رواية برهان العسل.. قراءة سوسيو ثقافية
أسامة غانم
تقوم رواية ((برهان العسل)) للروائية السورية سلوى النعيمي على لعبة الاختلاف والتطابق، ففيها يتأسس الاختلاف في السرد – التأويل، والتطابق في الرؤية – المعنى، فالنص هو الاختلاف عينه، ونصيته هي اختلافه عن نفسه، ومن هنا، فان النص من خلال نصيته يأتي بنصوص أخرى، يدمجها، يستحضرها، لدعم النص الأصلي، ولتشكيل بؤرة مركزية، وهذا ما اشتغلت عليه النعيمي، عندما ملأت نصها بمقتطفات مستلة من كتب التراث تدور جميعها حول الجنس والمعاشرة، حتى محتويات الرواية لم تضعها على شكل فصول، بل عمدت إلى تقسيمها على شكل أبواب على طريقة كتب التراث العربية الإسلامية، وهذه المقتطفات المختلفة تقرأ أو تؤوّل ضمن أنها جزء من النص، وأنها ضمن المعنى العام الذي يقرأ بوصفه دلالة.
إن النص يخفي شيئاً ما، لذا يجب أن نكشف هذا الشيء، ونعلنه ونستدرجه، فالنص ينظر إليه هنا على انه لعبة تمنح المؤلف والقارئ إمكانية إنتاج معانٍ كثيرة، وعلاقات تواصلية لا نهائية محققة للعمل وجودة باللقاء بين النص والقارئ، ففي هكذا نص نعثر على الذات والموضوع، والذات والعالم، والمؤوِّل والمؤوَّل، وفي الاختلاف والتطابق – التأويل/ المعنى – يحدث اللعب، إذ أن لعبَ اللعب، هو تأويل التأويل، وتجلي المعنى، وفي الآخر تكون اللغة هي موضع اللعب.
أما الجسد في الثقافة العربية الإسلامية، فيكون شديد الحساسية والإرباك، شديد التوجس والحذر، وخاصة في النص الأدبي العربي المعاصر، الذي يتناول الجسد، جسد امرأة، امرأة تحكي عن مغامرات جسدها، وارتعاشاته، ولذته، وتشظيه في رغبته، وفناءه في الآخر، ولان (الثقافة تحرم الجسد المؤنث من حقه اللغوي العقلي وتحصره في حقل دلالي واحد لا يغادره ولا يخرج عنه، إلا إلى متاهات الإقصاء والإلغاء)(1)، عليه تصبح أية كتابة من قبل المرأة عن جسدها، ضمن سياقات وأنظمة هذه الثقافة المتموضعة في ذهنية الفحولة، معارضة ومخالفة، وتعمل على تخريب الذائقة السردية الذكورية المحفورة عميقاً في الذاكرة المجتمعية.
إن رؤية الساردة للعالم وللآخرين وللأشياء تمر عبر جسدها، وهذا ما تعلن عنه منذ أول سطر في بداية الرواية: هناك من يستحضرُ الأرواح، انا استحضر الأجساد. لا اعرف روحي ولا أرواح الآخرين. اعرف جسدي وأجسادهم ص13 الرواية. فالوعي بالشيء، ينبثق من خلال الإدراك الحسي، من خلال الإدراك الجسدي، ان الجسد هو الوحيد الذي يستطيع احتواء واستيعاب الأشياء والتلاحم معها وتميز وفرز الآخرين، ففي تجربة الجسد (= التفاعل مع الاجساد والعالم) تتحقق التجربة الإنسانية، التجربة الوجودية. يقول موريس ميرلوبونتي ((انني أرى اشياء العالم الخارجية بجسدي، المسها، اكتشفها، اطوف حولها))(2)، فالجسد هو الذي يوحدنا مع العالم، وهو الوسيلة التي نتوصل بها إلى صميم الأشياء، لذا لا جنس بلا جسد، ولا جسد بلا جنس، وبهما يتكامل ويتحقق الفعل الإنساني، باللقاء الجسدي بين الاثنين، بين المرأة والرجل، وبهذه الوحدة – الجنسية يتموضع ويتفصل ويتميز الأنثى عن الذكر.
لماذا اختارت الروائية ((برهان العسل)) اسماً لروايتها؟ قبل ان نفكك العنوان علينا ان نعبر عبر الغلاف الأمامي للرواية، إلى الرواية النص، ولو عرفنا ان سرد – الصورة يتطابق مع سرد – النص ، لان الصورة، تمثل الجسد الإنساني، رغم ان اللغة فيها هي لغة الجسد، ولغة الصورة المشفرة هي جسد النصّ الدلالة، والغلاف عبارة عن صورة امرأة عارية، راكعة على ركبتيّها، لا يظهر في أعلى الصورة إلا اسفل ذقنها وجزء من فمها، وفي الاسفل يظهر أعلى مؤخرتها مطوقة هي وخاصرتها بسلسلة مذهبة، ملتصقة على فخذ رجل عاري، بكلتا يديها وكل صدرها، وشعرها مسدل على ظهرها وصدرها في حالة فوضى، يقول بارت: هناك صور معينة، انها تمتع المؤلف بنفسه وهو يضع اللمسات الأخيرة على كتابه، فلذته هي الافتنان وبذلك تكون أنانية تماماً). ان الصور في هذه الحالة أساسية، لان لذة النص أساسية، ولذة المؤلف تظل موضع نقاش، في الكلمة والصورة(3).
برهان/ العسل! لنقرأ ما تقوله الساردة عندما تقابل الآخر الرجل:
- كنت أصل إليه مبللة وأول ما يفعله هو أن يمد إصبعه بين ساقيّ يتفقدُ ((العسل)) كما كان يسميه، يذوقه ويقبلني ويوغل عميقاً في فمي ص30 الرواية.
اما البرهان فهو الحجة، وقد برهن عليه أي أقام الحجة عليه، كما جاء في صحاح الرزاي، فـ برهان العسل = حجة الفرج = الحجة التي أقامها الفرج على الذكر.
تقول سلوى النعيمي: أردت أن أبرهن فعلياً على ان اللغة العربية قادرة على كتابة الجنس والتعبير عن الحميمي من قبل ومن بعد، وعلى ان لذة الجنس تحتل مكانة أساسية في هذه الثقافة بعيد عن مفهوم الخطيئة والدنس، عبر تداخل نصي الحديث مع الاستشهاد بكتاب قدماء مثل الجاحظ والسيوطي والنفزاوي والتيفاشي(4).
لقد أرادت سلوى النعيمي ان تذكرنا بان كتب التراث في الثقافة العربية الإسلامية تحتوي على الكثير من الكتب التي تتناول الجسد – الجنس، وهي مكتوبة من قبل فقهاء كبار وعلماء لهم بصمتهم الواضحة في الثقافة الإسلامية مثل كتاب (السحاقيات) للصميري، وكتاب (نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب) للتيفاشي، وكتاب (روض العاطر في نزهة الخاطر) للنفزاوي، وكتاب (رجوع الشيخ إلى صباه) مجهول المؤلف، وكتاب (طوق الحمام) لابن حزم الأندلسي.
ان برهان العسل (طرح سؤالاً اساسياً في علاقتنا بلغتنا العربية وبتراثنا العربي الإسلامي. لما نعيش هذا البتر المعرفي الذي يشوهنا؟ الذي يسمم علاقتنا حتى بأجسادنا؟).
لما نعيش هذا البتر المعرفي؟ ولدينا هذا الكم الهائل من كتب التراث التي تبحث في موضوعة الجنس، والجسد، يرى الباحث والناقد هيثم سرحان في كتابه (خطاب الجنس: مقامات في الأدب العربي القديم) ان الثقافة العربية تمتلك رصيداً أدبياً هائلاً لم يُقرأ ولم يُفكك ويؤول، يقول في ذلك:
الناظر في الظاهرة الجنسية في العالم العربي يكتشف ان الجنس موضوع محظور في التداول والتفكير والنشاط الإنساني، وذلك لان هناك اكراهات فقهية واجتماعية وثقافية تمارس ضده وتؤدي إلى حجبه وإبعاده وإغفاله، ولعل من المثير للدهشة أن الثقافة العربية تملك سبعة قرون من الكتابة الجنسانية في تراثها لكنها تمنع وتراقب وتعاقب من يقترب من تناول الجنس(5). ليس ذلك فحسب، بل أن التراث كانت له انتهاكات كبرى في مجال الجنسانية مثل الاستحواذ على مصادر الجنس واحتكارها من قبل الخلفاء والوزراء والولاة والقضاة، في حين كانت الجماهير تعيش بؤساً وحرماناً جنسيين، وتخضع لمراقبة ومعاقبة اذا قامت بسلوك جنسي يتناقض مع الأنظمة التي وضعتها السلطة، هذا الاختلال بحقل الجنسانية مكن خطاب الفقه من الخروج ببديل منهجي قائم على التحريم والتأثيم التدنيس.
لقد عملت الروائية على الاشتغال على التداخل النصي منذ الأسطر الأولى، بين السرد الروائي والنصّيات التراثية، بحيث شكل ذلك فسيفساء ملونة، جسدت الوحدة العضوية في جسد النص، وان هذا التناص حسب مفهوم جوليا كرستيفا ادى الى محاولة تقويض سلطة المحظور والخروج منه إلى سلطة المتخيل: (الجنيد الذي كان يقول: احتاج إلى الجماع كما احتاج إلى القوت، لدي حاجة عضوية للماء والمني والكلمات ثلاثة هي عناصري الاولية – ص 52- الرواية) فالماء دلالة ايمائية رمزية جنسية، ففيها التوالد والخصوبة والحياة، ولا حياة بدون ممارسة الجنس (= الفعل البيولوجي)، وبدون المني ، فالماء = المني ، وهذا يذكرني بما يقوله سليم بركات:
فلتكن المياه عربتي وجيادي
فلتكن المياه عصاي اذا اجتاز كالأعمى،
سراديب البطولة.
المياه المياه.
درعي المياه.
تبدأ الرواية بباب ازواج المتعة وكتب الباه وبجملة (انا استحضر الاجساد) وتنتهي بباب الحيل وبجملة (لم اعش حكايتي فضيحة)، والرواية تسّرد بضمير المتكلم (انا)، بضمير المؤنث للساردة التي لا تحمل أي اسم، وهي الصوت الوحيد، فهل الأنا هو صوت المرأة الذي تتحدث من خلاله؟ وتختلط علينا عائدية الأنا، ما بين الروائية والساردة، لان الوحدة التركيبية للرواية قائمة على الخطاب النسائي الواحد، وبناءاً على ذلك نرى ان عالم الحياة الذاتية الوجودية للمؤلف (هو ذلك الجانب من المؤلف الذي يتسرّب إلى النصّ، وبهذا يُقرأ المعنى او عالم الحياة الذاتية من طرف المؤول بوصفه معنى النصً، ورغم ذلك يتميّز معنى النصّ من النص، لأن ذلك المعنى يعزى إلى المؤلف، ان معنى النص، هو مضمون النصّ كما يتكشّف في أنواع الأنماط المختلفة: النفسية، والاجتماعية، والسياسية، والتاريخية، فهرمنوطيقا النصّ الأدبي هي تأويل للمعنى الذي يقرأه القارئ في النص)(6).
ولكن من يؤسس معنى العمل هو القارئ، وفعل تأسيس المعنى هذا إنما هو طريقة يُعرّف النص طبقاً لها، ولكن هنا المعنى يختلف عن النص، ذلك لأن المعنى يتأسس في القراءة.
هذا يقودنا إلى العثور على تطابق الرؤية (= التشابه في وجهة النظر، في نمطية الشخصية، في الفعل الوجودي) عند السادرة والروائية جزئياً، فكلتهما دمشقية: (دمشق مدينة طفولتي-ص53الرواية)، (سلوى النعيمي، شاعرة وصحفية سورية. تعيش وتعمل في فرنسا – صفحة التعريف بالمؤلفة) كلفت الساردة بكتابة دراسة بحثية عن الكتب الجنسية العربية القديمة بناءاً على طلب المكتبة الوطنية الفرنسية التي تعمل فيها كأمينة مكتبة، فتأخذ إجازة وتغادر باريس مع كتبها ومراجعها إلى تونس: (طلبت إجازة من عملي في المكتبة، حملت كتبي وهربت من باريس إلى تونس- ص51 الرواية)، الرواية كتبت ما بين باريس / تونس: (كنتُ أظن ان الكتابة في موضوع الجنس لم تعد من المحضورات لأنني كنت اقرأ ما يكتب، قلت هذا في النص نفسه ساخرة من الرقابة العربية في زمن الانترنت – الحوار)، بالإضافة إلى ان الساردة شاعرة وروائية (عدتُ إلى كتابة قصائدي الصغيرة – ص96. الرواية).
ولكن هذا التشابه ليس معناه تشابهاً حرفياً، وليس معناه ان السادرة في النص هي نفسها الروائية في الواقع، لا أبداً، بل هذا التطابق والتشابه، يقع في منطقة الما بين، بين التخييل واللاتخييل، حتى الفعل السردي مشمول بذلك، بالإضافة إلى التجربة، (فهي لاتسرد الحوادث إلى حدثت بحد ذاتها، ومع ذلك هي تقدم ادراكات حسّية ترمي إلى الإخبار، والإمتاع، والإثارة)(7)، للقارئ الذي يبني عالمه الخيالي أيضاً، وبالذات للقارئ العربي، المليئة ذاكرته التراثية بالأساطير والتخيلات الجنسية الجامحة كـ (ألف ليلة وليلة)، التي وضعها البعض في قفص الاتهام، بعد ألف عام، لمحاكمتها كداعرة تعمل على إفساد العقول، وتقوّض وتزعزع الأخلاق، رغم انها تعتبر من روائع ما أنتجه الفكر الإنساني، ورغم قيمتها الإبداعية والثقافية، وهي من أشهر كتب التراث في الثقافة العربية الإسلامية، ومصدر لكثير من الأعمال الإبداعية الأدبية في القرن العشرين.
لقد أحدثت سلوى النعيمي خرقاً في بنية الدكتاتورية اللغوية الذكورية، وخلخلة المركزية الفحولية المهيمنة على السردية العربية، والعمل على تكريس خطاب الأنوثة الذي يؤمن بالثنائية الجنسانية.
إن القارئ قد يكون مخطئاً في فهم النص على المعنى الذي قصده المؤلف – أحيانا يكون المعنى مراوغ – رغم ان سلطة النص مستمدة من التداخل النصي بين التراث واللحظة السردية في الرواية، فإذا قرأ القارئ النص، ثم يعلن رأياً قاطعاً يكون قد وصل إلى حالة التوحد مع النص، ليصبح متفرداً، لا يمس، بينما يظل النص مرجعياً من الناحية العملية، الا ان القارئ يصبح دكتاتورياً، والحقيقة تظهر فقط من خلال القراءة المختارة للنص، وان القارئ هنا وبالذات في هكذا رواية، يستطيع ان ينشئ أيضاً معنى النص، عن طريق اختيار مقاطع من النص لتقديمها إلى القراء، فيهدم مرجعية النص بعملية الاختيار هذه.
لقد ابتعدت المرأة في كتابتها عن لغة الرجل، بعد ان تعلمت منه فن الكتابة، ثم طورت نفسها، ووضعت لها أسلوباً خاصاً بها يميزها عنه، لذا لم يعد نتاجها مكرراً لنموذج الرجل، وبهذا اكتسبت وعيها، وحققت خصوصيتها، مؤكدة على وجودها كذات مستقلة غير تابعة للرجل، بعد أن تحررت من مخاوفها(8)، فتحرير الذات يعتبر في الحقيقة تحريراً للجسد، وفي رواية ((برهان العسل)) يتحرر الجسد من خلال الذاكرة والخيال، وان فلسفة الجسد التي يمكن التعبير عنها عبر المظاهر والحالات السوسيولوجية والثقافية، لا يمكن فهمها الا من خلال استيعاب عميق سوسيوتاريخي ورؤية شمولية لوعي الإنسان بجسده.
ان الذاكرة والخيال، مضافاً إليهما كتب التراث الجنسية، تحدد ملامح البطلة بها، وبهذه النقاط الثلاث تكون مكتملة، في تسطير رؤيتها لما ترغب، ولما تريد ان تعلنه، ولما تفضحه، بحيث أصبحت جزء من ثقافتها، ومخيلتها، وحياتها الجنسية، حتى تساؤلاتها كانت تتوقف عند معلميّها القدماء لأنهم كانوا اكبر من هكذا أسئلة:
هل كوني امرأة هو الذي يفخخ قراءاتي السردية؟.
أليس اعتباري لها سراً جزءاً من تلك التربية المخصية التي ربيت عليها. لماذا يمكنني ان اتباهى بقراءة الأدب البورنوغرافي الغربي والشرقي واخفي قراءتي للتيفاشي؟ ص22 الرواية.
ان الحفر المعرفي الذي قامت به سلوى النعيمي في جسد هذه الرواية، وفي جسد بطلة الرواية، هو الجمع بين الرمز والخيال والواقع، مستمداً نسغه من كتب التراث العربية الإسلامية الجنسية، ومعتمداً على الرؤية السوسيوتاريخية والايديولوجية والسياسية والسايكولوجية في انطلاق وتحرر الجسد باعتباره لغةً ونصاً مفتوحاً على كل الاحتمالات الممكنة للتأويل.
وبما ان الجسد الأنثوي حامل للعلامات فهو إذا يلتقي مع النص الذي هو نظام مفتوح من العلامات مع معانيها المتعددة، ولان القراءة تفكك النص بحيث أن العلامات من جهة أولى، تحقق الدلالة، والدلالة من جهة أخرى، تحقق معنى من خلال التأويل.
نقرأ في ((باب المفكر والتاريخ الشخصي)) الفقرة الآتية:
المفكر حكاية وحده.
قسمت حياتي قسمين ق.م: قبل المفكر وبعد المفكر.
كنت أصل اليه مبللة تماماً. يكفي ان أفكر فيه كي يفور دمي.
ألم يقل لي المفكر مرة، ونحن في المقهى، وانا أغالب شهوتي اليه في مكان عام: لم اعرف قبلك امرأة يعلن وجهها ((انتصابها)) ص29 الرواية.
ان الكلمات ((لم أعرف قبلك امرأة يعلن وجهها انتصابها)) هي البؤرة التي تلفت الانتباه، فقد يتساءل أي مرء من الذي يتكلم هنا؟ أكيد لا يمكن ان تكون الراوية، حتى بصورة غير مباشرة، ما دام تؤول شهوة البطلة على انه شبق، ولا يمكن ان يكون المفكر لأنه يعرف ان البطلة ترغب به بقوة، ان الصيغة ((يعلن وجهها انتصابها)) تعني عن اهتمام شخصية واحدة، شخصية ليست هي البطلة ولا المفكر، وإنما القارئ، فالقارئ هو الباحث عن الحقيقة، وهو المتتبع للخطاب السردي، رغم ان الخطاب السردي الروائي موازياً للخطاب السردي التراثي وأحياناً يكون متداخلاً مع الخطاب الآخر، إلا أنهما يكونان مستقلين، ويملك كل منهما خصائصه، ومميزاته، وتوجهاته الدلالية، إلا أنهما يخضعان لقرائية تأويلية موحدة، ذات اتجاهات متعددة.
وبالعودة إلى الصيغة ((امرأة يعلن وجهها انتصابها))، يكون معناها الدلالي الخاص المتمثل في نصية النص، غير معناها الدلالي العام المتمثل في ايحائية النص، فان دريدا يقول ان هناك ((نصاً عاماً ينقش، ويغمر عملياً، حدود خطاب تنظيمه، بشكل تام، الماهية، والمعنى، والحقيقة، والوعي، والمثالية، الخ))، مما يعني ان هنالك المعنى الغائب، الذي يكون باستطاعتنا استعارته ومواجهته مع الصيغة السابقة:
- قراءاتي السرية تجعلني اعتقد أن العرب هم الأمة الوحيدة في العالم التي تعد الجنس نعمة، وتشكر الله على هذه النعمة. ص43/ الرواية.
اما مفاجأة الراوية الكبرى للقارئ، فهي ان المفكر، لم يكن موجوداً نهائياً، وان حكايته كانت لعبة سردية اخترعتها الراوية:
- قلت له: كن، فكان كما خلقته انا بكلماتي ص147 الرواية.
ليس ذلك فحسب، بل تقوم الراوية بالتأكيد على ذلك، ان المفكر (كان حيلة) من حيل الكتابة، وهذا الشيء يعمل على قلب موازين المعادلة للرواية جميعها ويضعها في خط اللاحسبان واللامتوقع، واللجوء إلى منعطف خطير في قرائية تأويلية منبثقة من سردية فجائية، تظهر لأول مرة، لرسم مسارات ونهائيات، يشتغل عليها القارئ، فقط القارئ، وخزينه المتراكم من معارفه المتواجدة في فكره:
- يخطر لي الآن، وأنا أعيد قراءة ما اكتب، ان المفكر كان حيلة من حيل الكتابة وانه لم يوجد أبداً، ولذلك كان لابد لي من ان اخترعه. ص147 الرواية.
الهوامش و الاحالات:
- د. عبد الله الغذامي – ثقافة الوهّم: مقاربات حول المرأة والجسد واللغة. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. بيروت ط1 1998. ص83.
- د. يوسف تيبس – تطور مفهوم الجسد – مجلة عالم الفكر . العدد 4. المجلد 37. ابريل – يونيو/2009. ص56.
- ج. هيو سلفرمان – نصيّات : بين الهرمينوطيقا والتفكيكية. ت: حسن ناظم وعلي حاكم صالح. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. بيروت ط1 2002. ص191.
- حوار أجرته الصحفية ريم نجمي في قنيطرة مع الروائية سلوى النعيمي. أعادت نشره جريدة الوطن العراقية في العدد (27) 16/أيلول/2010، و أي اقتباس آخر للروائية الواقع ضمن قوسين وبدون ترقيم هو مستل من الحوار.
- حوار أجراه محمود منير في جريدة (العرب اليوم) مع الباحث والناقد الأردني هيثم سرحان في العدد 4990 في 6/3/2011 حول كتابه (خطاب الجنس: مقاربات في الأدب العربي القديم).
- نصّيات. م.ن ص121.
- نصّيات م.ن ص151.
- د. فاطمة بدر – خطاب المرأة العراقية الروائية . مجلة جدل العدد 7-8/ك2 شباط 2008. ص35.
* سلوى النعيمي – برهان العسل – رياض الريس للكتب والنشر – لبنان/بيروت ط3/ايلول 2008.
0 تعليقات