إرجاء تشويقي لنهايةٍ ما. رغم كل هذا النقص إلا أن الكمال هنا يبلغ مبلغه من حيث أنه يتعلق بكشف وجودي فلسفي استثنائي. قبل منتصف الطريق تشعر بأنك اكتفيت لكن روكنتان لا يكتفي، ينقل إليك خوفه كاملاً بدون أن يجامل ضعفك أو انعدام رغبتك، يقول لك باندفاع وتناقض الخائف: «تعال هناك المزيد». ماذا يمكن أن يكون ذلك «المزيد» سوى حالة وعي تام للحقيقة لا ينفع معها إغفال ولا إغماض العين؟ مع تتالي الاكتشافات يبدو التخلي أفضل الحلول التي يقدمها روكنتان لتهدئه نوباته، التخلي عن بحثه التاريخي، عن وهم الانتماء للآخرين، عن مدينة بوفيل، في وجه كل هذا التخلي يتمسك روكنتان بحل واحد غامض لحدٍ ما، وهو كتابة رواية. كيف يمكن لكتابة رواية أن تشفيه من غثيانه؟
الشعور الجمالي
ونستشعر بأن هناك مشكلة كبيرة لكنها لا تحتاج لحل. ذلك أن المشكلة بحد ذاتها تعد حلاً لعدم مقدرة روكنتان على الرضى عن العالم المحيط به. ولكن لمَ حمّل الروائي نفسه عناء اختراع إحداها؟ وكيف بالأحرى أدت المجريات إلى ضرورة خلق نهاية للرواية أو لمعاناة روكنتان؟ لابدّ من القول أولاً إن طابع الرواية فرض على الكاتب إعطاء الحكاية شكلها التقليدي المتمثل بالافتتاحية ورصد المشكلة وأخيراً إعطاء الحل. أما كيف جرَّت الأحداث الرواية لنهاية ما فباعتقادنا انبثقت النهاية عن شيء جمالي وشعوري تماماً، فعند استماعه للمرة الأخيرة إلى لازمة « some of these days… You’ll miss me honey» شعر روكنتان نفسه متخماً بالجمال الحقيقي ليتحول مكتشف الوجود فجأة إلى كائن إنساني حقيقي يلامس الشعور الأقرب إليه: «إنني أحس شيئاً يلامسني بخجل.. شيئا لا أعرفه بعد: نوع من الفرح». يتحدث النقاد في حالة روكنتان عن الخلاص عن طريق الفن أو الأدب، لكن هذا التفسير يبقى مطروحا كحل لإلزام البطل بفعلٍ ما. وباعتقادنا سيبدو الحل المقترح لهذه المشكلة الوجودية كخاتمة أكثر منه حلا، وسيبقى رغم كل شيء أكثر الحلول المحتملة سطحيةً: كانتحار البطل أو استسلامه لغثيانه أو الالتقاء بمبرر وجودي، ذلك أننا ننظر إليها من وجهة نظر (مشكلة/حل) لكن لا شيء من الحلول يمكن أن يتضمنه كشف الوجود. لهذا كان الحل المقترح حلاً من جنس المشكلة ذاته وامتداداً لها إلى حدٍ ما.
الحل الوجودي
قد يتساءل أحدهم، ألا تبدو كتابة الرواية أيضا كطريقة للإلباس؟ محقٌ من يطرح هذا السؤال، روكنتان نفسه يعترف بأنه بكتابته لرواية سيعيد فعل كل الأشياء التي يخشى تبريرها لنفسه: سيرتكب فعل الوجود، سيسمح لنفسه بعزلة جديدة، سينبش بطريقة ما في حكاية ما، سيظل الفارق بين عالمه الخاص والعالم الخارجي – الذي يخشاه – كبيراً ومخيفاً. لكن الرواية تكشف ــ حسب كونديرا ــ عن عوالم لا يمكن للعلوم والفلسفات اكتشافها. وروكنتان أمام هذا الحل لا يبحث عن هدف من أجل هدف لأنه لا يريد أن يبرر شيئا بشيء، كما أنه لا يبتغي أن يرسم لنفسه هدفاً ينقذه كأي فعل آخر من آفة الوجود، بل يبحث عن فعل لا يستمد أهميته إلا من نفسه، وينقل في الوقت نفسه أفكاره بأكثر الطرق حرية وإمكاناً وهذا الهدف لا تصنعه إلا الرواية بالنسبة للروائي.
احتمالات الوجود
بالتجائه إلى الرواية ينشد روكنتان الانتقال من عالم التأكيدات والجزم والقطعيات، إلى عالم الاحتمالات والإمكانات. ليس الأمر متعلقاً بالهروب من الواقعي إلى الخيالي، بل بانغماس أعمق في الوجود عن طريق فتح باب الاحتمالات على اتساعه. سيُلقي هذا العمل الفردي الضوء على ماضي روكنتان فيجعله أكثر حضوراً وقبولاً: «وآنذاك سأنجح – في الماضي، وليس في غير الماضي- أن أقبل نفسي». سيكون روكنتان ذا أهمية بالنسبة لنفسه ويتحول من كائن «لا لزوم لوجوده» إلى كائن محتمل الوجود وممكنه، سيتحرر من ذنب الوجود ويوجد كذلك بالنسبة للآخرين بحتمية أكثر رسوخاً: «وسيكون ثمة أناس يقرأون هذه الرواية.. وسيفكرون في حياتي كما أفكر في حياة تلك الزنجية: كشيء ثمين ونصف أسطوري».
فلسفة الإخجال
الهدف الأكثر دقة من كتابة الرواية هو إخجال الناس من كينونتهم: في روايته يرمي روكنتان إلى تأليف «حكاية.. جميلة وقاسية كالفولاذ.. تجعل الناس يخجلون من كينونتهم». هنا نتساءل: لما الإخجال؟ لمَ يودّ روكنتان أن يُخجلهم لا أن يُعرِّفهم ببساطة بهذه الكينونة التي اكتشفها؟ رغم أن الإخجال قد يبدو موضوعا غير وارد، إلا أنه في الواقع الاكتشاف الأجمل فيها. كيف؟ إخجال الناس هو عودة للخجل الأولي أمام الجسد العاري والفكر العاري. والإخجال كضربة، هو أشد عمقاً وتأثيراً من المعرفة: ففي المعرفة هناك مسحة من الحيادية تلامس القائل (روكنتان) والمتلقي (الناس)، لكن في الإخجال يود روكنتان أن يذهب أبعد وأعمق بأن يؤثّر فيهم ويدهشهم ويجعلهم يتراجعون بدافع الخجل عن كل ما اعتقدوه آنفاً. في كتابه «الوجود والعدم» يعرّف سارتر الخجل بالكلمات التالية: «الخجل هو الخجل من النفس أمام الآخر». انطلاقا من ذلك فإن روكنتان يود إشراك نفسه والآخرين في عملية الإخجال تلك، لا يريد أن يكون حاضراً كفيلسوف، بل مؤثرا ومشاركاً كموسيقي أو كمغن.
الحل الروائي
استطاع سارتر الذي اهتم دائماً بخط الرجعة اختيار نهاية لا يمكن أن يُحاكم عليها. فلا هي رديئة ولا هي غير ممكنة ولا هي متوقعة ولا هي قدرية. استطاع أن يتخلص بذكاء من كل أصناف النهايات التي يمكن أن تسيء لروايته. كانت المفاضلة الوحيدة عنده هي المخرج الوحيد للبطل. فالذي يمكن أن يسلكه روكنتان يجب أن يكون حلاً وحيداً، ومن ثم فإنه اختيار الأجمل، وهو المتعلق بعالم الرواية كحل وجودي أساسي. هنا أيضاً لم ينسَ سارتر أن «ينغِّص» على قارئه متعة الاستسلام لراحة ما. فما سيترك القارئ خائباً بعد إتمام الرواية هو عمومية إشكالية الغثيان وخصوصية حلها وفردانيتها. ولا يخفى أنّ هذه النهاية الهادئة تليق بالسلام الداخلي المحقق لروكنتان وتتآلف بصورة جمالية مع المطر الذي يتنبأ روكنتان بغسله للمدينة العارية في اليوم اللاحق لسفره: «إن المطر سيهطل غداً على بوفيل».
٭ كاتبة وأكاديمية سورية / ألمانيا
- عن القدس العربي
0 تعليقات