أسامة غانم

نعثر في رواية (خاتم) للروائية السعودية رجاء عالم على شفرات متداخلة متقاطعة: ثقافية – سوسيولوجية- جنسية، وهي تشكل الجسد المزدوج (البطل) وتصنع المعنى، وبغياب الجسد يغيب المعنى برمته في السرد، باعتباره (أي الجسد) نقطة التقاء وتنظيم لهذه الشفرات المندمجة، والمحتوي على المعنى الكلي، وفي الوقت ذاته تكون بنى الشفرات هنا مشتركة في صناعة بنية النص وبنية الجسد، وبتداخلهما تتحقق الشعرية- الجمالية للسرد الروائي، فالسرد لدى الروائية رجاء عالم يختلف عن السرد الذي يحمل الطابع الذكوري، من حيث الرؤية ، والتجربة، والمخيلة ، فهي تهدف الى تكسير النموذج السردي الذكوري بتفتيت الوحدات السردية وتعرية عجزها... تحطم نموذج الحبكة الذكورية لتترك النص هشيما، كما يقول الناقد عبد الله الغذامي، وعليه تتحقق هنا أسبقية الجسد على النص ، بمعنى ان النص يخرج من جسد لا هو بالأنثى ولا بالذكر ، وهذه الرؤية تقع ضمن الشفرة الرمزية التي تعتمد على الجسد الإنساني بوصفه كلية النص، وبهذه العملية ينتج النص المشفر.

ومن خلال الجدلية – الجنسية، تتكشف لنا العلاقة المتناقضة داخل الجسد، وتميزه عن الآخرين ، وتوحده مع العالم ، وغربته مع الواقع، ويتحكم بهذه العلاقة الوعي الذي تمتلكه خاتم ، وعي يتصف بالكثافة، يعمل على تعميق الإحساس بالانقسام داخل جسدها، واختلافه، ففي هذه الحالة يكون هنالك جسد مزدوج ووعي متداخل ، غير متناقض، منسجم ، ومنهما نستخرج المستويين التكويني والدلالي لشخصية خاتم، والتغلغل الى أعماقها غير المستقرة، القلقة، التي تصبو الى الوحدة والتكامل ، بعيدا عن هذه الازدواجية، والتمزق بين اتجاهين مختلفين، لكن هذه الازدواجية تتوقف تجاه الخارج، لتمارس وضعها الحقيقي المفروض عليها بيولوجيا والمحكومة به اجتماعيا.

ان رجاء عالم تتجاوز النظرة التي ترى في الأنثى الجانب السلبي الضعيف للكائن الإنساني الخاضع للرجل، وفي الذكر الجانب الايجابي القوي المخضع للأنثى ،ونلمس ذلك في خاتم الشخصية الإنسانية المركبة، التي صورتها الروائية بقصدية عالية ودقة عميقة، ولتفسر الاجتماعي بالفردي ، وان الموجود الإنساني ليس هو الخنثى، وانما الإنسان : الأنثى والذكر، الإنسان الذي فيه الطبيعتان الذكورية والأنثوية، فأنهما الحياة وجوهرها الإنساني. 

منذ بداية الرواية نحس بأن هنالك شيئا مفقودا أو غائبا عن القارئ: (انشق غشاء الخضرة وبان ما بين ساقي الوليد، بإصبع مرتعد أشارت سكينة لما بان ، وجاوبها اصطكاك أسنان الشيخ نصيب – ص7) ، انها الشفرة الغائبة التي يبنى النص عليها، انها الشفرة التي تعمدت الروائية ان تخفيها، انها حقيقة خاتم، وهذه الحقيقة لا تكشف من قبل الأخوات والجواري، الا بلحظات قبل مقتلها في نهاية الرواية ، فتكون حقيقة مطعمة بالمرارة والخديعة لديهم، فلقد ارتسمت على وجوههم المذهولة (نظرة هي مزيد من دهشة على ذعر وغيظ وغدر ذاك الاكتشاف- ص31) لقد رأوا السر- الحقيقة أخيرا، بينما القارئ يعلم به مسبقا دون ان يراه، لانه كان قد فك رمز هذه الشفرة أثناء القراءة المتوارية في الكلمات ، فالرؤية والمعرفة انحصرت بالأم سكينة ، والأب الشيخ نصيب فقط، وان القراءة العميقة للرواية تستدعي ميدانا دلاليا من الكلمات ، فالقارئ – الناقد ينتقل عبر الشفرات من النص الى لا تناهي الشفرات ليكشف المعنى(1) ، وهذا يدفع بالقارئ لكي يتجاوز السر السؤال الذي يقول : ما هو ؟

والموقف هذا يتشابه مع موقف سارازين بطل رواية سارازين لبلزاك، حيث يكتشف الخديعة التي وقع فيها، وحقيقة المرأة التي أحبها زامبنيلا كونها ( كونه) لا امرأة ولا رجل ، فإنها (حقيقة مريعة الى نفسه)(2)، فالقارئ هنا لا يكتشف تلك الحقيقة- السر ، الا مع سارازين قبل مقتله في نهاية الرواية على يد رجال الكاردينال سيكونيارا ، عشيق زامينيلا، فقد كانا يعتقدان بانها (المرأة ، بكل مخاوفها المفاجئة، وكل نزواتها الطائشة، واضطراباتها الغريزية، واجتراحاتها من غير سبب، وتبجحاتها ، ورقة مشاعرها) (3)، بينما هي إمراة زائفة ، وولد مزيف في خاتم ، وفي كلتا الروايتين سارازين وخاتم ، تكون شفريتهما الرمزية : التشوه، الذي هو المحور الرئيسي لهما، أي لا طبيعية الجسد . 

من هي / هو خاتم ؟ تقول زرياب لرفيقاته في المبغى:

بنت في ثوب ولد، مثلما خطفونا من أهلنا خطفوه من جسده، نقلوه لجسد، لا هو بالذكر ولا بالأنثى، في الأفراح والولائم أنثى، وفي الصلوات ذكر، أي لغة يمكن لجسد هذا الإنسان ان يتكلم؟ لو استراح للغنج واسترسل فمن أين يجئ بالرجولة لحمل ثوب؟ جسد محبوس في لغتين ، صار للشك في الوجهين لا هو يستريح للأنثى ولا للذكر- ص22. 

ان تأويل ( أي جانب من جوانب النص يعد تأويلا لواحدة من الشفرات " القوة الغائبة " التي تعمل بصمت في عوالم المعنى المضطربة ضمن إطار " شبكة اللغة المتاخمة" التي تشكل انسيابية النص) (4)، بمعنى انتقال الدراسة الباحثة عن المعاني على مسار واحدة من الشفرات ، الواقعة خارج نطاق النص، وفي استطاعتنا القول بان عملية تفكيك الشفرات تعطي المجال لإنتاج نص آخر. 

وكما قلنا فان النص محصور في الجسد، المهيمن عليه هيمنة مطلقة، والذي يكون حاضرا في جميع ثناياه، وصوره المختلفة، بتناغم وانسجام ، والخاضع لدلالات تأويلية لا تخفي على القارئ: الجسد – المطر، الجسد – الآذان، الجسد- العود ، الجسد- الغناء، الجسد- الحجارة ،الجسد- الرؤية، الجسد- النور. الهواء . الصوت .

الجسد يخلق الجسد، من الجسد ينبعث جسد، وذلك باتحاد المرأة والرجل، اما في رواية خاتم، فالجسد معطل، ولا يستطيع القيام بفعلا الأنوثة والذكورة، فهو معطل عن خلق الحياة (لماذا لا يطاوع جسدي فيستسلم لهذه الرغبة الحارقة لاحتواء جنين بجسدي، ولا يستسلم للرغبة في الانصباب لجسد؟! . ص27) ، رغبة خاتم اللا محدودة في إعطاء الجسد هوية مستقلة مختلفة عن الآخر، لكن هذه الرغبة تبقى واقعة في ميتافيزيقيا الحضور، ويبقى الصراع محتد داخل الجسد، وفي حالة ألم، اما تجاه الخارج فيتوحد ، ليتوجه في محاولة بناء علاقة متوازنة معه، تتسم بالمثالية، متمثلة في اتحاد الجسد بالأشياء، لتكون البديل عن الآخر الطبيعي ، (العود جسدي، هذا الكون الذي يعنيني. ص24) . رغم ان مركز الكون : الجسد، وفي موضع آخر من الرواية ، يكون العود/ الموسيقى هو الجسد الآخر بالنسبة لخاتم، لتعاشره معاشرة جنسية مثالية ( خاتم لم تكف تهرب وتعاشر العود عند زرياب الحلبية. ص22)، انها معاشرة مبتورة، غير طبيعية، فليس من الممكن ابدا ، ان تعاشر الانا – الانا بل الانا – الانت، ومن هذا يتشكل عندنا معنى سوسيولوجي ودلالة جنسية، مفهومة في هذه العملية التي تحدث، من خلال منظور معقد، ينتج عنه بنية دلالية، تصب في انزياحات الجسد، وإحالاته المتعددة (زرياب تقودها للتخاطب مع جسدها دون رجل- ص20)، ليس هذا فحسب، بل أنشئت زرياب طقوس طوطمية أثناء حصول هذه العملية، حيث تقوم بنزع ثياب خاتم (مفترشة الأرض العارية- ص19) عارية ، فمفردة الفراش تحلينا من خلال المفهوم اللغوي الإيحائي الى العملية الجنسية، هنا خاتم والأرض عاريان والعود محتضن، هذا المشهد سوف يعطينا تأويلات مختلفة، وتفسيرات تنتمي الى الشفرات: الرمزية، الدلالية، الإيحائية، تدفعنا للتفتيش في النص ، للحفر فيه، من اجل العثور على الصور السلبية ، الملحقة بالصور السردية، والتوصل مع زرياب الحلبية الى الأسرار الخفية عن جسد خاتم، التي تعرف ( ما لا يعرف ، وكتمت حتى عن نفسها ما تعرف- ص22). 

ان غياب الهوية الجنسية في الجسد ، تعمل على نشوء ممارسة سوسيولوجية مزدوجة، منقسمة، متناقضة، ففي الصلاة يوم الجمعة : غلام ، وفي الأعراس: صبية، لكن (في اللحظة التي يتقابل فيها شيئان متعارضان فان من الممكن توقع التحامهما)(5)، وتعبر خاتم عن ذلك الوضع بدقة حينما تقول :

انا لا أطيق البقاء مع أخواتي في المبيتات ووراء البرقع، أحب نظر الناس في عيني ونظري في عيون الناس على الطريق، لا أطيق خروج الحمارة دون ان أكون على ظهرها، أحب الاختباء وراء أستار الشقدوف، لأنصت لأخفاف الجمل على صخر الجبل، أريد ان أرى وأريد للأشياء ان تراني ، أحب النقلة بين الشيء وما بعده وقبله او وراءه او نقيضه، أحب مراقبة النساء، الدخول في مجالسهن ، وأسرارهن لكن لا أريد ان أكون سرا محبوسا هناك، لا أريد ان أختبئ وفي الوقت نفسه لا أريد ان انكشف- ص12- 13. 

ترفض الاختباء، ترفض الانكشاف، لعبة مزدوجة خطيرة بالنسبة لها، وهذا ما يبدو لنا في الظاهر، لكن ما تريده، وما ترغب به، وما تصبو اليه، أعمق من هذه اللعبة، انه حلم الإنسان، الذي يشترك فيه المرأة والرجل ، انه الذي يحولها ، الى النور/ الهواء / الصوت، انها : الحرية، (فالحرية في الإنسان لا تتجزأ وإذا منحت المرأة الحرية لتتكلم ، فسوف تقود حرية الكلام الى حرية التفكير وحرية الفعل)(6)، حرية يقودها الوعي، فالوعي بالآخر ، بالعالم، يعمق الوعي بالذات، فليس في مقدرة الوعي الانفصال عن الجسد الذي يحمله، وعليه لا يمكن اختزال الوعي والجسد ببعضهما، الا انهما دائمي الارتباط، لكن ما وظيفة الوعي في هكذا جسد؟ وما هو موقفه تجاهه؟ اذا عرفنا ان الوعي الجسدي- الجنسي يوجد في خاتم في صفة تعارض وتعاكس، على ان هذا التعارض ليس تناقضا انه جدلي- حواري، فان وجود الجسد بهذه الوضعية، يحدد وظيفة الوعي في الصراع من اجل السيطرة على الجسد، فلقد قام الوعي بترويض جسدها – بالاشتراك مع مجهولية الجسد للآخرين- وتكيفه مع الظروف الاجتماعية كما شاهدنا ذلك، وان معرفة خاتم بذاتها ، تعمل تغييرا موضوعيا، بنيويا . 

فالشخصية الروائية خاتم، لا يمكن فصلها عن العوامل الاجتماعية الموضوعية، والتعامل معها على انها فرد فقط، فلقد ابتعدت رجاء عالم عن النظرة (او الرؤية) الزائفة اللاعقلانية للشخصية، في وسط مغلق، بل كانت خاتم شخصية عامة، متفتحة، غير مفصولة عن المجتمع، ولم تجرد من صفاتها الإنسانية، ولم تكن تكتفي بذاتها وتستقل به، فهذه الشخصية لا تتطور بمعزل عن الواقع الموضوعي، بل كانت مركزا لبؤرة المعاني المشفرة، والتناقض المرعب بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي، ويلخص باختين هذه الرؤية على النحو التالي( كل عمل ادبي اجتماعي بالضرورة، وان تلك الاجتماعية داخلية بالنسبة للعمل ومحفورة بعمق فيه)(7)، والرواية تنبع من هدف واحد: تصوير كلية الحياة الاجتماعية ذات البطل الإشكالي، هكذا اذا (ففهم اثر أدبي ما ، يعني توضيح علاقته برؤية العالم ضمن البنية السوسيولوجية الشاملة)(8).

ان السرد يتضمن ثلاث قصص هي : قصة خاتم الخنثى- خاتم العواد، قصة خاتم – هلال ، وقصة خاتم- سند ، وان كل واحدة من القصص الثلاث تمتلك محورها الخاص بها، الا أنها تنتمي الى المحور الرئيسي الا وهو جسد خاتم، وفي نفس الوقت تتجاوزه الى فضاءات شاسعة تحت جناح الرمزية- التأويلية، ولهذا (ينبغي ان نعد أي سرد له ثيمة، سردا رمزيا لا واقعيا)(9)، وليس هذا فحسب، فالشفرة الرمزية تتسيد الرواية، تبدأ الرواية بانبعاث سند، خاتم ، هلال الى الحياة وتنتهي بغيابهم ثلاثتهم سوية، ففي الموت ينتهي الجسد : الألم ، الوعي ، العالم. 

ونلاحظ ظهور الدلالة الطبقية بجلاء، عندما تتعمد رجاء العالم بوضع الفوارق الطبقية الحادة بين الشخصيات الثلاث، فخاتم ابنه ثري من أثرياء المجتمع المكي، وهلال ابن مهاجر من خارج الجزيرة، وسند ابن عبد، وتمتد هذه الفوارق الاجتماعية – الاقتصادية ، لتشمل الدار الكبيرة المؤلفة من ثمانية طوابق ، والفناء من خلفها يتألف من المقاعد السفلية للمهاجرين، والأقبية للعبيد، والإسطبلات للحيوانات، والدار تقع في الجانب المسمى النعيم، المقابل للجانب الآخر الحميم او الجحيم، يفصل بينهما مسجد مهجور لا باب له، والعالم المحظور يتشكل من بوابات(ازقة) : السراق، والبغايا، والبائسين، والتنابلة، وجميعهم يعيشون على هامش النعيم، أناس سحقتهم الحياة، الى حد انهم محصورون في عالمهم الذي حكم عليهم، بأنهم شاذون ومختلفون ومتخلفون، ولكن في هذا المنفى تعثر خاتم على جسدها في شهقة المومس زرياب الحلبية، وتكتشف مجاهله ، وتحس بالألم فيه لأول مرة.

وتستخدم رجاء عالم الأفكار الحوارية، وأفكار الشخصية كمرآة ، كمتاهة ، كلغز، في استجلاء المعنى، وليكون مفتاح الشفرة الخفية (حذرت خاتم قلبها: " لا تعبر الجسر، هو جسر سراق، من يعبره بنصك قلبه للأبد ويذوب المفتاح، جسر قام ليخطف المفتاح- ص9)، انها شفرات احالة: الجسر، المفتاح ، وشفرة رمزية : الجسر/ المحظور، والمفتاح/ الحرية، وهذا نتوصل اليه من خلال الخطاب الروائي، وكذلك نتوصل الى شفرة الباب السرية، حيث يجعل السارد حكاية خاتم موازية لحكاية الباب، ونعثر على دلالة الباب التأويلية في الفقرات التالية:

- حكاية البيت انطلقت، ربما من باب قام من زمن متأخر بآخر الدهليز، لم يكن الباب موجودا في جسد البيت الأصلي، لكنه ظل موصدا بلا مفتاح لزمن، حتى شمله النسيان فانفتح دون ان يعتني بانفتاحه احد – ص5.

- باب الدهليز لم يكن له وجود يوم دخل سند نسل نصيب، ولا حتى حين حملت سكينة يوم البرد ووضعت طفلها الذي لم تطلع عليه قابلة، ليلتها لم تقم في الدار أبواب داخلية- ص6.

- على لحمة الباب انتصب جسد منقوش بضربات سكين ، خط ودائرة الرأس مضروبة بعنفوان شفرة، إنسان مجرد أشبه بمفتاح تركته يد طفل محبوس وراء ذلك الباب- ص11. 

- حين مست اليد خاتم توقف قلب الشيخ نصيب، ببياض عينه يجحظ لا على خاتم وانما للباب الدخيل يصفق بآخر الدهليز، لأول مرة أدرك ان خيالا كان منقوشا هناك وزال الآن – ص31.

حكاية الباب تنتهي بهذه الجملة الإخبارية الكلية ( ان خيالا كان منقوشا وزال الآن)، هنا نستطيع من خلال الخطاب السردي، العثور على رمزية الباب في شفرته الاحالية، وترابطيته بالجسد، فالجملة ( على لحمة الباب انتصب جسد منقوش)، احالة واضحة وصريحة لجسد خاتم، والفقرات تلك تبين مدى التداخل السردي، والترابط المعنوي، والالتحام الصوري بين جسدي خاتم والباب.

فالجسد يعثر على حريته في انفتاحه على الآخر، بلا قمع او قسر، ويحقق هويته في العملية الفسيولوجية الصميمية، ولكن في وضعية خاتم ذات الجسد المثالي، فالعملية تصبح مثالية ايضا، والعلاقة مع الأشياء تكون غير مرئية، وأحاسيسها المرهفة الرقيقة لا احد يشعر بها باستثنائها:

وجاء همس الريح في حجارة المحراب: 

" صلوا على ابينا نوح، صلوا على أبينا آدم.. " أسندت شفتيها لحجارة المحراب وهمست:

" صلوا على أمنا حواء.." – ص14.

فهي وحدها تتناغم مع العالم المحيط بها بانسجام وتجانس صوفي ، فالجسد يصبح محور وجودها، محور عالمها، فعبره تتحاور مع الأشياء، مع الوجود، مع العالم، خاتم عبرت عن ذاتها بكل صدق وشجاعة، بكل حرية، لأنها اكتشفت السر الذي ظل غائبا عن الجميع بمن فيهم : سكينة- الشيخ نصيب- الشيخ مستور- سفر ياقوت- الشيخة تحفة، فقط كانت زرياب الحلبية تعرفه، وقادتها اليه بشهقتها السحرية، انه سر الحياة، ديمومة الوجود الانساني، والفناء فيه، لا يهم نوع الجنس، أنثى او ذكر او الاثنين معا ، هذا السر تعطيه رجاء عالم بعدا أسطوريا لا يحس به القارئ لأول وهلة، وبما ان الواقع الروائي جزء من هذا السر، عليه أصبح الواقع الروائي بكل تناقضاته وأضداده ومفارقاته، واقعا أسطوريا مشبعا بالمعاني ، وخاتم تعي واقعها بكل وضوح، فلقد اكتوت بنار التجربة، وبألم التجربة، وبرؤية التجربة ، تجربة تشبه تجربة سدهارتا بطل هرمان هيسه، تختلف في التفاصيل وتتشابه في صورته الإنسانية للعالم، انهما شخصية الإنسان الباحث عن نفسه بين الناس وبين ذاته، لذا لا بد من ألم التجربة الإنسانية، التي تقودنا للمعرفة، فـ( العالم ايضا معرفة)(10)، وهذه المعرفة أعمق من (الصوت والجسد القابلين للتحريف بثياب انثى او ذكر- ص21)، لانها تخضع لسلطة الوجود، السلطة التي تمثل علاقة قوى، ولان كل علاقة قوى هي علاقة سلطة مؤسسة لمعرفة، فالجسد يصبح علاقة قوى وجودية في السلطة- المعرفة، (يرى ويُرى- ص26)، فالجسد- البؤرة ، يرى ويتكلم ويكتشف، ضوء ولغة ومعرفة.

تقول ناتالي ساروت: اذا أراد القارئ ان يحدد ماهية الشخصيات فعليه ، بالتعرف عليها من الداخل. ولنلاحظ ان لعنوان هذه الرواية (واسم الشخصية الرئيسة) ، خاتم معنى رمزيا ودلالة، مع قصدية التسمية لإعطاء مدلول معرفي، فالمصدر الثلاثي للاسم (ختم) يدل على وضع إشارة ما على شيء ما – جسد، جلد ، قماش، حديد ، خشب، ورق...الخ، بمعنى انه يترك في عمليته هذه : وشم ، حفر ، نقش، وفي بعض البلدان العربية يأتي اسم خاتم مرادفا لـ(المحبس)، وجميعها تكون على شكل دائري، وتاتي الدائرة عند الحلاج في الطواسين، مغلقة على الحقيقة: النقطة في وسط الدائرة، والدائرة ما لها باب، والدائرة في أساطير العراقيين القدماء، تمثل الكون، المتكون من ذكر وأنثى معا، تمثل الكمال الانساني، والمحبس مشتق من الحبس/ السجن، هنا تتحكم ثنائية العبودية – الحرية ، الجسد المستبعد، والجسد الحر، وفي الأخير يتضمن لدى رجاء عالم اكتشافا للجسد كحيز انقلاب وتغير، وسيكون خ، ت، م ، خارج تاريخ الموت، ويتضح المعنى الأساسي ونفهم ان الخاتم اكتمال الرواية اكتمالا فعالا ، وانها الشفرة البوصلة.

تتسيد ميتافيزيقيا الحضور/ الغياب ، ثنائية الجسد، حضور الذكر وغياب الأنثى، أو غياب الذكر وحضور الأنثى، في تبادل المواقع، في تبادل الأحاسيس، في تبادل وجهات النظر، في الرؤية للعالم، ازدواجية مخيفة ينشأ عنها ألم فظيع، ووحشة ،ووحدة عميقة مسكونة بالانقطاع، وجسد يتقاسمه قلبا واحدا ، ولسانا واحدا ، وشعورا حادا بالانقسام، باللاتكامل، انها حالة إنسانية مصابة بالتمزق والمعاناة.

أتريد رجاء عالم ان تصرخ مع هاملت من خلال شخصية خاتم؟ (ما أعجب الإنسان من كائن، ما أسمى ذكاءه، وما أبرع عقله وحصافته! ما أشبهه بالملك في عمله الطيب، وما أشبهه في إدراكه ببعض الآلهة! انه أجمل شيء في الكون)، رغم تشوهه الجنسي، فان روح الانسان مهما كان جنسه، لاتقهر ، لا تحبط ، وبتغلغل وعيه السوسيولوجي الى اعماق جوهر علاقاته الإنسانية ، غير المشوهة ، غير المتناقضة، ولكنها في المستوى الجنسي تكون غير متكاملة ، كما في رواية خاتم، لان الفعل الإنساني – الجنسي مفقود، مما يسبب لـ(خاتم) انحرافات في صميمية العلاقة، وانزياحات في سايكولوجيتها الاجتماعية، هذا إعطائها ان تمارس حياتها اليومية بازدواجية متقنة تكاد تكون بالنسبة للآخر طبيعية، لا تثير الشك، ولا تثير الفضول لديه، لان هكذا نوع جنس نادر.

أدركت خاتم بتجربتها الحسية المكتملة على يد زرياب الحلبية، في بيت البغايا- لاحظ ان خاتم قد اكتشفت جسدها، وعثرت على البديل في الحجرة الضيقة لزرياب المُنتهكة، فلقد علمتها زرياب العزف على جسدها وعلى العود – باللا توافق الجسدي مع الآخر، فالإحساس بالتوافق أمر فردي يتأثر بالعوامل الجنسية- السوسيولوجية- الثقافية، لذا لجاءت خاتم في بداية أمرها، يقودها لا وعيها للنقاقير، للتعبير عما يجيش في نفسها من حزن ، وألم، وغضب، بدون كلام، ثم يتحول هذا الأمر بالعود الى المثالية الجنسية- التسامي بالمفهوم الفرويدي – والاتحاد بالعالم عن طريقه لتشكيل هارمونية كونية، ليصبح بعدها العود هو الكون، فعبر هذه العملية تتوزع الشفرات السرية في سردية النص: 

حين علا نغم الزير شعرت خاتم بعصارات جسدها تجيش ، يصحو في جسدها صيف حراق ، يتصبب العرق على نحرها، وتشعر به يسري بجسدها فيبسطه على قبة البروج الجهنمية من السرطان مرورا بالأسد للسنبلة، في جسدها سماء من ذروتها حتى مغربها، ويقبض جسدها على شباب مشحون بقواه الجذابة ، كل من يعبر من طير ونور ينجذب لعريها المنطوي على العود- ص19.

وقد نقرأ هذه الفقرة على الشكل التالي: 

يتمثل لنا في هذا الشكل الشفرات المختلفة في تجانس، وتداخل مع بعضها البعض بقوة الموسيقى الهارمونية الكونية، فالشفرة ( نسق من العلامات يتحكم في انتاج رسائل يتحدد مدلولها بالرجوع الى النسق نفسه، واذا كان إنتاج الرسالة هي نوع من " التشفير" فان تلقي هذه الرسالة وتحويلها الى المدول هو نوع من " فك الشفرة" عن طريق العودة بالرسالة الى إطارها المرجعي في النسق الأساسي)(11) ومنها نستدل على قبة البروج الجهنمية، ونكتشف موقعها في جسد خاتم.

عند قراءتنا للنص الروائي(خاتم)، لا يمكننا الا الوقوف عند اللغة التي تكاد تشكل لرجاء العالم المادة الأساسية ، فاللغة عندها، لها أسرارها، وخباياها ، وعوالمها، وأفلاكها، لانها لغة قوية، متماسكة، مبهرة، مدهشة، ممتنعة، انها لغة خاصة لرجاء عالم، كالقلعة الحصينة بأبوابها المختلفة، وطرقها المتنوعة، لا نتمكن من الدخول والوصول اليها الا عبر ممراتها السرية، بعد قراءة مرهقة، وجهد مضاعف، انها تهشم اللغة من اجل إعادة تشكيلها في أفق الميتالغة، مخترقة بها فضاءات السردية الذكورية وحتى النسائية، بدمجها للسردية اللسانية والدلالية بأعمق المستويات، ولتأسيس جدلية المعنى، فاللغة أساس المعنى/ الشفرة ، حيث تجعل (النص، والإبداع هو الأصل الذي يلتقي عنده المؤلف والقارئ)(12) ، كما يقول د. عبد الله الغذامي.

ومن خلال القدرة المشفرة لهذه اللغة تتعمق شخصية خاتم المأساوية، وتتحد العلاقة التبادلية بين القارئ والشخصية، وبين الراوي والشخصية، وبين القارئ والمؤلف، وفي هذه العلاقة يتفكك الاتساق، ويتم الاكتمال الرمزي/ الجسدي للشخصية، ومنها تبرز سيطرة اللغة التامة على البنية النصية، بالإضافة الى ذلك، تعمل هذه اللغة ( على تعرية الرواية، من خلال إظهار مادية اللغة، بحروفها وكلماتها وجملها- سونيا ميشار) ، وتعمل ايضا على تحويل مرجعية النص التاريخية – السوسيولوجية الى إيحائية دلالية، ولكن تبقى هذه المرجعية مرتبطة بها بالخفاء ومنها تكون رواية خاتم، رواية جسد : يرى ويتكلم ويكتشف، ورواية ضوء ولغة ومعرفة. 

الهوامش والإحالات:

1- س. رافيندران ، البنيوية والتفكيكية : تطورات النقد الأدبي، ت: خالدة حامد ، ص83، دار الشؤون الثقافية، بغداد 2002.

2- بلزاك، سارازين، ت : محمد معتصم ، مجلة الثقافة الأجنبية، العدد، 1/ 1991، بغداد (كتاب العدد).

3- رولان بارت، نقد وحقيقة، ت: د. منذر عياشي، ص15 ، مركز الإنماء الحضاري، دمشق ، بلا تاريخ.

لم اخذ هذا المقطع المستل من قصة (سارازين) من النص المترجم من قبل محمد معتصم بل اعتمدت على المقطع المترجم من قبل الدكتور منذر عياشي المتضمن في مقالة موت المؤلف لبارت ، المنشور مع كتاب ( نقد وحقيقة).

4- البنيوية والتفكيكية ، ص96.

5- تزفتيان تودوروف ،المبدأ الحواري : دراسة في فكر ميخائيل باختين، ت فخري صالح ، ص132، دار الشؤون الثقافية ، بغداد 1992.

6- نوال السعداوي، الأنثى هي الأصل، ص150 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1974.

7- المبدأ الحواري ، ص15.

8- جاك لينهارت، قراءة سياسية لرواية الغيرة، ترجمة وعرض : إبراهيم الخطيب ، ص129 ضمن كتاب (البنيوية التكوينية والنقد الأدبي) مؤسسة الأبحاث العربية ، بيروت 1984. 

9- البنيوية والتفكيكية، ص78. 

10- جيل دولوز ، المعرفة والسلطة: مدخل لقراءة فوكو ، ت : سالم يفوت، ص131، المركز الثقافي العربي ، بيروت، الدار البيضاء- المغرب 1987.

11- اديث كيرزويل ، عصر البنيوية، ت: جابر عصفور ، ص266، دار آفاق عربية، بغداد، 1985.

12- نقد وحقيقة ، ص11 (المقدمة) .

• رجاء عالم ، خاتم (رواية)، كتاب في جريدة رقم 56 (السنة الخامسة)، 5/ 6/ 2002، مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية- مؤسسة الحريري، يصدر بالتعاون مع وزارة الثقافة ، بيروت – لبنان – وهي النسخة التي اعتمدت عليها في دراستي، وليس على نسخة الرواية التي صدرت عام 2001 عن منشورات المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المملكة المغربية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم