روايةُ (الملائكة لاَ تطير) جُرأةُ الاختيارِ ومُتْعَةُ السَّردِ في مُوَاجَهَةِ التَّطَرُف 4/3
يونس شعبان الفنادي(*)
أهدي مقالتي هذه إلى أستاذي الفاضل/ الحبيب بوزكورة، أصيل مدينة قليبية بتونس ومعلمي بالصف الثاني الأعدادي في ليبيا
رسائلُ (نور) إلى (نيتشه):
تعتبر الرسائلُ الاخوانية جنساً أدبياً يلقى الكثير من العناية والاهتمام لدى الباحثين والدارسين لأدب السيرة الذاتية خاصةً. وقد تضمنت رسائل بعض الأدباء والكتاب مثل الأديب اللبناني "جبران خليل جبران" إلى "مي زيادة"، والأديب التشكي "فرانز كافكا" إلى "ميلينا"، والأديب الفرنسي "فيكتور هوغو" إلى "جولييت درويه"، والأديب اللبناني "غسان كنفاني" إلى "غادة السمان،" والشاعر اللبناني "أنسي الحاج" إلى "غادة السمان" الكثير من الاضافات للتعرف على بعض خصوصيات العلاقات الشخصية الثنائية بين الطرفين المتبادلين، وأجلت الغموض حول بعض المواقف والأحداث والقضايا الأدبية والفكرية بينهما، وفق ما تكشفه تلك الرسائل، التي اهتم كثيرون بتوثيقها واعتبارها مصادر أدبية قيّمة، ومن ثم تحليلها لاستنباط بعض المعلومات المهمة في السير الذاتية والعلاقات المشتركة الخاصة.(14)
وقد كتب الفيلسوف الألماني "فردريك نيتشه" (1844-1900)م عدداً كبيراً من الرسائل القصيرة حين كان نزيلاً بمستشفى الأمراض العقلية وجهها إلى أصدقائه، وعدد من أفراد عائلات ملكية، وأشخاص نافذين آخرين، عُرفت باسم (رسائل الجنون) كان يوقعها بشكل متكرر بأسماء غريبة مثل”الشخص المصلوب“ و"ديونيسوس" وغيرهما.(15)
وعلى غرار تلك الرسائل تضمنت رواية (الملائكة لا تطير) خمسة رسائل كتبتها بطلتها (نور) إلى الفيلسوف "نيتشه" بعد أن تعرفت عليه خلال حصص مادة الفلسفة، وقدّمته المعلمةُ بصورةٍ نالت إعجابها، فتعلقت به، واتخذته صديقاً تبوح له بمشاعرها وأحاسيسها، وتخاطبه وتناقش أفكاره، وتوجه إليه العديد من الأسئلة في رسائلها إليه. ويبرز نشر الرسائل داخل الرواية خاصية مهمة وهي قدرتها على التعالق مع أجناس أدبية أخرى خارج النص، ودمجها فيها، وتداخلها في محيطها السردي، لتجعل من الرواية بانوراما متنوعة تتزايد فيها مستويات التنوع والإثراء، وترتقي درجات الجاذبية والتشويق.
ونجد أن (نور) قد حمّلت رسائلها الخمسة إلى "نيتشه" بعض همومها وانشغالاتها الفكرية، ومعاناتها الحياتية القاسية، ويتضح ذلك من خلال ثلاثة أبعاد رئيسية هي: أولاً نقل مشاهد واقعية صادفتها في حياتها اليومية سواء داخل البيت أو المدرسة أو الشارع، وثانياً تحليلها وفقاَ لمنهج "نيتشه" ونظرياته الفلسفية التي تدرسها، وثالثاً التصدي لنقدها وفق فكرها وتجربتها الشخصية كما عاصرتها واقعياً من خلال تجارب حياتها الخاصة. واستطاعت بكل ذاك التراكم المعرفي والتجريبي أن توجه إليه العديد من النقود، والتعليقات، والمعارضات الفكرية الصادمة أحياناً، بلغةٍ واثقة تمتلك قدرة المحاججة والدفاع عن وجهة نظرها، تمكنت بها أن تلهب عقل القاريء، وتشده بكل الجاذبية الممتعة، للتعرف على فكر الفيلسوف الألماني الكبير ومقارنته بفكر بطلة رواية (الملائكة لا تطير).
واستهلت (نور) رسالتها الأولى إلى الفيلسوف "نيتشه" بالاستفسار عن سبب تركه المسيحية وهو الذي نشأ متديناً في كنفها، ونتائج وانعكاسات ذلك عليه، وضمنت أسئلتها بشكل غير مباشر معاناتها الشخصية من المفاهيم الخاطئة للممارسات الدينية بكونها ضحية لها، وقد جاء في رسالتها الأولى:
(لا يبدو لي سهلاً أن ينشأ المرء في بيئة متدينة ثم ينسلخ عنها. ما الذي جعلك تفعل هذا؟ هل رأيت في طفولتك ما يجعلك تنفر من الدين؟ هل ثمة من عبث ببرائتك باسم الدين؟.
لم تشر الأستاذة إلى دوافع تمردك وأحبُّ أن أعرفها؟ هل التمرد معطى فطري أم مكتسب؟ هل نتمرنُ على التمرد تدريجياً أم يتأتي دفعة واحدة؟ ألم تتملكك رجفة وأنت تكتب ضد المجتمع والدين؟ هل للفيلسوف قوة أخرى تميزه من كل البشر فتجعله لا يخاف وهو يفكر ضد المجتمع وضد الدين ولا ينهار؟
أريد أن أعرف أيضاً كيف تتلقى العائلة خبر تمرد ابنها عليها؟
قالت أستاذة الفلسفة إنك كنت ضد المرأة وضد الصداقة وضد الموت. حتى الموت لم يسلم منك يا سيدي، وذهبت إلى أن الموت الطبيعي يأتي دائماً في وقت غير مناسب وإنك تفضل الانتحار لأنه يعبر عن إرادة الإنسان.
يا إلهي، كم تبدو أفكارك خطيرة.!)(16)
كما تعرضت في رسالتها الثانية لموضوع مفهوم الأخلاق عند "نيتشه" وناقشته حول تقسيمه وتصنيفه للأخلاق بأنّها نسبيةٌ، تتفاوت لدى السادة والعبيد، وقارنت ذلك بمفهوم الأخلاق عند سلفه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانظ (1724-1804)م، حيث كتبت تتسأل: (هل يعني أنك تعتبر ما فعله أبي عندما جاء بالغريب إلى طفولتي وفي يده مقص هو فعلٌ أخلاقي أيضاً؟ أنت تقول، يا سيدي، إنّ الأخلاق نسبية فهذا يعني أنه لا توجد قيمٌ ثابتة. يا للهول إنك فعلاً تقول كلاماً خطيراً.! الإسلام يؤكد أنّ الأخلاق ثابتةٌ حتماً وأظن أنّ الحياةَ لا تستقيمُ دون قيم ثابتة، لذلك ربما يبدو كانط أكثر وجاهةً منك عندما يؤكد كونية الأخلاق. لكن حتى قول كانط هذا يجعلني في لبس شديد، فأن تكون الأخلاقُ كونية لأن مصدرها الوحيد هو العقل الإنساني يعني أننا لم نعد في حاجة إلى الدين!
أجدُ نفسي مرتبكة أمام أسئلتي التي تطوح بي يميناً ويساراً.)(17)
أما في رسالتها الثالثة فقد انشغلت بالحديث عن موقفه من المرأة وقالت بكل ثقة واعتزاز، انتصاراً لجنسها (أستطيعُ، أنا الفتاة التي لم تقرأ كتباً كثيرة مثلك ولا أدعي الفلسفة، أن أناقشك وأرفض نظرك إلى المرأة. كيف تؤمن بالإنسان وتحتقر المرأة؟ هل يعني هذا أن تستثني المرأة من الإنسانية؟ أين سألتجي الآن. عندما ذكرت أستاذة الفلسفة اليوم مقولتك الشهيرة "إن الحقيقة، مثل المرأة يجب أن تغتصب" ضحك التلاميذ، ربما تخيلوا كيف يمكن للمرء أن يضاجع الحقيقة غصباً عنها. طبعاً، هذا تصوير مثير ينجح في إثارة الانتباه وأعده دعابة سخيفة منك. وقد سألتُ الاستاذة لماذا هذا الوعي الذكوري الذي يسيطر على طالب الحقيقة عند نيتشه؟ ألا يمكن أن نفكر في الحقيقة بعيداً عن مقولة الاغتصاب هذه؟ ثم لماذا تتجه بنا إلى نصف المرأة الأسفل؟.)(18)
وجاءت رسالتها الرابعة تعبيراً عن حبها لوالديها ونفي صفة الظلم عنهما رغم ما فعلاه بها، محاولة إيجاد الأعذار والتبريرات لوالدها واعتبرته ضحية مثلها، وأكدت ذلك قائلة (لا أقصدُ بالظالمين أبي وأمي طبعاً، فأنا أجد في أبي خصالاً حميدة رغم أني أشعر بأنه سرق حياتي، لكنه هو الآخر ضحية الجهل وضحية تجار الدين. لا أظنه كان سيفعل بي ما وقع في ذلك المساء الحزين لو لم يأتِ ذلك الداعية الجاهل "وجدي غنيم" الذي قالت أمي أنه أحدث بلبلة بقدومه إلى بلادنا حاملاً أفكاره الهدامة.)(19)
أما الرسالة الخامسة والأخيرة فتظهر إحساسها بالملل من الفلسفة، وعدم جدواها في إيجاد حلول عملية للحياة وخاصة معاناتها الشخصية المؤلمة، فعبّرت عن حالتها تلك بقولها (ترددتُ كثيراً قبل الكتابة إليك .. أصبحتُ أشعر بالملل من حصص الفلسفة، الأستاذة لا تبالي بأسئلتي، تتعلل بضغط البرنامج الدراسي وضيق الوقت، وأجد هذا تبريراً واهياً، ربما هي نفسها لا تملك أجوبة عن أسئلتي، وهذا يحبطني كثيراً.
كُلُّ ما قامت به الفلسفة هو إيقاظ أسئلة العقل، لكن ما قيمة هذه الأسئلة إن بقيت معلقة في سماء الحيرة، فلا نحن نظفر بأجوبة ولا هي تتركنا نستريح؟
سعدتُ، في البداية، بدبيب الأسئلة في عقلي يفتح كل النوافذ فأطل على العالم بألوان أخرى. شعرتُ بأنني أحيي من جديد، لكن ما الجدوى ولا أجوبة تشفي غليلي وتفك قيودي؟ لا أجوبة تعيد إليّ الثقة في جسدي وتصالحني مع الحياة. لقد زادت الفلسفة فساد مزاجي وأربكتني وزادتني هموماً أخرى.
ما جدوى أن توسع الفلسفة عالمي وأنا محبوسة في غرفة صغيرة بنافذة لا تفتح؟
ما قيمة أن تضفي الفلسفة المعاني على الحياة وحياتي بلا معنى؟
ما الجدوى من التفكير وأنا اصطدم في كل مرة بنظرات أبي اللاسعة وخنوع أمي المقرف؟
أشعر بالضيق، كأن الأرض لا تتحملني. يبدو أن أسوار الإيمان قصيرة لا تصمد أمام أسئلة العقل، لذلك أشعر بأن لا نفع مني في هذه الحياة.)(20)
إن صياغة هذه الرسائل الخمسة بكل الدقة اللغوية السلسة والدلالة اللفظية الواضحة، التي ظهرت عليها، والاعتناء بها أيما اعتناء حتى تميزت بإضافاتها الثرية لنص الرواية وفضاءها التعبيري، تُثبت أن الكاتبة أنفقت الكثير من الوقت والجهد لإظهارها بهذا المستوى العميق فكرياً، والمثري لمضمون ورسالة النص السردي موضوعياً. وفعلاً فقد جعلت الرواية تحتضن جنساً آخر في ثناياها وهي بذلك تؤكد توافقها تماماً مع تعريف خصائص المصطلح الفني للجنس الابداعي الخاص بالرواية.
(*) أديب وكاتب صدرت له مجموعة كتب أدبية، وصحفي نشر العديد من المقالات في الصحف الليبية والعربية، وإعلامي مستقل من ليبيا أعد وقدم برامج إذاعية مسموعة ومرئية تلفزيونية، يحمل درجة الماجستير في علوم الغلاف الجوي والمناخ والأرصاد الجوية من جامعة ريدينج ببريطانيا. fenadi@yahoo.com
(14) انظر على سبيل المثال: "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان"، دار الطليعة، بيروت، لبنان، 1999م. و"رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان"، دار الطليعة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2006م. و"الشعلة الزرقاء رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة" المكتبة الالكترونية، ومدونة "إعلان حب" اليومية التي خصصها فيكتور هوجو لجولييت درويه، وكتبت خلال سنة 1834م. وغيرها
(15) انظر: نيتشه وجذور ما بعد الحداثة، تحرير د.أحمد عبد الحليم عطية، منشورات دار الفارابي، بيروت، 2010م.
(16) الملائكة لا تطير، ص 205-206
(17) الملائكة لا تطير، ص 210
(18) الملائكة لا تطير، ص 215-216
(19) الملائكة لا تطير، ص 220
(20) الملائكة لا تطير، ص 223
0 تعليقات