بقلم: الدكتور حمد حاجي - تونس

تصدير
ا=========

"السينما ذاتها ممارسة جديدة للصور و الإشارات، حيث على الفلسفة أن تصوغ لها النظرية ،كممارسة مفهومية ، ذلك لأنه ما من تحديد تقني أو تطبيقي( تحليل نفسي ، لساني) أو إنعكاسي يكفي لتشكيل المفاهيم عن السينما ذاتها"
جيل دلوز


قبل البدء
ا==========

في هذه الدراسة سأسلط الضوء على العالم المرآوي لرواية البيريتا ليس فقط تتبع تقنيات السينما في فصولها الروائية وانما رصد ذلك النشاط والجهد السردي الذي رسم من خلاله الكاتب لوحات بصرية بأبعادها الفنية، ومزج بين الأمكنة والأزمنة، والانفعالات الإنسانية المنهمرة، وانتقل بخفة من انفعال لانفعال آخر بأسلوب تقني مشوق..مبتدعا أدوات من خلال منهاج السينما .. كان نضّدها في عملية بنائية متقنة فيها التوليف والمونتاج والسرد الحكائي أساسا لإخراج الرواية على الوجه الذي صدرت به...
رواية (البيريتا يكسب دائما ) للكاتب التونسي كمال الرياحي...
ا=======
المنهج:
ا=======

لن تقتصر القراءة على وصف الأثار البصرية المنتشرة في الرواية وإنما سيقع تتبع نماذج الرواية المرئاوية بمعنى اشتغال البيريتا كأثر روائي مستقل بذاته على تقنيات السينما ومنه انتاجها لذلك التنويع السينمائي من مخرجات الفيلم الكلاسيكي الى إنجاز مخرجات فيلم "الذاكرة" أوفيلم "التحليل الذاتي" أوفيلم "المذكرات" او الفيلم التاريخي او الفيلم البوليسي او فيلم الجريمة،او غيره من الإحالات على تقنيات فيلم "الرواية الجديدة"وغيرها بواسطة «اللغة الواصفة»(1) الكشفيةrévélatrice والتناقضية antithétique انتماء وتضمينا (الرواية مندرجة بالسينما) او ايضا دراسة وتفكيرا (الرواية مفكِّرةٌ.. فمُؤسِّسةٌ لها خطاباََ عن السينما) دون الولوج لهيمنة احداها على الأخرى..ذلك ان العنصر الأهم في الممارسة الروائية المرئاوية هو : غنى التجربة الحواسية sensorielle L'Expérience المستجدة المتمثلة في الاشتغال على الكاميرا التي تقدم الحركة والمشهد والصورة والضوء والموسيقى والصوت والتي ينضاف إليها الموضوعاتي بما هو تجربة إبداع روائي..
ا==========
الرواية عامة
ا=========
رواية الكاتب التونسي كمال الرياحي “البيريتا يكسب دائما”، تكشف عن سيرة ( البيريتا) وتاريخ مسدس مشبوه تتقاذفه أيادي المهربين الملطخة بعرق الحشاشين وأيادٍ ملوثة بتقارير رجال الشرطة والقوادين والمخبرين وأيادٍ حاملة لأدوات القتل والتصفيات السياسية.. أيادي لصوص وإعلاميين وكتاب.
سردُ يتلون باحثا عن مخلوق يجرؤ على الانتحار، مشاهد تحقق في قضية انتحار كاتب أميركي بكاليفورنيا وحشاش يجول مدنا بين واشنطن ودبي وعمان والقاهرة والسويد ممتطيا دراجة..
وتلتقي شخصية “علي كْلاب” القائمة القاعدة على تاريخ تعذيبها مع شخصيات اخرى تراوح مكانها لتصنع عالم الرواية الغريب بين المُخبرين والضُبَّاط والضحايا في ذات الوقت.
وفي كل ذلك تظهر شخصيات البيريتا وتختفي بين جثث الكلاب والخنازير والعجائز تخفيا ..
ا========
عمق التقديم
ا========
البيريتا يمكن ان نطلق عليها: عوالم الرواية الما-بعد سينمائية.. ولسائل ان يسأل: كيف ذلك ؟
الرواية وان بدت مشغلا فيه يسخر الروائي عقله وفلسفته ومخياله وأدواته ليؤثث تفاصيلها واحداثها وأمكنتها ومسارها السردي..
فإن الروائي لا يبدو فقط ذلك السيناريستي او السينوغرافي او المخرج فحسب او البطل المحكي عنه انما هو كل ذلك مع قيمة مضافة تتمثل في القارئ المتلقي المشاهد ..
ان البيريتا لا تحتفل پتأثيث سينغرافية الرواية من تجميع تفاصيل الصوت ولون الصورة وبهرج الاضاءة والاحتفال بالاكسسوارات .. فقط.. بل من الفكرة الولادة الباذخة.. اذ تحتّل الفكرة ومثالب الولادة* مركزا اساسيا بالرواية (البيريتايكسب دائما ) كما عند دولوز. واهميتها تكمن في ان الفعل الإبداعي والفني ينبني عليها .
إنّها وأعني البيريتا يكسب دائما نوع من أنواع الاحتفال أو هي فكرة عرض مسرحي او سينمائي تتوالى فيه المشاهد متحركة اولى المشاهد (الفضاءات التي ستكون ديكورا للأحداث) ثم السعي تباعا للمشاهد الاخرى وذلك بعرض الهامش لا عبر صورة موسّعة شاملة بل من خلال شخصيات منفردة لكلّ منها مصيرها ومسارها الخاص.
ثم تتعدد مشاهد البؤس التي تتراكم بنسق تصاعديّ ومشاهد المعاناة تتبلور أكثر من خلال ملامح الشخصيات التي يراوح الروائي بينها وبين الفضاء الحاضن لها. فحينا نجد وقائع من رحم “الواقعيّة”، تذكر بمؤلّف “الإخوة كارامازوف” وأدب دوستويفسكي. فيجنح الروائي كمال الرياحي إلى تسليط الضوء على عدّة قضايا من خلال تطوّر وتغيّر الظروف المحيطة بالمجموعة (الشخصيات) مع الأخذ بعين الإعتبار تشعّب العلاقات وتضارب الرّؤى. وحينا يبعث الكاتب للوجود مشاهد تذكر بسينما الفردانيّة بخلق شخصيات/ذوات مشتّتة وإن تقاطعت طرقاتها (شخصية الكلاب مثلا) إلا أنّها منعزلة تجرفها سياقات مختلفة تماماً تذكر بالكاتب الفرنسي لوي فرديناند سيلين في كتابة “رحلة في أقاصي الليل” الذي بث فيه كيفيات تجاوز مرحلة الكتابة عن الواقع إلى كتابة الواقع مباشرة. اذ نجد مشاهد رواية كمال الرياحي لا تحاكي الواقع بل تصوّره في وضعه الطبيعي. فبطل الرواية، رغم أنّه مجرّد شخصية اختلقها الخيال، إلاّ أنّها تتحكّم في نسق المشاهد. وتلك المشاهد تتدرّج متصاعدة لعرض الحكاية وفق استراتيجيّة تبني الحبكة وتقحم المشاهد في البناء الدرامي للرواية. فتارة تنطلق الأحداث بطريقة عكسيّة من النهاية (عملية الاغتيال شكري بلعيد ).. وتارة أخرى نشاهد مواقف سابقة قادحة للحدث شارحة لما جرى.
أي أنّ الرواية تنبني على التلاعب بعنصر الزمن لتكشف تدريجيا عن غموض يحوم حول عملية الاغتيال. وهي مشاهد تمهيديّة يمكن أن نعتبرها مجرّد جسر عبور إلى ضفّة الهامش التي يرغب الروائي في أن تصدمنا تفاصيلها دون أيّ مساحيق.
ان المشاهد تأخذ الفضاء في كليّته كموضوع، وتكون عناصر الهامش ديكور ا لها كما فعل الكاتب الفرنسي يان مواكس في روايته “ولادة”، بمدينة كوريا الشماليّة اذ يختلط الهامش بالمركز من خلال التكثيف من الديكور واللافتات الزائفة.
هكذا تغوص الرواية في الهامش بكلّ تفاصيله وتستدرج القارئ لمجال المشاعر التي تثيرها واقعيّة الاحداث وقسوة المشاهد.
واسلوب رواية البيريتا ليس بالاسلوب الذي يحتفي بالوصف وبالحوار وبالمونولوج وبالازمنة وبالأفضية والأمكنة كخصائص تتطلبها السردية الروائية..
وليست معمارا او زخرفا او تزويقيا وانما بغاية توظيف كل تلك العناصر اوّلا لتأهيل الشخصيات على الايحاء بنفسياتها وثانيا لتكسير اللغة واعادة تخريبها وثالثا تجريبا بالرواية ايهاما بواقعيتها ..
وربما رابعا وخامسا و... لا يتسع المجال لذكرها في قراءة واحدة
ا============================
جمالية سينما النسق، الزمن والصوت السردي
ا============================

لما كان السرد السينمائي يتأسس على نظام حكي مبني على توالي اللقطات والمشاهد، من خلال الصورة، وما يتعلق بصياغة حكاياتها،نلحظ انها تستند إلى الصورة وإلى العناصر الأخرى المكونة لصناعة الفيلم..
فإن الرواية عند كمال الرياحي بالبيريتا تنسج نظامها الحكائي باللغة ومن خلال اللغة.
انما الصعوبة التي تجاوزها فتتمثل في كيفية نقل عمل أدبي مكتوب بلغة ما إلى ادراك مرئاوي بالسينما..
اي انه قدر على ان ينتقل من صيغة السرد المكتوب إلى صيغة السرد البصري الخيالي الذي كانت فيه الصورة السينمائية تتجاوز نظيرتها الأدبية من حيث قدرتها على نقل المتلقي إلى مجال الخيال الذي يتأسس على واقعية فيلمية تقترح شخوصا وأمكنة وحياة فيلمية ملموسة بقاعة العرض..
ا=========
الكاميرا العين :
ا==========
من العين ينفتحُ عالمٌ السينما لتؤسس الرواية مفهوم الكتابة وتخرب أوثان الرواية المكتوبة بالحرف واللفظ والخيال، وهكذا يتم التأسيس التأسيس لكتابة روائيّة بالعين مع اختلاف زوايا النظر، انها كتابة بالكاميرا الراصدة:
عدستها العين
و(كاميرامانها) ذلك المخيال المرئاويّ مثار قراءتنا هذه للأثر .
يلتجئ الروائي الى العين التي تحطّم نقاء الصورة وتنزل بالحركة المشهدية إلى مستوى النظر من قفل الباب مرورا بالشرفة عابرا للآفاق..من ثقب الفساد والفسوق والرذيلة بين محكي الايروس والشرور والجنس مرورا باللامحكي بفضاء التحقير والتفسخ والدّنس والنظر اليهما( ذلك المحكي/و اللامحكي اللذان توطّنا شديدا بالسرد ) في الضوء والظل، في المركز والهامش، وصولا لأشكال الموت انتحارا، والاغتيال تشفيا والقتل بصفة عشوائيّة
ا================
صنعة السيناريو الروائي
ا================
مشهد (المخبرين الذين يقفون خلف الباب يتنصّتون على (علي كلاب) وهو يحقن نفسه بحقن الإنسولين ويستمع إلى تسجيلات واعترافات الأبطال المتوارين الّذين ظلوا قابعين داخل التسجيلات الصوتية والأوراق الصفراء المطبوعة على الآلة الكاتبة).
تقرأ رواية البيريتا فتلحظ صنعة السيناريست بالرواية الجديدة التي هجرت الأشكال التقليدية للرواية ودعت الى تفكيك القص ..
انها تلك الروايات التي اطلق عليها اسم "رواية النظرة"مع ألان روب غرييه.. ببداية الخمسينات مع الرواد: ميشيل بوتور وناتالي ساروت..
فالبيريتا ..حين احتفائها بالأحداث توشك تجد لها احداثا مماثلة مع ألان روب في روايتيه الْأُوليَين "رًوايتَه"الغَيْرة " و"الرّائي1955"الّتي تحمس لجائًزتها جيروم ليندون، وكثير من النقّاد كجورج باتاي ، وجون بولهان ، وموريس بلانشو إلى جانب جورج لامبريش ورولان بارت..
فالبيريتا والتي جاءتْ ردّاً عنيفاً ضدّ الْأَدَب السّهل الّذي اسْتَهلك نفْسَه بتقديرنا، نزعم انها تحمل تفكيرا مخاتلا بالكتابات الأطوبيوغرافية الإستيهاميّة ذات البعد الإيروتيكي - التّصويري.. فهي وان حافظت على قواعد الكًتابة الرّوائيّة الحدث ، والحبْكة والشّخْصيّات فإنها تميزت عن (رواية النظرة كما عند الان روب) بالدخول بها الى متاهة داخل معنى النصّ..
لنجد الروائي كمال الرياحي يدحض تلك الخصائص حين صنعة سيناريو (خطًّيّة الحبْكة) ، و"التّعاقب الزّمني للحكْي) ، او ازدحام( التكثيف النّفْسي) للشّخصيات أيضا.
داخل الحكي تلحظ ذلك على طريقة سيناريو فيلم"السّنة الأخيرة في ماريانباد "الّذي نال الأسد الذّهبي بالبندقيّة في عام1963 لآلان روب ، و فيلم "الخالًد" الّذي أخْرَجه هو نفْسه ، وفي عام 1983 و"الأسيرة الحسناء". وفي كلّ أفْلامه التي تربو على العشرة كان يخْلق لدى الجمهور"انتباهاً" خاصّا..
وهو ما نلمسه في رواية (البيريتا يكسب دائما )وفي سيناريواتها التي تُؤْثًر التّخْييل على الرّؤْية..
ا==========================
اولاً- الهوية والهويات بين الرواية والسينما
ا==========================
إن دراسة العلاقة بين الكلمات وصورها التخييلية برواية البيريتا ونظيرتها الصور والمشاهد والأصوات بالسينما عامة ، لا يعدو ان يكون تفضيل الأولى على الثانية بل هو اهتمام بتلك المفاهيم والتقنيات المتحكمة في كل تعبير منهما، انطلاقا من العلامات المحددة لهما مسبقا[1] لذلك سأتخذ البيريتا نموذجا لجنس الرواية ممثلا للكلمات ومن فن السينما الحديثة ممثلا للصورة، لتبيين العلاقة بينهما خاصة وانهما تشتركان في المكونات الأساسية للسرد والتسلسل الحدثي والشخصيات والفضاء والزمان.

ا==========================
ثانياً – السرد الروائي والسرد السينمائي:
ا==========================
يقوم السارد في رواية البيريتا عموما بلعبة ترتيب الازمنة والامكنة و الأوصاف ويحدد طريقة توالي الأحداث ويخبر بتلك الفجوات النصية( عبر الحوار بين الشخصيات أو عن طريق وصف موضوعي)[2]. وهو ما يؤهل هذه الرواية ، في مقابل الأجناس الأدبية الأخرى، لأن تتحول إلى فيلم سينمائي، ما دامت تلتقي مع كثير من عناصر بنائه، وأولها السرد، على حد قول رولان بارت: (أن السرد يمكن أن تحتمله اللغة المنطوقة شفوية كانت أم مكتوبة، كما يمكن أن تحتمله الصورة ثابتة كانت أم متحركة)[3].
لقد عمد الكاتب كمال الرياحي حين تفصيل السرد الروائي على اعتماد المتواليات، بمعنى ان كل جملة منها تحقق معنى دلاليا خاصا بها، لتلتحم مع باقي الجمل الأخرى المجاورة لها لتشكل المعنى الكلي للعمل الروائي بينما في تقنيات الفيلم السينمائي، يتحقق السرد عن طريق الصور .. كمن يعمد الى استنباط متواليات صورية، وهذا بالضبط ما يجعل المتوالية الصورية تساهم في تشكيل المعنى الدلالي العام للفيلم وهي تتصل بباقي الصور المكونة للمشاهد على حد تعبير كريستيان ميتز[4]
وحتى وان ابتعدنا عن المفاضلة فإننا نقر بأن الصورة السينمائية هي أكثر ثراء حين المشاهدة ، ديكتاتورية في نشاطها الموجه والمؤدلج في الاتجاه المحدد والمرغوب فيه من قبل المخرج على حد تعبير جيل دولوز[5]. فإن رواية كمال الرياحي حين تسريدها تقوم على دكتاتورية مخصوصة لكنها عميقة لانها تنفتح اكثر على الخارج اللغوي مثل التصوير الفوتوغرافي والتشكيل الرسمي وخاصة الموسيقى والإيقاع الصوتي ( القول التلفظي للشخصيات واللحن الموسيقى كالمؤثرات الأصواتية المصاحبة للاحداث)
حتى الايماءات كالبانتوميم مثلا بالرواية قد منح تشكيل الصورة السينمائية للرواية شمولية إكبر للتعبير( اذ تفسح المجال أمامه لإضافة تعبيرية أخرى لها)[6].
فلقد مازج الروائي كمال الرياحي بين المشاهد وأضاف على ما تقدمه الصورة من التقنيات[7] جانبا تجديديا متمثلا في تشخيصية اللغة غير اللفظية، حتى تتعدد تأويلات التقبل وتتنوع، على غرار أفلام شارلي شابلن التي تتعدد بالتأويل الاشاري الصامت..
هكذا يبدو لنا ان السرد الروائي برواية( البيريتا ) يعتمد في لعبة تتابعه على تقاطع المتواليات المستمر بينه وبين الوصف والحوار، حتى القارئ لكل فصل يخال "الواقعي"، "المادي" صرفا كالمتخيل تماما ، وهذا ما يجعلنا نقر ّ أكثر بما تستطيعه "عين الكاميرا" برواية البيريتا، من تأثير باللغة السينمائية كما قيل انها تلك التي "تنجذب نحو فن المحاكاة" [8].
ا==========================
ثالثًا – الإيقاع الروائي والتبئير الوصفي:
ا==========================

يعتمد الإيقاع الروائي برواية كمال الرياحي البيريتا، على عنصر التكرار والتوالي وفق سيرورة مسار روائي مضبوط يأخذ في الاعتبار تلك الأحداث والشخصيات القائمة بها والأمكنة المتواجدة فيها والأزمنة كما ذكر ألبيريس في كتابه "تاريخ الرواية الحديثة" بقوله: "إن الإيقاع الروائي هو إيقاع للمحاورات بأكملها، وللحوادث وللمشاهد الروائية، فبعض الروايات بأسرها انسجامها الداخلي بقوة الترابط التي توحي بها وتعقدها، وبإيقاع الحركات الروائية التي تتصالب فيها"[9]. لكن الذي يشحذ دينامية الايقاع بصلب فصول الرواية، تلك الصياغة المميزة للأحداث وفق رؤية ومنظور وزاوية نظر، تقوم بتقديم وتبئير الرواية لتقريبها من مخيلة المتلقي ذلك ان الروائي "صانع صور" [10]
لكن هذه الصور ليست بالمرة صورا تحاكي طبيعة كما يقول آرنهايم( إن الذي ينافس الطبيعة يستحق أن يكون خاسرا) [11]..فلقد عمد كمال الرياحي إلى صنع محاكاته لوحده واستنساخه للشخصية المرجوة بنفسه بالرواية تتسمع الى صراخه أنظظظ على الروائيين ان يتخلصوا من "وهم الاستنساخ والمحاكاة المتقصية، الشاملة"[12]
ونزعم ان الايقاع الروائي الذي عمل الروائي على ابرازه حتى وان لم يخرج على ملفوظ النقاد (التبئيري) فإنه سلك سبيله الناجية التي لا يتحقق الايقاع الروائي الا بها إلا وهي ثلاث رؤى مختلفة:

1- الرؤية من الخلف: ان فتنة السرد ان يراوح السارد بين مواقع شتى فبالرؤية من خلف يكون السارد على معرفة شاملة بمكونات العالم الروائي الذي يقوم بإنجازه، انك تلمح بالضبط عين الروائي تشتغل بكل الامكنة وبذات الوقت هي نفسها عين الكاميرا الماسحة لكل شيء والواصلة إلى الأعماق (جدثا وشخصيات، امكنة وأزمنة) وهذا ما يعكس تفرد روايته اذ ان عين الكاميرا بالسينما تكون مركزة على السطح بينما عين السارد تحفر بالاعماق.

2 – الرؤية المصاحبة: حتى وان قدم كمال الرياحي السارد في روايته في بعض الفصول كما لوكان لا يكاد يتجاوز معرفة الشخصيات التي يقدمها، إلا أنه يسير في موازاة مع الشخصية ، انه يستعمل الحواس ليصف ما تراه العين ويحدده انطلاقا مما تبصره.

3 – الرؤية من الخارج: التجأ كمال الرياحي الى ان يجعل ببعض الفصول الروائية صيغة أخرى لتخصيب السرد فلقد تمكن من خلال رؤية سارده الخارجي ان يقدم متواليات تعبر على ان ذلك السارد أقل معرفة مما تعرفه شخصياته، وهو لا يصف إلا ما نراه وما نسمعه[13]. او كما يلاحظ تزيفيتان تودوروف[14].
ا==========================
رابعا – الإيقاع السينمائي وحركة الكاميرا:
ا==========================
وكون الرواية قدمت شعريتها من خلال خلق عوالم جديدة ايقاعية فاننا نلمح تقنيات الكاميرا حاضرة، فإذا
كان الإيقاع السينمائي يعتمد على تعدد الزوايا التي تأخذها الكاميرا في عملية التقاطها للمكونات الداخلية للفيلم، من شخصيات وأحداث وفضاءات وأزمنة[15]...
فان كمال الرياحي بروايته البيريتا اعتمد على زوايا تمركزت فيها كاميراته الواصفة لتقدم لنا نوعا من المشاهد، ولعل ذلك ما يتيح لنا ان نقول بان زوايا النظر تلك موظفة بامتياز من أجل تحقيق ثلاث وظائف كبرى:
ا==========
1- انواع الحركة
ا=========
انها الحركة التي ساهمت في ان تمنح الزمان صورته كما انها أعطت للمكان امتداده الفضائي، وبالاخير وهذا مبلغ الرواية انها توهم بوجود الشخصيات الفعلي..
اعتمد الروائي اثناء تقديم مشاهد روايته على مجمل النص الذي يوحي بالتصوير الحركي ..فهناك

أ) حركة فوقية، كما لو كان المسرود ينزل من فوق گأنك تقرأ من عين معلقة بالسقف انه امتاع الكاميرا بالضبط ما تفعله كاميرا التصوير السينمائي ان تكون فيها الكاميرا على ركيزة –عربة ودعامة مرقبية لتحديد زاوية الرؤية..

ب) حركة دائرية: كما كاميرا السينما التي تكون فيها الكاميرا فوق محور يسمح لها برؤية شاملة للصورة والمشهد.. يقدم الروائي كمال الرياحي مشاهد السرد المنطلقة من صورة محددة الى ثانية وثالثة كما لو كانت عين سارده تدور وتدور.. لتلتقط الحدث دون ان تسميه من خلال التقاط تفاصيل الوقائع..

ج)قدم الروائي بمشهد ( علي كلاب وهو يسدد سلاحه للتفاحة الموجودة فوق راس الشخصية ) تفاصيل المشهد المقدم كما لو كانت عين سارده بين بين .. تقوم بحركة وسطية .. تماما كمثل تقديم مشاهد والكاميرا تقوم بحركة متوسطية،اي تكون فيها الكاميرا فوق آلة رافعة، ويقع تصوير اللقطات البين-بين[16].

هكذا استعمل الكاتب العدسة وعين الكاميرا المتحركة النابضة بالمشاعر لتكتشف الفضاء، وترسم تكوينا بصريا من خلال زوايا رصدت الهدف، وحددت المساحة والاتجاه تم اختيارها بحرفية عالية، فأحجام اللقطات تعبر عن الفكرة وتتماشى مع الانفعالات والحالة النفسية والبناء الخارجي، وتساهم في خلق التتابع في عملية البناء.
كل هذه التقنيات والأدوات الفنية استغلها الروائي كمال الرياحي في صناعة (رواية البيريتا يكسب دائما) فقد استطاع أن يصنع مشاهد بصرية يسرد من خلالها حكايا مستقلة مكانياً وزمانياً تتغذي ملامح شخوصها من البيئة التي تحيط بها وتكمل بعضها بعضاً، لينسجم المشهد مع المشهد الذي يليه. مستعيرا من السينما، المونتاج وعناصر المزج والتوليف والانتقال من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر ، بشكل يساهم في تطوير الحدث ويعبر عن تأثير درامي متبادل، فالمزج والإيقاع الداخلي الموسيقي والإيقاع السريع بين اللقطات والانتقال بين الأزمنة و الأمكنة دون حواجز زمانية أو مكانية يمنح المتلقي رؤية واعية بصرية تساهم في توضيح الرواية..
ا=============
2- المونتاج
ا==============
لقد ربط الروائي كمال الرياحي متوالياته السردية سواء ما بين الفصول على اختلاف احداثها او الامكنة او الازمنة فيها مراعيا في ذلك تسلسلها الحدثي اذ ربطه بعضه ببعض من أجل خلق مسار سردي متكامل..
وهذا عين عمل المونتاج بالسينما..
انتقى كمال الرياحي تقنيات سينمائية في بناء روايته معتمداً على:
المونتاج المتوازي: والمقصود بالمونتاج المتوازي أن يكون هناك حدثين مختلفين في المكان تربط بينهما شعرة غير مرئية تساهم في البناء العام للسيناريو، وتضيف عمقا ودلالة خاصة للعمل كما يقول "ريتشارد فينمان" الحائز على جائزة نوبل (أن القوانين الطبيعية بسيطة من الصعب رؤيتها، ولكي نراها يجب أن نعلو فوق حدودنا الطبيعية والمعرفية لخلق واقع جديد يساهم في البناء)، فالبناء هو العنصر الأكثر أهمية في السيناريو، وهو القوة التي تغذي الشكل والمضمون، الهيكل الخارجي وحجر الأساس في صناعة العمل الفني دونه ليس هناك رواية و دون رواية ليس هناك سيناريو.
فما هو السيناريو؟ : انّه الرسم المعماري، النابض بالجماليات والمشاعر الإنسانية..
ا============
3- التوليف داخل المونتاج
ا==================
لقد نسق الروائي متواليات السرد وحبك خيوط الاحداث كما ينسق المونتاجيست فيلمه بغاية أن يخلق دلالات الفيلم الكبرى ويمنحها حركية في ما يخص أبعادها المعنوية، فكما يقوم المونتاج بالتوليف في عملية الربط بين لقطة سينمائية وأخرى و تتولد عن كل ذلك فكرة معينة، يسعى المخرج من خلال توليفه ذاك إلى إيصالها[15].. فإن الروائي كمال الرياحي قد عمد الى ذلك التوليف بين المشاهد داخل مونتاجه السردي بغاية توليد الفكرة متناسقة مع سابقتها ومتسقة مع ما بعدها
حتى انك تحيب العتمة والضوء، يمثلان المساحة والفراغ، وهما عنصران أساسيان في البناء الجمالي لتكوين الصورة. و كمثال على ذلك تداخل التقنيات السينمائية لتكوين الفضاء الركحي حين تعامل الكاتب مع اللون الأسود(استعمل رجال الشرطة الغطاء الاسود لتغطية راس الصحفي) وتأثيراته النفسية، نلاحظ انه ادخل تيمة الماكياج وهو فن من فنون السينما ليخلق الخداع البصري،وصنع ستارة ليعبر عن عمق المشهد وتأثير الحالة في تكوين البناء الفني، هذا المشهد مع المشهد السابق شكلا معا وحدة متكاملة لا يستطيع المخرج الاستغناء عنها أبدا..لكن الكاتب استطاع أن يمسك خيوط اللعبة، وينقلك من لقطة واسعة (البيت والعالم ) إلى لقطة متوسطة (قبل دخول المعتقِلين رجال الشرطة) ، وتتبعها لقطة مقربة لوجه الصحفي كل تلك اللقطات مع ازدحام الأفكار وتشابكها وعملية القطع السريع والمونتاج والتوليف والمزج، تجعل القارئ للرواية لا يحسّ بالزمن و يغوص في المقطع والمشهد دون أن يرمش جفن، ، اي ان رمز الحركة قد توقف ..نفس هذا المشهد من الفصل الذي مزج بين واقع الاعتقال وما يثيره من المشاعر الإنسانية المتناقضة، بين الرغبة في الحياة ومشاهد ممارسة الجنس الحيواني بالطرف الاخر حين تقطيع السرد والذهاب لعرض مشاهد ايروتيكية، حولت الفصل الروائي لبانوراما سينمائية لعملية الاعتقال تلتقطها أكثر من كاميرا ومن أكثر من زاوية، وظهرت تلك المشاهد مرصوصة يشد بعضها بعضاً بشكل فني هندسي وبمعالجة بصرية واضحة المعالم..
هكذا برز المشهد الروائي متقنا بفنية عالية من خلال عين روائي يجيد فن بناء اللقطات وتوليفها وتقنية كاتب يملك حرفية بناء السيناريو، وقد تمّت دراسة وبناء المشاهد بعمق مع شرح الأبعاد الثلاثية النفسية والاجتماعية والفسيولوجية للشخصيات.
ا==========================
خامسا – الشخصيات وبنية التأطير الصوري:
ا==========================
ان في اختيار البيريتا /المسدس الذي تتعلق حوله الشخصيات ( علي كلاب )و (الماديموازيل بيه) و (يوسف الصحفي) اريد به الخروج عن مكرر الشخصيات وتجاوز ا للشخصية النمطية ذلك ان السرد العربي بقي يراوح مكانه في صياغات تقليدية للشخصية .. فانت تجد شخصية مصطفى سعيد في موسم الهجرة للشمال للطيب صالح تتكرر وتفرّخ في حدث ابو هريرة قال للمسعدي..
وانت تلمح مظاهر الشخصية (سعيد مهران) في اللص والكلاب لنجيب محفوظ تتكرر مع زكريا المرسليني في الياطر .. لحنا مينه ..
وشخصية سعيد ابي النحس ( المتشائل ) لأميل حبيبي تجدها معادة بل واكثر مستنسخة في سردنا العربي..
تحتشد الرواية بالمنعطفات الدرامية كما لوحات الرسام الهولندي بيتر بروغل حيث يتجلى كل فرد بالرواية كبطل منفرد بحد ذاته كما لو كان شخصا مشاركا في بطولة جماعية..(*)[فكرة من فن الرواية كمال الرياحي]
ان شخصيات رواية البيريتا كلوحات ( المعركة بين المهرجان ويوم الصيام) او ايضا (ألعاب أطفال) او الطريق لجلجلة).. تتناسل الشخصيات داخل النص الكرنفالي وتتكاثر انشطارا ..
البيريتا رواية تتعدد فيها منظورات السرد وتروى الحكاية فيها عبر اكثر من زاوية وتتكئ على التوالد الحكائي والتناسل البؤري وتحتشد بزحم التفاصيل وتحتفل بجسارة الايروتيكي والنضج البنائي واستنفاد طاقات الفضاء المكاني الايحائية لنرى ملامح القبح وجمالياته...
انك لا تلحظ فرقا بين ما تقدمه رواية البيريتا يكسب دائما فيما يقدمه الراوي فاذا كانت الشخصيات السينمائية شخصيات داخلية ساكنة بالفيلم السينمائي فان الشخصيات الروائية قابعة بالكتاب، ويضاف الى سكونها او حركتها بموطنها فان كلتيهما تحمل معها صبغتها التشخيصية للأدوار المسندة إليها، وطريقة ملبسها وعمليات الماكياج لتكييفها مع عين الكاميرا المسلطة عليها ..
كلتا الشخصيتين بالفيلم وبالرواية تسعيان الى ان تتحولا من إطارهما الواقعي إلى إطار تخييلي،ودلالة وعلامة من العلامات المشكلة لبنية النص[20].
ا==========================
سادسا – خصوصية الزمن الروائي والسينمائي:
ا==========================
تكمن اهمية الزمن الروائي في كونه لم يعد ذلك الزمن الدياكروني الذي يحاول التقاط الزمن الواقعي للتسلسل الحدثي للقصة. بل لقد حوّله المونتاج الى زمن مولد للحركية الصورية، ودفعه الى ان يكون صانعا وخالقا لإيقاعه الخاص به مثل ما تقدمه السينما في (طريقة التلاعب في عملية الترتيب)[21]. او لعبتي الفلاش باك أو الكان باك، والقصد من وراء ذلك كله القارئ و التشويق ثانيا والمتعة ثالثا ...بينما برواية البيريتا فانه تعدى ذلك اولا الى نقل اهتمام القارئ المتلقي-او ( المتفرج المشاهد، من نقطة زمنية أو فضائية معينة إلى أخرى[22] .. وهذا عين الابداع ..
وثانيا من أجل خلق إيهام بالوجود الزمني لدى المتلقي-المشاهد، كما يقول رولان بارت فـ"كل صورة هي بمعنى ما حكاية"[23].
ا======================
سابعا- خصوصية الفضاء في السينما:
ا====================
ان خلق هذا التشابه الفضائي بين الحركة السينمائية والحركة الروائية داخل متن الرواية تمنح المتلقي الكثير ..
فكلما منح الروائي للشخصية أكثر مساحة للتواجد على طول المسار السردي وكلما أعطى المخرج لشخصية من الشخصيات مساحة كبرى من الفضاء إلا ودل على اهميتها وقيمته الفنية ..
فإذا كان هذا الفضاء يمكن السينمائي من معرفة حدود الصراع الدرامي المتولد في الفيلم[24]. فإنه بالتمام يمكن الروائي من مساحة اكبر لتفصيل شخصيته على مقاس فكره واسلوبه ونهجه..
كما لا يفوتنا اعتبار الفضاء، في الغالب تأطيرا خلفيا للشخصيات ودالا عليها وعلى ماتفكر به، كما أنه يحدد حتى نوعية الفيلم، والزمن الذي يسعى المخرج السينمائي للقبض عليه.
.
ا==========================
آفاق تجاوز توظيف اللغة السينمائية وتقنيات السينما بالرواية
ا==========================

لئن لجأ الروائي كمال الرؤاحي بروايته[ البيريتا يكسب دائما ] إلى تقنيات السينما- من تقنية التسجيل إلى تقنية المونتاج مرورا بتقنية ضبط حدود الإطاراLe cadrage3- ووصولا الى تقنية التقطيع الفني اLe découpage: - تقنية المونتاج بنوعيه
أ- المونتاج العضوي للمدرسة الأمريكية
ب- المونتاج الديالكتيكي للمدرسة السوفياتية فانه تجاوز ذلك الى آفاق أخرى فسيحة لعل اهمها:

ا=========  

اولا-آفاق تجاوز تقنية التسجيل والنافذة العدسة
ا============
السينما عين مفتوحة على العالم كما يقول جوزيف برلان( Le cinéma , c'est un oeil ouverte sur le monde )حد قول Joseph Berlin .. كما ان الرؤية فن معرفة اللامرئي بتعبيرة Swift Jonathan..
ولكل روائي عين يبصر بها ويتجول بالعالم السردي ملتقطا مشاهده السردية .. ولكن مع االتحويل والتحريف الناتجين عن التخييل.... فيطغى بالنص الروائي جهد مضاف يتمثل في ان الروائي يصوغ المسرود على اسلوبه وبتقنيات يؤلفها مجتمعة حتى نخال النص صورة اوليس الروائي مصورا..كما ذهب الى ذلك ابن رشيق حين يقول : (أبلغ الوصف ما قلبَ السمع بصرا.. ) ..
واستعمال تقنية عين السينما بالرواية تصير شخصية ثالثة (الروائي والراوي والعين)تبئير يحول ويحور ويكسر بنى السرد ويعيد بناءها من جديد..اذ تعتمد الكاميرا المتحركة على الإيقاع السريع والفعل ورد الفعل، واختيار أحجام اللقطات والزوايا المتشابهة..
يلتجئ الروائي التونسي كمال الرياحي في منجزه الروائي البيريتا ومختبره السردي الى استحداث أدوات جديدة وتقنيات منفتحة على المُعطيات البصرية والوسائط المُتعددة، وقائمة على الانفتاح على الانواع الادبية والفنون كالرسم والموسيقى قائمة على وقائع متخيلة واحداث واقعية فيها من المظاهر ما كان غارقا في القسوة والتوحّش وفيها ما ينبض بالحياة والموت.
اذ يتجاوز تقنية السينما المبتذلة في تشكيل وحدات نصه حيث يورط مشاهد شخصياته في مجاهل الإجرام والعنف والخيانة. حيث تكون المَقاطعُ المشهدية نابضة بالحركة والتوتر متقلبة بين مواقف واحداث وشخصيات ننظر مثلا ضابط الشرطة (علي كلاب) الذي قدمته الرواية يقودُ سيارته الفورد عائداً عبر البرّ من الحدود الجزائرية إلى تونس ويصادف شاباً يبيع الخبز والمسدسات بثمن زهيد أربعمائة دينار لتدخلك آلة السرد مع أفراد من الشرطة مرتدين بدلات سوداء وقمصاناً بيضاء يتبعهم الضابطُ لاعتقال الصحفي من ثُمَّ يبدأُ الإستجوابُ وتُدلي ( بيه ) بشهادتها أمام علي كلاب، والموضوع الذي يدورُ حوله الحديث هو كومة العظام المدفونة في أحواض شرفة الجيران. ولا يتمُ فكّ شفرة هذا اللغز إلّا مع تعاقب الحلقات السردية. يُذكر بحبكات ساراماغو في رواية (الكهف) و(مسيرة الفيل) ونجد صدى هذا الايقاع الشعري للرواية في تلك لأصوات المتوزّعة بين الصيغة الحوارية والمولونوج والكلام المُسجَّل على الهاتف الجوال واليوميات المكتوبة ..
لذلك نقول ان الرواية استثمرت تقنية السينما حين اقترابها من الرواية البوليسية القائمة على حبكة تتداخل فيها الاحتمالات الممكنة لحل لغز الجريمة الغامضة، لقد افتتحت الرواية الخطاب السردي بوقوع جريمة عظام بحديقة الجيران وتكاثفت المتواليات السردية لتشكل غشاء يستر المجرم، والضحية على حد السواء..اذ نلاحظ انه لا شاهد على الجريمة أي أنها جريمة غامضة ولا توجد بالكاد خيوط احتمال يمكن للسرد أن يتطور عبرها ويتشكل، فما عهدنا بادب الجريمة او حتى الادب البوليسي الا ان يقدم الروائي الجريمة واضحة المعالم ليتمكن باستئناف السرد المتسلسل والتقليدي بينما البيريتا تبرز ثقوب في السرد تؤدي إلى التنامي عبر انفتاح آفاق المحتمل السردي الذي يقوم على "الشك" و"الاحتمال" و"تبئير" شخصية من بين شخصيات الرواية لصفة ظاهرة و احداث حالة ريبة متصلة بالضحية أو الجريمة قيد التحقيق.
فما يمكن ان يقوم به المحقق في الرواية البوليسية هو فقط ذلك الدور الرئيسي لشخصية روائية تخييلية [مُبَأَّرَةٌ] يقع التركيز عليها في بناء وتنمية السرد،
لكن الذي حدث برواية البيريتا ان للسرد ميزات اخرى تقوم مقام تعدد المحكيات وتنوعها وتعدد الأصوات اللغوية، فيتبلور المحكي الإطار كمحكي مركزي بينما المحكيات الصغيرة تتراجع على حساب المحكي الأصغر منها...
ا==========
ثانيا -آفاق التجاوز في تقنية ضبط حدود الإطار والافيش
ا =========
الصورة الافيس او الكادر السردي تنطلق من مبدأ ان السارد ملتقط صور ولوحات اننا نعثر بصورة غلاف الكتاب افيشا يذكر بأفيش السينما من حيث تأطير الصورة والمسدس.. بالضبط يذكر بلوحات سالفادور دالي.. اذ يفتتح الروائي منجزه ويسرد في متنه تلك المآسي ومجمل الكوابيس.. محمولة باللفظ على الميتالغوي الذي يحتفل بالميلودراما .. يصوغ كمال الرياحي بروايته افيشا لكل فصل من الرواية ..تتجاور فيه الصورة ووقائع الاحداث كي يستوحيَ القارئ بواطن الشخصيات ومشاعرها على طريقة" دان براون"حين تشكيل "شيفرة دافنتشي" او " للبروطن" برواية "الحب المجنون"..
ويظل القارئ مشدودا للسرد وحركة الاطار والافيش متتبعا الوقائع وصور الاحداث كما لو كان مع" ماريو برغاس يوسا" خاصة في( مديح زوجة الاب)..
هكذا تدعو رواية (البيريتا يكسب دائما) القارئ لان يفتح عينيه على اللوحة /والصورة/ الفصل متفحصا الوانها واشكالها وعلى شعرية اللغة بالفصل .. حتى تخال القارئ يعيد انتاج الفصل الروائي كما أعاد الشاعر الالماني "فالتر باور" لوحة " العميان " وربما يفعل القارئ بتدخله ما كان الايطالي "كارلو كوردونا " بصدد فعله مع لوحة" الزرافة المحترقة "..
هكذا تدعو رواية (البيريتا يكسب دائما) قارئها الى التدخل لصياغة جديدة لصور الفصول السردية بتشكيل خيال صوري جديد.. على طريقة" خوان ميرو " في اشخاص وكلاب أمام الشمس ..
ا=====================
ثالثا _آفاق التجاوز بالمشاهد وتشكيل الصوت و الصورة
ا=====================
ان صورة المشهد غير المشهد الصوري برواية ( البيريتا يكسب دائما) الروائي كمال الرياحي يكتب بتجريب مذهل سرده.. إنه يصوغ مشاهده حية متحركة تسحب قارئها الى عوالم غريبة .. الحركة فيها رتيبة والاصوات ناجزة فاذا كنا نتصور عالم " علي كلاب" منغلق المنافذ فإنه ينفتح على المشهد الصوري فيه بالتخييل والتجريب مما يخلق تعدد المعنى والاصوات عبر حركة المشهد.. وكثيرا ما نجد كمّا هائلا من الصور المتتالية يجمعها الروائي في غير اعتباط او حشو او زخرف مما يوحي بان الصورة السردية صورة مشهد متحرك متعالق مع المعاني داخل هوية النص نفسه..حتى انك ترى الفصل والاخر لا يقوم على حبكة واحدة ..
وهذا يجعل كل قارئ للرواية يصنع حبكته المميزة الفاحصة لرؤيته وتأويله .. نكاد نجزم اننا امام رواية تصنع الحبكات..
ان اقحام مشهد ضابط الشرطة الذي يصوب ماسورة مسدّسه إلى التفاحة الموجودة على رأس زوجته لحظة مقتل مؤلف (المدمن) لشريكة حياته.قد اعطى بعدا جديدا للتصوير اذ بذلك صرف الروائي كاميرا الراوي لرصد العملية الجنسية بنسختها الحيوانية مستعملا بعض العبارات الإباحية تذكرنا برواية بوكوفسكي "أجمل نساء المدينة" وحملنا الروائي الى أجواء متشبّعة بالفحش والعدوانية و تذكرنا رأسا بسرديات "بوريس فيان" وماركيز دوساد الذي مررَ الكاتبُ بعض عباراته الإباحية في نصه...
نضرب مثلا حبكة مقطع الاعتقال بالرواية لذلك الصحفي.. تذكرنا اولا بالصورة التشكيلية و اللوحة الشهيرة ( دورية ليل) للرسام الهولندي ( رامبرنت) ولكن تأخذنا الى حبكة رواية "تفتيش ليلي " للفرنسي (باتريك موديانيو ) ان هذه الحبكة تقدم مشهدا بالصورة تزدهر فيه الحركة والتشكيل الصوري سواء..
هذا اضافة الى التعدد اللساني والصوتي المصاحب للمشهد وما يتأثر به المتلقي..
ان رواية( البيريتا يكسب دائما ) تعلن ميلاد نمط روائي مكتنز بالصورة والحركة والمشاهد رواية تخرب مسلمات الرواية تجديدا وتجريبا..على خطى أبوليوس ب(الحمار الذهبي/ التحول) وعلى هيئة فارس (سرفنتاس) بدون كيشوت.. تلك الرواية التي تحتفي بالصورة والمشهد منفتحة على كل الفنون والاجناس والانواع الادبية ..
رواية المشهد الصوري العابر للاجناس تبني من اللاشعبي الشعبي ومن اللايومي اليومي
وتبني من جنس الرواية البوليسية اللابوليسي بتهديمها للحبكة الواحدة وتشظيها الى حبكات فيها السخرية والاسلبة وفي كل ذلك كله اجهاز منظم على فن السرد المعهود كما (بوكاتشو ) في الديكامرون...
ا=============
رابعا -آفاق التجاوز الأجناسي
ا====================
وأخيراً نستطيع القول أن رواية البيريتا يكسب دائما هي فيلم سينمائي مصور كتابياً.. عدا أن الفيلم يقوم بإخراجه مخرج له رؤية محددة يمنحها للجمهور.. عكس الروائي الذي يمنح كل قارئ مساحة من الخيال لإخراج عمله بنفسه..
على هذا الأساس تكون الرواية معمارا وهندسة يجيد الروائي فيها فن البناء والحكي منذ لحظة ولادة الفكرة حتى نهاية عملية البناء..
وفي ذلك كله يحافظ الروائي على نفسه الإيقاعي الذي يتنوع سواء حين اختيار الشخصيات اودراسة طبيعة الحوار اوالصراع أوالحبكة أوالتتابع أوالمفاجأة أوإخفاء المعلومات أوالتوقع أومخالفة التوقع أواختيار نوعية الإضاءة والمؤثرات الصوتية أوالانتباه لموسيقى وفن توليف اللقطات في المونتاج وعناصر التكوين الروائي..
ا====================
التجاوز باستعمال الكاميرا الثابتة (غير متحركة )
اا=========================
أ- الكاميرا القلم (caméra stylo)
قام الروائي بالفصل الثاني للرواية خلال تقديم المشاهد بتجاوز ما يقدمه الكاميرمان حين استعمال الكاميرا وتأطير المشاهد حيث سعى السارد بتقديم صورة واحدة واثناء تشظيها لاحظنا ان السارد لملمها مختزلا صورا شتى وكمّا هائلا من القطع متناثرا ليؤلف بين بعضه البعض..
اذ عمد الروائي الى تصويرٍ مضخّم للموصوفات حتى اكتملت ملامحها فابرز حينها جزيئاتها بالمشهد (انظر مثلا الصحفي يوسف يعد درجات النزول من منزل الاعتقال ودرجات الصعود للمخفر) فخلال عملية الاعتقال يُفترض الاهتمام بنفسية المعتقل من رهبة وخوف لا الاحتفال بالمكان .. وهذا ما نقصد بالتجاوز لما تقوم به كاميرا القلم بيد مخرجها..
ب- تقنية اللقطة العامة[ 25]( Plan géneral)
ان ما يميز السرد الروائي عند كمال الرياحي ذلك الانتقاء المبهر للحظة والمشهد .. انه يتجاوز ما تقدمه تقنية اللقطة العامة اذ انه حين يلتجئ الى التقاط صور مسترسلة كما لو كانت تصورها الكاميرا مرة واحدة وفي ديكور واحد .. لا يفتأ يحورها وينبش في مخبوء الوانها ورائحتها.. (انظر التجاوز متمثلا بحاسة الشم بمشهد نزول المعتقل الى سيارة البوليس حيث يدخل قارئه في عفن اللفظ ونتونة المشهد و يبعث الروائي تلك الروائح النتنة من المجاري المصارف حتى يتشممها رهين الاعتقال والقارئ على حد سواء)..
وهو عين ما لا تقدر تقنية اللقطة العامة توصيله ..

ج- تقنية اللقطة الكبرى[25] gros Plan):
يعمد الروائي في تصويره للحدث الى التجاوز الذي من الممكن ان تقدمه هذه التقنية بالالتقاط.. انه يلتجئ في فك شفرة المشهد الى عدسة الكاميرا المقعرة ليقدم لقطة كبرى ثم تقوم الكاميرا بالتقاط شيء واحد من المشهد ولكن يقع تقديمه بشكل مكبر ودليله انظر ( مشهد قطع اصبع الصحفي) ان الروائي يتجاوز محسوس الصورة الى التوصيف البصري لها ويقدم مادتين غير متحركتين وصف المكان من جهة ووصف ملامح الشخصية بلا اصبع..
2- الكاميرا المتجولة:
أ- الترافلينغ[25]
من الترافلينغ ينبعث المشهد ويتجاوز الروائي مهمة تلك التقنية للنظر من زاوية محددة للحدث( زووم واحدة )
ومن الترافلينغ المصاحب ينتقل بقارئه في ارجاء المكان ويستعمل زومات متعددة تكبيرا وتصغيرا للمشهد..
حتى تخال عين الروائيانصهرت تماما مع العدسة المصورة .. فيتتبع القارئ الاحداث بعين السارد وهي تتثبت وتتحرك في فضاء النص وتتولى تلك العين كاميرا الكاتب مسح الاحداث والشخصيات والاماكن ثم ترجع لتهتم بحدث محدد وتتفصّى ملامح شخصية واحدة داخل مكان وفضاءمحدد .. ذلك هو التجاوز والانطلاق الى براح الايقاع الروائي الوظيفي..
ا=================
تجاوز تقنية التوصيف بالكاميرا الى تسخير الخيال
ا=================
1- الاضافات السردية بتقنية الكاميرا
ا================
لئن استعملت الكاميرا بالسينما الخدعة البصرية فان الروائي استعاظ عنها بتشويش الصورة حين تمرير تقنية الاسترجاع والاستبطان وتكوين جينات المشاهد المتحركة المتعاقبة المتتالية والتجات خدعاته البصرية السردية الى المونتاج باستعمال التقطيع والالصاق (trucage) حضر بالسرد استعمال المونتاج المتوازي وادماج لقطتين مع بعض ولكن وفق ضوابط سردية مدروسة وكان من وراء ذلك كله الايهام بواقعية الحدث المروي واستنفاد شعرية المسرود
ان طريقة المونتاج المستعملة ( montage Parallele /fondu enchainé)
بالسرد كانت هادفة فهي ولن سردت حركة المشاهد حين ربطها ببعضها في كليتها انما قامت باحداث ايقاع جديد يتمثل في اصباغ الشعرية على مفاصل الرواية وبالتالي تشعير السرد من ناحية اما من ناحية اخرى فقد كان للمونتاج فعل التعالق و الانزياح والتناص لاخراج المعنى السردي من فجاجة الملفوظ الى عوالم متحررة تقترب منه ولكن تقدم الصورة والمشهد شفافة متسقة متناسقة...
ا============
2- المونتاج ورد نهايات الاستهلال على بداياتها
ا==============

عمد الروائي كمال الرياحي بروايته البيريتا يكسب دائما الى تسخير الخيال لخدمة اللقطات ثم الفصول وصولا الى مجمل الرواية ..وذلك بغية ادراك تعدد تأويل الصورة المشهدية وابراز مناشط التخييل مع كل متوالية نصية او مقطعية ..
يكتب كمال الرياحي فصول روايته معتنيا ببداياتها واستهلالاتها السريعة ومنتبها الى نهاياتها المتوترة.. فحتى وان كان هذا عمل المونتاج فان ما اضافه سرد كمال الرياحي يتمثل في كيفيات رد البداية بكل فصل على نهايته دونما تراخ ودون الخروج عن لب القضايا والوقائع على طريقة سرد (يوسف ادريس) [ أرخص ليالي / نظرة ]بتكثيف وايحاء يجعل من نهايات الفصول تنتهي على نحو عاجل ..
وعلى طريقة موبسان وللتدليل على ما نقول نذكر قصة (قاتل ابويه) (Un parricide) حيث يقع الاسراع بالبداية التي تفكر بنهايتها كما بهذا المقطع من القصة الانفة الذي يرد البداية على النهاية[ لقد دافع المحامي عن الجنون ،وان لم يكن كذلك،فكيف تّفسر هذه الجريمة .. لقد تم العثور على جثتين ]..
كما لا يفوتنا ان الروائي كمال الرياحي يبني النهايات مراعيا بداياتها.. على طريقة علي الدوعاجي بقصته (مجرم رغم انفه) اذ يستهلها باظهار حالة مكفهرة غي اجواء محطة القطار[ قد كان جو المحطة مكفهرا من دخان القاطرات.. (ليقول) تنيره مصابيح ضئيلة]..
هكذا رد النهايات على بداياتها تتطلب مونتاجا تخييليا يجعل من البداية السردية ايحاء وصفيا ينبئ بمصير الشخصية خاتمة النص..
انه يبني النهاية والبداية بالفصل بموقعا الاستراتيجي وبنفس خطة التأليف الني تترافق فيها وحدة البناء واتساق التصميم والجملة السردية الحاذقة والبداية السريعة ..لتشكل بالنهاية قفلة الفصل ونهايته مدهشة كاسرة لافق انتظار القارئ..
وهذه الخصيصة تطبع قفلاته بانفتاحها على الادب العالمي انبناء اذ تذكر بقفلات نصوص ميكسيم چوركي حبن يخطف اللحظة الزمنية الهاربة ليؤسس مسار السرد..
تعتمد هذه الطريقة في المونتاج على ادراك متقن للمكان .. يلجأ كمال الرياحي في عمليتي ربط الفصول اعتمادا على رد البدايات على نهاياتها الى تفضية المكان الذي يجعله خادما لبنية النص ومقصده وذلك بخلق المفارقات لاحداث الدهشة ومضاعفة التوتر لدى قارئ روايته..
وهذا وان دل على شيء فإنما يدل على ان تقنية المونتاج موظفة ببراعة الكاتب الروائي المتقن لاساليبه والواعي بشخصياته وبكيفيات ادارة الوقائع في امكنتها.. وداخل ازمنتها..
واكثر تدل استعمالات تقنية المونتاج على قدرة الكاتب على التقاط الحدث المكثف المقتصد في جانبه الكمي ونظام توسعه المشحون باللفظ الدال والوصف الخاطف واللغة الايحائية التي تتوسل الكشف عن المغزى السريع والبعد الانساني للكتابة السردية..

ا==========================
خلاصة *
ا========
إذا كانت السينما قد استفادت من تقنية التبئير الروائي وحاولت تطبيقها في عملية الإخراج والمونتاج السينمائي فان رواية كمال الرياحي قد استفادت من السينما ومن كل امكاناتها التقنية الجد?

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم