الشريف آيت البشير

"هَذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ الْجَحِيمُ، وَأَيُّ نَفْعٍ فِي التَّوْقِ إِلَيْها".

 بورخيس.

أولا: المتن الحكائي:

تحكي رواية (قطط مدينة الأرخبيل) للروائي المغربي إسماعيل غزالي* عن المسارات المتشعِّبة التي خضعت لها حياة صحفي لامع في تدبير ملفات التحقيق في حوادث الاغتيال السياسي وجرائم القتل الغامضة، عبر زاويته القارَّة (بندول الساعة) ص83... إذ قد كان فاضحا، صاحب خط تحريري غير مهادن لم تُلَوِّثْهُ قذارة الوصولية، كما أنه لم يكن منبطحا في تدبير وجوده وعلاقاته داخل الجريدة، كانت روحه قلقة وهي تتنَسَّم عَبَقَ الحرية.. مما أفضى به إلى التوقيف والمتابعة القانونية، جعلته يتذوَّق نصيبه من الاعتقال، متوَّجاً بِنَصْبِ الأفخاخ له من قبل السلطة، راسمة له أُفُقَ الاشتغال لحسابه الخاص، أي لحساب الجهاز المخابراتي.. كما تحكي الرواية عن مساراته الغنية بالسَّكَعِ في المدينة ـ المتاهة: موغادور.

هو الصحفي شكيب المنحدر من مدينة سلا، المدينة التي تَعْبَقُ برائحة من مروا بالمكان من برتغال.. مرجعية تُحَضِّرُ لها توأمة مكان له الحصة ذاتها على جنبات الجنوب الأطلسي.. إذ في يوم من الأيام الْمُضْجِرَةِ، زمن العطالة،وهو بإحدى حانات الرباط، مطالعا روحه و"مسخه" في قعر الكأس، التقى بصديقه القديم: زكريا الغرباوي، مقترحا عليه مرافقته إلى الصويرة بغاية شراء آلة الهجهوج،تكون هدية  استثنائية تليق بحجم الحب الذي يُكِنُّهُ لابنه، وذلك بمناسبة عيد ميلاده، لم يتردد لحظة في قبول العرض ذلك أن "العاطل [...] محروم ومستاء، هو في بحث دائم عن الحركة التي يفتقدها" (2). معا وهما في طريقهما سيُقِلَّان سائحتين من آسفي إلى موغادور؛ إحداهما ألمانية (هيرتا) قادها جنونها بأورسن ويلس إلى الرغبة في اكتشاف القلعة التي شهدت تصوير فيلمه (عطيل)، المقتبس سينوغرافياًعن مسرحية شكسبير بالعنوان ذاته، والثانية سويسرية (دانيلا) منقادة، هي الأخرى، بجنون موسيقى جيمي هندركس إلى زيارة (قصر الرمال) الذي أَلْهَمَ الفنان لِتُطْبِقَ شُهْرَتُهُ الآفاق بالأغنية التي تحمل الاسم نفسه. وبين هذه المشاريع الْمُنْتَوَاةِ والْمُعَلَّقَةِ بأهداب الأرواح المجنونة تنبثق حيوات، وتتشكَّلُ مصائر ماتعة في نزعتها البوهيمية...

لقد تَمَكُّنَ إذن زكريا الغرباوي من الحصول على هديته بمساعدة (لبيد القروي)، الموسيقي القادم من أغادير، بإيعاز من سائحة هولندية كانت ترغب في زيارة قبر حبيبها الأمازيغي بتافراوت على ظهر حمار، وبينما هما على مشارف نقطة المبتغى لَسَعَتْها عقرب، وحين استيقظت كانت قد حلمت بالصويرة. فانقادت إلى الحلم متخلية عن اللقاء الأول المحلوم به،وحلت بالمدينة لِيَتِمَّ إيقاف لبيد بتهمة اختطافها، وهنا سيكتشف اختلالها العقلي، أما هويتها الحقيقية فهي (يوديت)؛ المغنية الشهيرة التي تخلت عن زوجها وطفلتها بمراكش. بعد ذلك سيختفي زكريا الغرباوي نهائيا، دون أن يظهر له أثر، تاركا شكيب يتقلَّب على جمر الحيرة والتوجس، في أفق أن تلبَّسَتْهُ تهمة القتل جراء ائتِمانِهِ على منزل ميرام، ذاتالجسد المُبَاَّرِ في فتنة عينين لازورديين، تكونان قريبتين من قوس قزح، والذي ستعبره حياة الصديقين في نزوة أقاصي الكلام/ أقاصي الجسد.

    ببار (الحفرة) ستنتسج علاقاته مع الكثير من الرواد الغريبي الأطوار:

      ـ (باكوس الشياظمي)، الْمُسَخِّرِ ثروته للخمرة والجنس، ذاك الثمانيني الذاهب إلى الشرب بإيقاع عشريني، والكاشف عن (بَاهِهِ) لارتباطه بالأكل اليومي لقطة وعشر نحلات.

ـ (شاطر بن الحرزي) المهووس بالزمن والمتسائل بمرارة عن سبب تَعَطُّلِ الوقت بموغادور، أي عن تَعَطُّلِ ساعة البرج.

ـ (فيليب) صاحب المعطف الْمُوَرَّثِ عن الأم لصاحبه جيمي هندركس على خلفية قضاء ليلة عاصفة بالشرب والأفيون بالذيابات، المعطف المفخخ بالقصائد والأوراق النقدية.. كان فيليب يعتني بمرحاض البارللزبونات الأجنبيات دون أن تكون له نِيَّةُ الظفر بأجسادهنَّ.. ربما بسبب كونه عِنِّيناً أو لصغر قضيبه أو بسبب أزمة نفسية حادة جراء تَعَرُّضِهِ لخيانة زوجية اقترفها "بطولةً" أخوه التوأم: (إدوارد).. لم تفلح عملية القتل ولا الانتحار.. ليكون على موعد مفتوح مع إدمان الشرب والمخدرات، تاركا لندن ومتوجِّها إلى موغادور.. لذا كانت نساؤه المستدرجات إلى إقامته بدرب العلوج لإكمال السهر من نصيب مغاربة بمن فيهم أساسا لبيد القروي المُؤَثِّث لجلسات الْحَضْرَةِ والجنون، ذلك أن أَعَزَّ ما يطلب بموغادور هو تَذَوُّقُ عسيلة "غَاوْرِيَّة". 

ـ (رافن): الْمِظَلِّيُّ الأمريكي الناجي من إبادة "بَعْثِيَّة" بفضل الصياد العراقي، ادّعى بعدها اختلالا عقلياأَهَّلَهُ للعودة إلى الأم: فيكتوريا.سيتوجه هو الآخر إلى المغرب بعد أن أشير عليه بأن خطيبته بمراكش، فقادته الرحلة إلى موغادورليكتشف زواجها من المغربي إسماعيل غزالي، تَتَمَتَّنُ علاقته به على خلفية دفن الزوجة الملتبسة بشخصية سارة، والتي لقيت مصرعها على طريق الذيابات وهي تركب دراجة نارية يقودها (شعيب) أثناء تصوير فيلم (زيدون) باعتباره كاتب السيناريو، وصديق وحيد الناعوري أخ (ميرة) الذي قضى شكيب معها ليلة ماجنة رعاها أورسن ويلس المُبَجَّل، والمُتَبوَّل من قبلها على حافَّة نَصْبِهِ بالساحة التي تحمل اسمه**..

     ـ وحيد الناعوري الذي يلتبَّس أيضا بشكيب، لتجعل الرواية من شخصياتها "حلبة مجنونة لاشتباكاتالمصائر الساخرة" ص 120. هكذا سيمنح المحفل السردي المرتبط ب "ثعلب" محمد زفزاف (3) تسريدا لمسار حياة شعيب باعتباره ضِعْفَ شكيب، أي إسماعيل غزالي. إنه مرآته الذي يعكس صورته في مرآة السرد الواصفة. ص126،والمستعيدة بحكمة (الزِّنّْ) ريح صاحب (الثعلب الذي يظهر ويختفي): محمد زفزاف. إشارة ذكية إلى أن الرواية لا تقوم على مفهوم البطولة الميتافيزيقية، وإنما تتعالق الشخصيات وتتقاطع في رصد مصائرها المتداغلة، خيط أَرْيانِها في يد إسماعيل غزالي، هو من يُبَدِّدُ خيوطها بعد غزلها، فتلك صفته: غزالي، وهو من يجمعها في كُبَّةٍ ليمنحها نهايتها الأبدية، راصدا وجودها المختلف على حافَّة "اللاطمأنينة"، تلك التي تقوم على شهيق القتل والاختفاء والجنون وكل أنواع الإعاقات والمنعطفات السيكولوجية.

ثانيا: ملاحظات أولية على حافَّة الأونطية: تغريدة المدينة/ تغريبة الذات:

      عندما حللت بالمدينة، قبيل بداية العشرية الأخيرة من القرن العشرين، كنتُ حينها أتحسّس من حين لآخر، في ذوقي القرائي (الزمن الموحش) لحيدر حيدر(4)، (شارع الأميرات) لجبرا إبراهيم جبرا(5).. وروايات حنا مينة (الشمس في يوم غائم)، وأخرى في "تَفْضِيئِها"للمراسيولعالم البحار.. فكنتُ أُشْفِقُ، في غُبْنٍ شديد، على المدينة كان قد مسَّها حينما لم يَتِمَّ الاحتفاء بها بما يكفي سردا، وذلك رغم العمل الرائد لزفزاف (الثعلب الذي يظهر ويختفي)، ورغم الورود العابر لها في ذاكرة الخطيبي الموشومة(6)، لمَّا كان يزور صيفافي طفولته خالته المقيمة بالمدينة،ثم في ما بعد رغم العمل الشائق للميلودي شغموم في (المرأة والصبي).(7)...

 فكنت أقول: متى؟

    أما الآن، ومع تجربة إسماعيل غزالي الروائية هذه: (قطط مدينة الأرخبيل)، فإن صورة موغادورومشهديتَها السردية تتعزز وتتصلب، بها نَتَمَكَّنَ من مباهاة الأمم.. ونقول: إن هذه التجربة في الكتابة السردية والمجنونة لموغادورتضاهي مثيلاتها لدى حيدر في علاقته بدمشق، ولدى جبرا في علاقته بشارع الحب ببغداد، ولدى منيف في علاقته بطيبة...

ثُمَّ لم أكن أعلم بأن إدماني قراءة حنا مينة زمن الإقامة بمكناس، في بدايات ثمانينيات القرن العشرين، كان يحضّر ذهابا إلى "مدينة الرمل" والرياح العاتية على جنبات الأطلسي:موغادور، كما لم أكن أعلم بأنني حين وطِئتْ قدمايَ، أول مرة، المرفأ على خلفية تدشين وزير التربية الوطنية آنذاك: الطيب الشكيلي الثانوية التأهيلية للتعليم الأصيل، والمكان يَعْبَقُ برائحَتَيْ بيسوا وهمنغواي، أن روائيا يُدْعَى إسماعيل غزالي سيأتي ويكتب عن هذه المدينة من الداخل، من المنفلت، من الهامش ومن المسكوت عنه... لم أكن أعلم بأني وأنا أقرأ فرناندو بيسوّا في الترجمة الأنيقة للشاعر المهدي أخريف (8)، ولا، وأنا أُفْرِغُ (الشيخ والبحر) في المدينة، أو أُفْرِغُ المدينة في (الشيخ والبحر) لهمنغواي(9)، أنني أذهب إلى هذا الإرث المسِرّد للمدينة والمتوَّج بالذائقة الأدبية والجمالية الرفيعتين لشخص سَيَخْبِرُ المدينة ليس كمقروء، وإنما كفسحة تمكِّن جسد وخطو هذا الغجري، هذا المجنون: إسماعيل غزالي، من قياس هذه الفراسخ، والذي لا صلة له بالمدينة إلا كأفق للكتابة، كأفق للتخييل.. وها هو البيان يتأكد من حيث الظهور في تمجيد القطط المنتسبة إلى أرخبيل المكان..

    لقد كانت إقامتي هنا بموغادور ـ بإشارة يوري لوتمان ـ مُزْمِنَةً، دون أن تكون لي رِئَتا هذا الفذّ الأطلسي المنعوت بما لا يجعله مكتسبا لصفة الذبيح: إسماعيل،ذاهبا إلى فلسفة الرفض، هي آية الوجود التي يقرأها وَثَنِيَّةً، عنيدةً، غير منصاعة، مُتَوَثِّبَةً وقلقةً مُخَزِّنَةً لرأسمال هائل من عشق الحرية، وذلك نكاية في الجد المنحاز إلى سلطة العبرانية، إذ معك، أنت؛ إسماعيل غزالي، أيها الغجري أقول: كم هو باطل الانتساب إلى المجتمع/ الدُّوكسا، وهو ينشر دوما حبال عبوديته لقهر الإنسان ومصادرة حَقِّهِ في رؤيته الخاصة إلى الوجود، كم هي مؤسساته بليدة، مضجِرة، مقرِفة تجعل المنتسب إليها مطيعا ينفِّذ الأوامر وكأنه مُسَرْنَمٌ، فاللعنة على الوظيفة التي فَوَّتَتْ استكناه المدينة. ثُمَّ، ها أنت تعلنها حكمة منزوعة من التجربة، بأن "أغبى شيء خلقه الإنسان بعد الدين والوطن والزواج هو الوظيفة". ص150.

ثُمَّ إني لا زلت أذكر أنه في بداية التسعينيات من القرن الفائت، وفي إطار حضور مداولات البكالوريا بمراكش كنا نقلّ الحافلة التابعة لخطوط السكك الحديدية انطلاقا من فندق (الجزر)، جئت باكرا، كالعادة، قبل موعد الانطلاق المحدد في السادسة، وذلك لِأَنْعَمَ إنصاتا إلى "بوسيدون" وهو يعزف سيمفونية الوجود الخالدة، "كونشرتو" بصحبة كورالالرجّات المتكررة للموج، وكان الزمن عاشوراء. وأنا بالشطِّ احتلّ مساحتي البصرية سرب من الْقَطَا؛ ما يناهز عشرين امرأة تشعّ منهنّ الأنوثة، حيث لا ترهّل ولا دمامل ولا فسحة أفقية للجسد؛ كان القوام مقدودا وممشوقا يصعد أعلى عموديا في حال عري تامّ.. وأنا وحدي كان من السهل "انتهاكي"، ذاك الانتهاك الجميل والمتطلّب لدغدغة الحسّ.. إذ تأجّجت النداءات مصحوبة بضحكات داعرة: هيت لك.

الآن، هل يمكن لهذا الزمن الموبوء أن يفاجئك بمثل ما فعل ذاك الزمن الجميل؟

    ثم ماذا لو أن إسماعيل غزالي حلّ بالمدينة زمن الشاليهات الممتدة على طول الشَّط؟

    تجيب الرواية على هذه الأسئلة مدركة المصير المأساوي الذي تؤول إليه المدينة وهي تمشي نحو تَقَوُّضِها، وهي تمشي مسرعة نحو عَمَاهَا، دون أن تترك له شاعريةَ صنوِهِ في أمسيات الصيف البطيئة، لعله يكون فعلا "يُفَرْمِلُ" الاندفاع الشرس والمداهم للمأساوي، شأن موغادور في ذلك شأن معظم عواصم العالم يكون مدعاة لرثائها كحالة القاهرة، مدينة النحاس بالنسبة إلى صلاح عبد الصبور، وأيضا أمل دنقل وحجازي، كما نيويورك بالنسبة إلى أدونيس، وكما باريس التي بكاها كثير من شعراء فرنسا...

صور لها شغف الوجود وشاعريته في الفقر والنسيان، حيث لسان (باضَنّي)*** كتلة ضخمة محمرّة أكثر، من كثرة ضرب سقف الحلق، فعل كان به يلعن العالم في دوزنةفجائعيتهحاملا الكمان، مُوَزِّعا نحيبه على الدروب والساحات ومقاهي وبارات المدينة؟ ذاك اللسان ـ الغروتيسك الكتلة المتفاقمة احمرارا، الباعث كثيرا من الدهشة في نفس من "يرشو دمه اليأس": محمد خير الذين(10).

وها هو الخطاب هنا أقرب إلى مِرْجَلِ السُّكَّعِ أكثر، كما أنه نسخة تَهْتَبِلُ جموح الجنون لفراديس شارل بودلير، تلك (الفراديس المعلقة)(11)،التي جعلته يُصْدِرُ بيان المدينة الأول/أرجوحة بين (مواد الغياب/ مواد الحضور)، لتضمن للقارئ النزول إلى النهر الأسود للكتابة، وتقول (قطط مدينة الأرخبيل): كم هي (الثعلب الذي يظهر ويختفي)واقعية !وكم هي رواية ال (قطط...) شاهقةٌ شاعريتُها في المتخيل.

     أيُّيناعةهذه كانت من نصيب (قطط مدينة الأرخبيل) وهي تَسْتَلُّ زمن الأفياء الوارفةبالذيابات من أجل إقامة مؤقتة أدانت وصرخت في وجه السّاسة وهم يتّجهون بالعالم  نحو الإفلاس، نحو كل أنواع الجائحات،  أثمرت آثارَها الحارقةَ في كتابات الطليعة مع بيكيت ويونسكو وأداموف، كما مع كتابات السورياليين، ومع "الصعلوك" المغربي، صاحب(الثعلب الذي يظهر ويختفي)، حيث إيراده هنا في الرواية، كل مرة، بمثابة طلب استئذان للدخول إلى هذه القلعة التي دشنها زفزاف بعمله المومأ إليه، كما أثمرت في نَقْرَاتِهَجْهوجْو"ندهات" باكو الخالدة في ذاكرة ما تبقّى من جدران (دار السلطان) لا زال يرددها حجر المكان..

لقد كانت النفس أثناء الحلول بالمكانتمشي مساحاته في ذهول الأنفاس الحرّى أيضا لسعيد بنكراد المُلْقِي بظلاله على المرفأ وعلى الشراع والصّارية في زمن العاصفة من خلال عشقه لحنا مينة. لا زلت أذكر أنه في موسم 1984/ 1985 تغيّب عن دروسه برهة، وحين عاد، سألته: أين؟ قال: كنت بفرنسا. سألت: ما الذي أثار انتباهك هناك؟ أجاب: حبهم للكلاب... (وهنا نصمت، دون إتمام الجملة كانت مشدودة بهدب زمن إدانة الإمبرياليات، وذلك حتى لا يختلط الحكم بالمآل المرتبط بخلفية الرسوم وكراهيتها).

    الآن، أقول شكرا لك أيها السيميائيُّ الْقَلِقُ لَمَّا تعلّق الأمر بالكلاب فقط، وليس بالقطط.. لحيازة فسحة معها يَيْنَعُكيّانيا متخيّل القطط في مدينة الأرخبيل لإسماعيل غزالي دون التفريط في ملاحظاتك/ انطباعاتك الغميسة في النزعة الماوية.

              ثالثا: تأويلات أو أهواء مُحَنَّطَةٌ تبعثها الرواية من رماد:

تشرع رواية (قطط مدينة الأرخبيل) في سردها بمحفل هو بمثابة الذهاب إلى اعتبار مسرح الأحداث المنتوى طرحها فيه مجرد تخييل. إنه الفضاء الذي سيشهد أحداثا جليلة في رصد "أونطية" السَّكَعِ المؤثَّث بكل أسباب الغياب قصد تشكيل ذاك الحضور الواعي الذي تهندسه الحواس في إمبراطوريتها الموهوبة للمحركات الكبرى نحو صناعة ثقافية هي بمثابة تشكيل وجهة نظر خاصة إلى الوجود، وفي الآن نفسه الإعلان عن الانتساب إلى عائلة؛كل أفرادها لهم الحظّ في القلق القائم على عقيدة أن الحياة مجرد زيف وأباطيل.

      يُمْنَحُ الاستهلال إذن، باعتباره محفلا سرديا، لما كان استهلالا أيضا في الوجود حين كان أولا غمرا(12)؛ إنه ما يرتبط به كمقدمة منتسبة إلى كل نزعة بابلية في الرمل وفي الملوحة غير المُتَصلبة في الانتواء خطيئة، نكاية في معشوقة لوط. هو الشاطئ، مقدمة البحر وبَلَلُهُ المذكِّر بلحظة الخروج للتو من الحمام(13)، ذلك أن للبحر رائحة الإيروتيك(14). وحيث الذات منذورة للطبيعي الحافّ في مشهد الشاطئ ذي الوظيفة الاحتوائية،وحيث للعري كامل الإيحاء للدلالة على أن الذات تبدأ حياتها به.. في فضاء له صلة التأكيد على الدلالة الرَّحِمِيَّةِ للعالم: الماء، وحيث الطبيعة موهوبة في كل تجسداتها المقتصدة لأي زحف عَلاميـ من العلامة ـ أي لما هو ثقافي مدين في مرجعيته لثقافة الدوكسا. هنا الشاطئ يُوهَبُفُسْحَةً بصريةً وجسدية، وهنا زعيق الطيور باعتبارها سيدة المكان ومهندسة سمعه: (عوّا)، وهنا العري... والذعر كحالة سيكولوجية غريزية يقترفها الإنسان أثناء سقطته الوجودية الأولى.. صنو عمل الأم وهي تقذف به مخاضا من فردوسه الرامز إلى الثيولوجي، يكون حنينايجترحه الإنسان خطابا للتقليل من فداحة الألم، به يعيش على حافّة البيكيتية ـ نسبة إلى صامويل بيكيت ـ، أي على إيقاع الانتظار الذي يأتي ولن يأتي.

      هنا يجد السارد نفسه موهوبا لعناصر الوجود في الرمل والماء والزعيق أي الهواء... يتلقّاها باعتبارها عناصر محددة له، دون أن يختارها ولا أن يشكّلها؛ إنه في لحظة عري، معها يكتمل مشهد المرحلة الآدمية بحضور عنصر المرأة.. وحيث آدم معلق بأهدابها الأنثوية المحددة في الصوت المكتسب لصفاته المؤجِّجة لنداءات الأقاصي؛ كان مؤرِّقا ولاسعا ومعسولا.

     وعلى عكس بدايته (هو) والمحددة في فعل اليقظة كدليل على غياب سابق، كأنها مرحلة البياض المشدودة إلى "الفراديس المعلقة"، تكون بدايتها (هي) عبارة عن جزاء ـ sanctionـ (15)، فيه تصحيح للرؤية إلى العالم، حيث معرفتها به مبنية على تذوّق الشعر، لتجنح معه إلى معرفة مبنية على التجربة، متخفِّفة من ثقل السابق كأنها الأدرانُ الْمُنَشَّاةُ: (لشدّ ما خدعتني القصائد ! بل خدعني الشعراء !) ص5.

    نحن إذن أمام استهلال سردي يؤكد على دلالة حضور الطرفين؛ في صيغة المذكر وفي صيغة المؤنث، اقترن حوار كل منهما بضمير الشخص المحدد في صيغة المتكلم.. ولا مجال لاقتسام التجربة، أي لا أحابيل ينسجها الخطاب ليجعل المتلقي طرفا معتقدا بسكناه في هذا العري وفي هذا الهباء من ماء ومن رمل.. إنها تجربته (هو)، وإنها تجربتها (هي) وقد أعلنت عن حركة تصحيحية تأخذ بتلابيب الوجود من باب "البراكسيس" وتدير الظهر للوجود الموهوب من قبل الخطاب، إدانة مُبَطَّنَةٌ للثقافة العربية المدينة بكامل وجودها للسماع، أي ثقافة الأذن، حددت هنا في مجال الشعر والشعراء...

    وكأنها تقول: إن الخيال الذي تهبه لفافة الحشيش لاهب لأنه حقيقي، وخيال الشعر فاتر، وكأن خيال الشعر في الحاجة إلى "المُحرِّكات، إن حالة المبدع لا تجعل المتلقي غميسا في تجربته،وحدها الأيام وتبدلات العمر تتكفّل بتلك الزحزحة، لذا كانت المعرفةُ/ الإحساسُ اللذان يمنحهما الشعر "زيف".. إنها حقيقة مبنية على الوهم.

     يستمر (هو) في البحث عن صورة يجلّي بها وجوده في علاقته بها (هي)، تلك العلاقة المبنية على الإيروتيك، صلاة وابتهال أمام معبدها الضّاجّبالإغواء، حيث النداءات اللذيذة للنهدين النافرين، تلك النُّتُوءَاتُ الذكورية الملتبسة والفاتنة بخجلها؛ إنه سفر أفقي له سيرة الذكر في الوجود كما في النفس الممسوسة ببنيوية الإغواء العاهلةبالنرسيسية، إعادة اكتشاف الذات في اللااكتمال، أو في السيمولاكر... أما هي فتستمر في تشكيل رؤاها إلى الوجود وقد بنيت على التحولات المذهلة في تمثّل عناصره؛ من فقدان الثقة في الشعر والشعراء، إلى اكتشاف بشاعة وقذارة النوارس.

   لابدّ أن يكون آدم قد أُنْجِزَ في حَقِّهِ فعلُ الهبوط ليلا، لأنه اكتشف عُرْيَهُ نهارا، فاكتشاف العري لا يكون بالليل، إنه دثار.. محاكاة سيستسيغها فعل اكتشاف المتعلقات من: حقيبة الظهر، البنطال.. والفراغ التام إلّاهما، كانا غميسين حتى التلابيب في جحيم الشهوة وعاصفتها.. إعلان أكيد بأن الحياة لا تستقيم مع المرأة، أي مع الطبيعة إلا بالحضن، بالعناق.. باعتباره سقوطا عموديا متبوعا بحالة أفقية مشفوعة بالتوغّل العمودي.. تلك هي نداءات "الخطيئة" أو "المواضعة" سيان، مادام الأمر مجرد تسميات ماكرة تخلقها الذات للحد من فداحة السؤال الحارق والمؤسس لأي صلة ناسفة/ مشككة.. قد يكون وسيلة في إنجاز العودة العوليسية الرامزة إلى الفردوس عبر طَرْقِ بوابة مهبط الوجدان أو منحدر الليل، حسب تعبير محمود درويش، فيه تذكير بالأم، تماما كما أن الثقب المحدث في مركز المساحة الدائرية للخبزة يذكره بالفعل إيّاه الذي كانت تحدثه الأم كلما همّ بولوج الحانة العتيدة عبر الزقاق الخلفي المفضي إليها، وقد تسمّت بذاك الإطلاق العاهل ببؤرة الأنوثة المفضي بدوره إلى مصنع الخلق، وُلُوجٌ يبدأ بمحاذاة النار المنبعثة من الْفُرْن...

     هكذا تُحقق الرواية كثافة في المتخيل عبر تلك اللقاءات غير المتوقعة بين جسدين حين تمنح تَدَفُّقَ لغة الحواس الممهورة بالشاعرية وقد هندستها الدهشة اللانهائية في اكتشاف أرخبيلات الجسد، أي في اكتشاف السحر المنفلت مجسَّدا في بلاغات الجسد؛ ذاك الدال الذي يحمل على السفر الحُلْمي، والذي ينتج خطابا هو عبارة عن دال لغوي له كل احتمالات الإغواء ودوخة تلك النداءات الحارقة على حافَّة المتاهي.. المحفوفة بالإحساس المغترب صِنْوِ تأمُّلِ باطايللأورغازم.. حالة من حنين العودة إلى الرحم المدجَّج بكامل القلق تُّجاهَ استشعار الموت.. وهو ما يبرر الاندساس بين ساقَيْ ميرام لانتزاع لحظة حياة مدينة لِأَلَقِ جمال اللوحة المنذورة مساحتها لعيون القطط المتناقضة الوضع؛ تلك اللازوردية في استعادة الإحساس بالنرجسية، فيه نوع من المديح لِعَيْنَيْ الذات، وأخرى لعيون مُنَفِّرة مرعبة في ذهابها إلى مأساة إحدى عَيْنَيْ (إدمون) المفقوءة.. أما زكريا الغرباوي، رفيقه في الرحلة من الرباط إلى موغادور، فيندسُّ، هو الآخر، بين الساقين ذاتهما ليعانق الموت الموهوب في همود العالم واستراحته الأبدية.. ذاك هو الجنس؛ مسار يمنح الحياة والموت في الآن نفسه، أثناء كل طقس مضاجعة. إن (قطط مدينة الأرخبيل) رواية الحلم الممتد بين الحياة والموت، يكون معادلها، في انتواءباطاي، إيروسا (16).

     بهذا الصنيع يحتفي الروائي بالمرأة، قالبا ثيولوجيا البدء، ومانحا إيّاها الأولوية، فهي مصدر الانبثاق وليس أبدا العكس، لذا يعلن عن هويتها محددة في (هيرتا) سليلة نهر الراين..

وعليه، لا يمكن أن تكون حواء اسما، أي علامة اعتباطية، إنها صفة مشدودة إلى أَنُومَاطُوبْيَةِ الاحتكاك وهسيس اللذة (17)، على عكس (هيرتا) اسم علم مخفَّف له رشاقة الغزال نطقا، وفي قلبٍ/ تشذيبٍإيتيمولوجيٍّ في ذاكرة العربية تكون (هِرَّةً)، وهيرتا تصعد (أَلِفُهَا) إلى السماء ب "رشاقة أكروباط".. لها عليه كل سلطة الافتتان، إذ في الوقت الذي تقف فيه هي مفتتنة بالوجود ومعللة التحولات التي طرأت عليها على مستوى التَّمثُّل والذوق؛ حين كفرت بجمال نوارس القصائد وآمنت ببشاعتها جراء حلولها بإمبراطوريتها: موغادور، المكان الموهوب لملوحة البحر ورطوبته، وللرياح وللنوارس.. لذا قضت التجربة أن تعيشها على علِّاتها محددة في العُرْيِ ومترجمة في تلك الرغبة الجامحة سِباحة بكامل العُري باتّجاه أرخبيل المدينة، نحو تلك الجزر السبع، فعلٌ يحمل فعلَ افتضاض الْمَحْمِيِّ والمَصون والمُنْجَرِّ إلى الفعل إيَّاهُ الذي يحدثه المجتمع التقليدي في المرأة "تَحْرَازاً"؛أبيسيةٌ مكرسة ٌمن قبل السلطة.. وهنا تنشأ المفارقة، إذ بقدر تَوْقِهَا (هي) إلى مُكَوِّنِ الماء وكَلَفِها به، بقدر توقه (هو) إلى مكون النار؛ وكأن العالم في جهة الفردوس موهوب للغربي، وفي جهة الجحيم يكون من نصيب الشرقي، توزيع ثنائي يذهب إلى انتواء (دانتي) كاشطا مساحة (المطهر)، ولا انتظار، ولا منزلة بين المنزلتين، جحيم أو فردوس فقط. كل ذلك ثاوٍ في التأويل الأسطوري بالرغم من أن أنطولوجيا الماء في الانحدار، على عكس النار فلها وجودها في السمو.. هكذا تنزل (هي) إلى الماء لتطفئ حرائق الجسد المسكون بالنداءات والصَّبَابَاتِ، ويُشْعِلُ(هو) سيجارته ليضرم فيه كل أنواع الحرائق ولِيُجْهِزَ على ما تبقّى من أثر الشموس المحرقة لشهور الأزمنة "الآبية" الكثيفة الحرّ والقائظة، أثرا/ وشما على الروح والجسد، والمُتَوْأَمَةِ، في الغالب، ب (الخمّاسين) تلك العاهلةبسردية غالب هلسا (18).. لذا ليس غريبا أن يصدر عن هذه الجهة كل الأفعال "الشّائنة" التي يقترفها الإنسان كرد فعل تُّجاَهَ عنف الوجود، كالاختفاء والجنون والانتحار والقتل.. وإِنْ سَلِمَ من كل ذلك فإن نصيبه وافر من الأحلام الكابوسية كحالة السارد الذي يستحمّ في الْعَرَقِ كل مرة أسلم روحه للنوم، فَزَعٌ يَقُضُّهُ أمام الحضور المرعب ل (حاييم بينتو).. موهوبا من شرفة المقبرة اليهودية؛ هي أحلام، في الغالب، تكون منتزعة من المقروء، كدليل قاطع على درجة التفاعل العالية مع المتخيل في النصوص تماما كما حالُ وَهْمِ تَحَمُّلِ مسؤوليته أمام قتل إليونور (ابنة جلالة ملك البرتغال: مانويل الأول) ص9، الْتِبَاسٌ في التهمة هو صِنْوُ الْتِبَاسِ علميةِ الأميرة البرتغالية باسمية الطائر المحترف للهجرة.

صنيع يؤكد على عادة مالارمي بأن (العالمُ وُجِدَ كي ينتهي في كتاب)، أو هو أيضا صنيعٌعلى عادة أميغو الأرجنتين: بورخيس،الذي يؤكد على أن كل الأشياء منتزعة من الكتب (19).. حالة هي بمثابة عقيدته في الكتابة تترجم دَيْدَنَه ُفي خلق هذا الاستمرار وهذا الحوار بين الكتب باعتبارها حياة لانهائية، نافيا كل أُبُوَّةٍ يمكن الادّعاء بأنها تَصْدُرُ عن جهة محددة، وأن الكتاب الكوني الذي يُسْهِمُ في كتابته الجميع هو كتاب من رمل، كتاب لانهائي، كأنه كتاب هذا الافتراض المتخَلِّق من "شبكة العنكبوت".

    أيّ غنى هذا في الأحاسيس الذي تبدأ به رواية (قطط مدينة الأرخبيل)،مُحْتَفِرَةً نسقَ أسئلةٍ بها تقترب من الوجود وتُعَلِّلُه، باحثة عن معنى لوجود الذات ضمن عناصره.. مفسحة المجال أمام نداءات الجسد وغواياته، وفي الآن نفسه أمام كوابيسه الملصِقة به تهمة القتل.. حيث اختزال فعله في ضحاياه من النساء، وهو ردّ فعل سيكولوجي يترجم تمجيده للمرأة مُفْرَغاً في الْحُلْمِوعبر الكشف عن تلك الرغبة الرمزية المكبوتة في اللاشعور.. والتي قد تكون هنا لاـ رغبة.. اللهمّ إلا إذا كان الفعل يتمّ ترجمته بالحياة في الكتابة وبها رمزيا، والمتعثّرة في الإبادات الثقافية المتنكِّرة مكرا للمرأة..

في المحفل السردي الثاني****: (الحفرة) يشرع الروائي في الاحتفاء بالمدينة عبر إعادة رسمها كتابة، وتحديد الأسماء الموهوبة لأبوابها في حساسياتها المختلفة الراكنةإلى الجغرافيات أو "الْجِهِيّات"؛ (باب مراكش، باب دكالة، باب المرسى أو باب البحر، باب لعشور...)، أو حتى تلك المرتبطة بالحساسية التاريخية المتخمة بالرهبة والخوف في إطلاق: (باب السبع) على أحد أبوابها، باب يتمترس ضدّ كل انزلاق قد يكون (حَرْكَةً) أو (سِيبَة)..

    تَهَبُموغادور نفسَها للريح وللبحر وللنوارس إذن؛ الأولى تعوي أو تولول، والثاني يَنْشُج ُحين يَلْفُظ ُ أدواءه من البلعوم، والثالثة تَزْعَقُ أو تُوَقْوِقُ أو تُقَوْقِوُ... حيث هذه الأخيرة جعلته يخصّها بمعجم غني في إضجار الوجود وتعفينه..ولموغادور "مطبخها السري"؛ منه تندلق المعرفة الشاملة والدقيقة الفاضحة عتْمتَها والْتِباسَها.. حيث الكشفُ عن دخيرةذاك المطبخ السري للمدينة يصادركل أنواع الغبوق والعتمةالْيَجْعَلُها منفلتةً ومستعصية على الفهم. ليس هذا المطبخ السري إلا حانة يُكَنَّى عنها (الحفرة) في رمزية الترسُّب والإقامة الْغُفْلِ وصرة الوجدان وتنّور الخبز ومهبط الوجود.. وهلمّ جرّا حسب ما يجود به الكشف الرمزي لإواليات نفسية تبحث عن ظلالها الخاصة في علامات الوجود.. وكأن الحفرة في أحد معانيها الذاهبة إلى دلالة التَّرَسُّبِ قياسا إلى طبيعة المدينة عبارة عن درب لا يفضي إلى أي شيء.. درب لا أفق له.. إنه درب مسدود، من هنا اعْتَبَرَموغادور "[...] متاهة سجون، يفضي بعضها إلى بعض دون مخرج" ص201، وهي مدينة الدُّوّار: "أدور وتدور بي موغادور" ص196، هي مدينة توهمك بأنها تختزل العالم فتورِّطك في عدم البحث عنه، مادام هو ثاوٍ: "في موغادور، العالم يأتي إليك" ص159. تلك هي مرآتُها وصنوُها في الوجود المضيف مسحة من الغموض على المكان، أساسه الدوّار والدوخة التي يمكن أن تَحْدُثَجراء زعقة النوارس ووَلْوَلَةِ الريح ونشيج البحر، "[...] موغادور، إذن، زوابع رملية، زعيق نوارس لئيمة، رياحالمحيط العاتية، شمس طفيفة [...] ص223. هكذا فبؤرتها المتمثّلة في الحفرة ذات الكيمياءالباخوسية تختزل وتمتصّ عناصر الوجود، أُسْطُقْسَاتِهِ، في كبسولة معتصرة كإسفنجة..

وموغادور مدينة الأوهام، لذا تظل مُتَطَلِّبَةً لإنعاش الذاكرة عبر التَّخَفُّفِ من الكوابيس، هو ما يجعله ينعتها بجزيرة عزلاء، وأنها "حافة من حافات العالم التي ينبت في صخرتها عشب النسيان". ص313.وبالنتيجة، فإنه يعتبرها "مدينة موت مضاعف". ص313.وقد اعتبرت كذلك لأن جغرافياها تجعل منهاممرّاً لا يفضي إلى شيء.. إنها موطن الترسبات بالمفهوم الجيولوجي للثقافة والقيم.. ـ كما تمت الإشارة ـ  قد تبدو منفتحة باعتبارها مَحَجّاً للسياحة العالمية، لكنها في العمق مدينة منغلقة تحافظ على عاداتها وتقاليدها وقيمها الثقافية، وهو ما يفسر استنبات الضَّلال المسكوت عنه والمُمارس في العتمة بعيدا عن البوح والمكاشفة والجهر.. كما حال اللواط، ظاهرة لا تستفحل إلا في المجتمعات المنغلقة المنذورة لثقافة مبنية على إعادة الإنتاج بحكم الدماء الموحَّدة المترجمة في فعل التزاوج الذي يَقِلُّ ويضيق ويُضْعِفُ النمو الديموغرافي ويقتل الاختلاف فلا تُضَخُّ أي حياة جديدة في الدماء، فقط تتكاثر فيه العاهات، مكان له إحدى صفات (الفرسيوي)، بطل رواية (جنوب الروح) لمحمد الأشعري.

     إن دماء السكان المحليين داغلة في صفاء العِرْقِ المُمَجِّدِ لنوسطالجيا العهد العبراني المكتوب تاريخيا في إطار "التسامح"، ولتلك الجوهرانيةالمنذورة للزرقة.. ذات النزوع المتوسطي، أما بالنسبة إلى الروائي فالأمر موقوف على طبيعتها الشبحية؛ فهي "مدينة أشباح". ص313. وكأنه يتلو وصيته الأخيرة على كل مُقِيمٍ بين ظهرانيها: لا تَعْتَقِدْ بأنك تحيا وأنت المقيم بالمدينة، فأنت ملعوب بك بموتها الماكر، إنك مُوَرَّطٌ في مسخك المتنورس، والذي يختزلك في عقيدة الركود مقتنعا بأن لا جدوى من السفر ما دام العالم يَحُجُّ إليك.

    وبقدر ما تبدو المدينة من أجمل مدن العالم؛ كأنها مدينة المدن في ذهابها ثيولوجيا إلى "نشيد الأناشيد"، فإنه يمكنك أن تتخيّل فيها أجملَ النساء وأَبْهاهُنّ باعتبارهِنَّ تجميعا واختزالا للأنثوية المندلقة في الجغرافيات ومنها.. وبالنتيجة، فهل موغادور حقيقة أم سراب؟ هل هي واقع أم متخيّل؟

في رواية (قطط مدينة الأرخبيل)، وللإشارة، فإن العنوان مفعم بالشاعرية، له سحره وغموضه في ما يرتبط بالضباب، كان لصيق (الأرخبيل)، وأيضا الألفة والنعومة المُدَغْدِغَتانِ للحس في (القطط)، صيغة لها كامل التكوين طباقا، في هذه الرواية إذن، يكون الجواب ناجزا ونهائيا: "[...] كل شيء متخيل في موغادور" ص14. وانطلاقا من التدافع اللافت في (الحفرة) من قبل كل حساسيات المجتمع بالمدينة من بحّارة وحرفيين وسبّاكة وسماسرة وفنانين وشواذ ومشردين ومتشردين وسيّاح وقوّادين.. ص14، فإن موغادورتكون واقعا.. في إشارة إلى الحلكة، إلى الانتحار الرمزي، إلى التهميش الممنهج وإلى طبقات المجتمع السفلي كان لها صدى مكين في الهاديس وفي دويّ سقطته.

ووسط لغط حانة (الحفرة) ودخان فضائها الكثيف أيضا.. تبدو السائحات جميلات وهنّ يؤثِّثْنَ المكان، وكأنهن بالطريقة "الميثية"ـ mythique ـ إِلَهَاتٍ يَسْرِقْنَ وَهَجَ النار ويَمْنَحْنَهُ للسابلة رأفة وفرحا بالذات حين تغني قدومها من "جنائن الغرب المعلقة".. (الحفرة)موقع له سحر محاكاة تعبيرية يذهب إلى متخَيَّل شارل بودلير في: (الفراديس المصطنعة)، أول بيان في تاريخ الكتابة عن الحشيش والأفيون،(20).. وهو العنوان المختزل في توصيفه الدقيق لمآلات حالات الثمالة بالحفرة، في استعادة حقيقية لمجد فلسفة الرفض والاحتجاج الحرّيف المشدود إلى آخر قطرة في دماء أوردة الهيبيين.

     ويؤكد السارد على أن العلاقة بالأمكنة نفسية، تُضَعِّفُ صبيبَها الواقعي وتمنحه تفسيرا مبنيا على حالة من الْمَسِّ والجنون؛ هناك ابتهاج لا يُفَسَّرُ بالحفرة، ابتهاج مُوَرَّثٌ في ذاكرات من عبروا المكان وتركوا أنواع الروائح من عطن، سجائر، قِنَّب هندي، حشيش.. إلى رائحة البول والخراء.. وروائح الندامى المختلفة والمتكاثرة والمنحازة إلى الهويات المخصوصة والمجرورة إلى الصراع ومَرْكَزَةِ الذات حول العالم.. قد يكون لمفعول الأفيون والخمور سحرها في رسم الوداعة والحِلْمِ واجتراح الرقة الإنسانية على أرض الواقع، حالة يتمُّ تأكيدها بالبذاءة والعنف في الخطاب المجترح لِرِقَّةٍ ثاوية.

    أمام هذا الخليط المارق يَسْتَلُّ الروائي شخصية لها نصيبها من الواقع بالصورة والصفة ليبني لجمله السردية أعشاشها كلقالق تَحُطُّ على الرأس المائلة ل (باكوس الشياظمي)، المفلس بعد عهد مليونيري بائد، مسخِّرا ثروته في سبيل الشرب والجنس، دون اعتبار ذلك معضلة وجودية، صارفا النظر إلى أن الْمَطَبَّ يكمن فقط في تَقَدُّمِهِ في السن، فهو ثمانيني ويشرب بنهم بإيقاع فتى عشريني، وذلك بفضل الْتِهَامِهِ يوميا لِقِطَّةٍ وعشر نحلات. ص15/ 16.

    قد تكون هذه الحيوات الملفِّعة لشخصيات الرواية بهذااللامنطق الفادح واقعا فوق الواقع، يجعله سورياليا منذورا للأحلام؛ فالسائحة الهولندية وهي تعتزم إنجاز رحلة إلى تافراوت على ظهر حمار، يلدغها عقرب وبعد استفاقتها تقرر التَّوَجُّهَ إلى الصويرة بإيعاز من حلم رأت فيه حبيبها يطالبها بتنفيد هذه الرحلة، وهنا بموغادور سيكتشف القارئ بأنها مختلَّة عقلياـ كما سبقت الإشارة ـ ليكون المكان بمثابة قَعْرٍ تترسَّب فيه الكائنات دون أي فكاك، كأنه معتقل. وكأن المنعطفات الخطيرة والملتبسة التي قطعتها الشخصيات ليست اختيارا،وإنما هي ضرورة وإلزام؛ قد تأتي بحكم التربية المترعة على سوء التفاهم بين الآباء والأمهات.. وقد يكون أساسها مرتبطا بالسياسة العامة في علاقتها باختيارات الدولة الغميسة في النزعة الكولونيالية.. كالدفع ب (فيليب) الأخ التوأم لإدوارد إلى المشاركة في الحملة المظلية على العراق.. أو لعلها في اتصال بنزعة نفسية مشدودة، لاوعيا، إلى عقدة أوديب، فتصبح سلوكات الذات اليومية كأنها تصاريف الْمُسَرْنَم.

    لذا، فإن الروائي لم يَتَوَانَ عن تفريع المرجعية النفسية كلبوسات تخص مواصفات الشخصية، والتي تؤهلها للاضطلاع ببرنامجها السردي، كحالة (رافن) الواقع في عشق (ديانا) لارتباطها بعالم الموسيقى من جهة، ولكونها تختزل الأم في مساحة العينين. إن العلاقة بالأم هي البوابة الحقيقية للذهاب إلى الأنثى، يقول: "اسمها "ديانا" وعيناها من عيني أمي فيكتوريا... عَلِقْتُ بها أو أحببتها منذ أول لقاء [...]" ص292.

   ثم يؤكد حالة الاستنساخ في الحيوات بالمقارنة مع علاقة أبيه بأمه، وعلاقته هو بديانا، يقول: "[...] وكما حدث مع حارس عجلة لندن، إذ كان ما يحفظه من شعر"تيد هيوز" هو الطريق المختصر إلى قلب أمي، كانت قصائدي الغنائية هي الطريق الموجز إلى قلب "ديانا".. آل غرام علاقتنا إلى زواج بعد أن انتفخت بطنها [..] ". ص293. بل أكثر من ذلك، ذلك أن المهمة التي أُنِيطَ بها في بار الحفرة، بتمكينه من مفاتيح المرحاض يفتحه للأجنبيات، يجعله يستشعر وكأنه يفتح بابه لأمه فيكتوريا، يقول: "[...] إنني لا أفتح الباب إلا لامرأة واحدة في الواقع، هي أمي "فيكتوريا"، التي ماتزال روحها تسكن بار الحفرة، فأرى طيفها يلبس الزائرات، وبخاصة من يلمع في عيونهن برقٌ من عينيْ أمي اللَّاأجمل إطلاقا...)". ص295.     

هكذا تقوم رواية (قطط مدينة الأرخبيل) على شخوص ممسوسة، حائرة، قلقة وقائمة على حافّة الجنون.. حالة تجعلها تدرك بأن موغادور لا تأخذ حصّة نومها إلا وهي ثملة؛ سيرة متعددة خَطَّهَا إسماعيل غزالي بِرُمُوشِ العين حتى تَقَرَّحَ الجفنان من فرط "المحركات" ـ catalyseurs ـ والتحديق في العالم، وكأن كتابته على مقاس نَظْمِ اللؤلؤفي استعادةنباهة بشّار بن برد، واستعارة مطرقة الألماني، ضاربا بِعُنْفٍ الْأَصْداغَ ومقتفيا أثر العاهلين والجديرين بإضرام النار، "أبُوَّة" من طراز: محمد زفزاف، التارك ريحه في المكان والناسل متخيّله في  عامل ـ Actant ـ (الثعلب)؛ ظاهراً ومختفياً والمستمر في نوع من التوليد لشخصية شعيب، صاحب الذيل الذي يظهر حينما تكون أعلى قمم احتياله: الشهوة.. ويختفي حينما تصبح إنسانيته مزمنة في انشدادها إلى حالة الطين آثاره باقية تحت الجلد، وهو القادم من تخوم (بْلادْاحْمرْ)، دابغةً سُحْنَتَهُ، مانحةًإيّاه هوية الخزّاف الضّائع في مراقي الجنون والضلال بعد أن أَعْيَاهُ البحثُ عن وظيفة/ عن حبلٍلشنق حريته والإقرار بالاستعباد الإرادي. ويأتي ذكر محمد زفزاف في هذه الرواية غير ما مرة، وكأن إسماعيل غزالي يُضَعِّفُ من منسوب الجنون ولفحات رياح البوهيميا، بتأكيد "أثر" زفزاف في هندسة روايته ب:

      ـ اكتشاف المدينة ـ المتاهة.

      ـ الإقامة بالمدينة على حافَّة الغياب بتعاطي "محركاته" من موسيقى وسكر وحشيش وكيف وغيطة.

      ـ الكتابة بأحلام اليقظة، خاصية سيجعلها إسماعيل غزالي حلما خالصا.

      ـ التَّلَبُّسُ المتوجِّس بعمليات قتل غامضة.

    وفي حالة من التقعير ـ Mise en abime ـ السردي تنبثق الحكايا في تشابك واندغال وكأنه يهب القارئ جُذْموراً؛ كتابة متاهية، حيث كل شخصية إلا وتقف على حكايتها الخاصة، لكن المتواشجة مع حكايات باقي الشخصيات الأخرى ومفضية إليها، حكايا تعنيها، حين كان لها النصيب الأوفر من الحالة النفسية المتفاقمة من الإحباط والقلق.. حالة، في الغالب، يتمّ تصريفها بواسطة الحلم لجعل الحياة مستقيمة في إطار العلاقة بالآخرين.. ولجعل الحكاية/ الإطار مستقيمة أيضا، منها يسلّ السارد خيوطها تأويلا، حدودا وتعريفات بطريقة متاهية كأنها تحتفي باللانهائي الموقور في العرائس الصينية أو في علبة البندورة، يمدّها على شكل معارف جمالية منزوعة من السينما، المسرح، التشكيل، التاريخ والفلسفة..

    وأنت تقرأ (قطط مدينة الأرخبيل) تنتبه إلى أنك بموغادور، وأنت المقيم واقعيا بها،إحساس يُوهَبُ لك وكأنك ممتد في الأبدية، أي الجحيم، رواية هي بمثابة إعادة اكتشاف بعين وجودية حرّيفة كانت هبة التجربة، وقد اكتشفتُ بأني لم أكن أَفْهَمُ المدينة إلا بعد أن قرأتُ الرواية، وكأن الواقع يصبح مفهوما حينما يتحول إلى خطاب مكتوب، على اعتبار أن الواقع أعقد من الرواية، الخطاب منضود ومفارق وخالق لمسافة متطلبة للفهم، لذا عملت الرواية على تغييري، من هنا اعْتُبِرَتْ عملا يُعَوَّلُ عليه، ذلك أن أصالة الكتابة تُنْتَزَعُ من قدرتها على تغيير القارئ، ورواية إسماعيل غزالي تُغَيِّرُ قارئها وتحتفظ لنفسها بمديح ابن عربي لأنثوية علامات الوجود هي واحدة منها؛ فالراوي، أي شكيب، يعتبر جوّابا للأمكنة والآفاق، وكاشفا عن غَلَسِ الدهاليز وعَتْمَتِها.. ومغامرا بارتياد المجاهل بالقرب من أعشاش الصقور، وبُيُوضِعُوّا، وجُحُورِ الزواحف... أما الْجُرُفُ فكانت المآوي من انزلاقات النفس وارتياد المهاوي السحيقة إيقاعُها يحاكي طَقْطَقَاتِ حرائق الأشجار. وموغادورفضلا عن ذلك تجود بلقاءات يعزّ عنها أي موطن ما من العالم؛ إذ لها استثنائيتها الظافرة بفتنة الوجود لحظة الغروب.. حيث وداع الشمس مبعثٌ حقيقيٌّإلى العناق وتحريضٌ عليهوتقليلٌ من فداحة اليتم الذي يمنحه غياب تلك "المحبرة السحرية"؛المعدنُالأصيلُ الذي يُلْهِمَ الفرشاةَ ألوانَها،والمنطرحة على رقعة اللوحة مِزَقاً نفسيةً وقلقاً وجودياً، ص47، على حد تعبير ميرام المهووسة بِذَهَبِ الشرق، الْقَدْ يَكُونُ في تَمَثُّلٍ ما عَيْنَ الله الجاحظة من كثرة التحديق في الآلام و"الآثام"، أما السارد/ (شكيب)، فإنه تستبدّ به العيون الزمردية أو اللازوردية، تلك العيون الممتلكة لسحر الغموض واللانهائي، والذي يكون مبعثا لنسيان العالم في محدوديته وفي ضفافه النهائية، كأنها صعقة تُتْلِفُ الخطو وتُجْفِلُ النوم من رمش العين.. هي فاتحة جنون نحو سيّاحة صوفية مجنونة لا يُوقِفُ غلواءَجموحِها الضّالّ إلا لُفَافَةُ حشيش أو كأسٌ عالية الصهيل تكون مُدْعَاةً لِنَقْلِ تَمَثُّلِ الصعقة موضوعيا إلى حالة من الانكفاء والغياب المدسوسة ظلمتُه في دهاليز النفس، يقول السارد:

"فلا غموض أفدح من غموض عيونهنّ، ولا غرابة تفوق أو تضاهي إبهام مقلهنّ. ولا شساعة أرحب من لانهائية أزرق أو أخضر أو عسل أحداقهنّ. ولا عوالم أو حيوات أفتن من استيهامات وأغوار ما بين رموشهنّ من سحر، ما هو باشتباك غابات داغلة، ولا تماوج بحور عاتية، ولا امتداد سماوات مهولة... هو، هو، نفسه كما هو، جمال صاعق لا مسمّى، عصيّ على اللغة، ممتنع على الشعر، هارب باستمرار من إطباقة المعاجم كيفما نبغت في تعداد أنسابه وظلاله، يبقى سرابا يتسرّب مسربة، سروبا وأسرابا...". ص47.

    لا افتتان إذن أمام غروب الشمس مقارنة بالافتتان الكاسح والكاشط للتوازن في حضرة سحر العيون، فقط أن ذلك يتمّ أثناء الغياب؛ إذ سيتذوّق فتنة الأفق حين غابت ميرام في اليوم التالي، حالة تكتنف ريحَ التوحيدي في الإقرار بأن الغريب يتأكّد حضوره أثناء الغياب.. هكذا تصبح الشمس تعويضا عن فتنة عيني ميرام، ليدرك بأنها تَشِعُّ غابةً من الألوان، وأنها "مضرّجة بنبيذ العنب، أو مخضّبة بدم الغزال..." ص47. حالة تؤكد العبارة المفجِّرة لأهواء العاهلين بدفقة التأمّل المكين: "غابت "ميرام"، وأشرقتألوانها في مخيّلتي" ص47، ولتكتمل صورة فتنة هذه الإمساكة السردية يُسْلِمُها إلى ما عُدّ زمنا برزخيا، زمن السديم المنطوي على كثير من الغموض والأسرار، هي لحظة انسلاخ الزمن منوضوحه الفاضح والغبي، متلبِّساٌ ستائره المعتمة، ذاهبا بتؤدة النّوطة الطالعة من الكيان إلى بُهُوتِ الضوء.. وحيث المدينة إمبراطورية من السحر والغنى في التوقيع الموسيقي لأغنية الوجود مؤدية كونشرتوها (عوّا) بزعيقها وعوائها.. مصحوبا بصخب البحر.. وحيث المشهد في هيأة وقوف كورالي متخشّع لإحدى المسرحيات الأصيلة في ذاكرة المسرح اليوناني قد تكون ليوريديس أو سوفوكليس أو أسخيلوس أو هم معا مجتمعين يُقدِّمون مشهدا من الآلام ومن جراح الإنسانية في حزمة عِصِيٍّ جرّاء فعل الهبوط الضّارب أتونه في العنجهيةللّااختياروللّاإرادة.. وكأن جميع المدن الساحرة "يَجْتَمِعْنَ لِيَخْتَرْنَ [للمفتون] أنبلَ القاتلات".

والمدينة، فضلا على ذلك، لا تصيب سكانها القلقين بالجنون فقط، بل هي تَشِمُهُمْ، تَدْبَغُهُمْ بلون الأسوار، كأنها تعيد تسميتهم وتُثَبِّتُ هويتهم في الانتساب إلى هذا الفضاء بالاندغالوالاند

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم