التّخْيِيل التّاريخيّ واستِنْباء التاريخ في رواية "سيّد الهاوما" لعبد الناصر العايد
زياد الأحمد
يُلاحَظُ في العقود الأخيرةِ كثرةُ الموضوعاتِ التّاريخيّة في الرواية العربية، حيث راح الكثيرُ من الكتّاب يعتمدونَ حاملاً سردياً من متون التاريخ القريب أو البعيد، وذلك ليس بهدف تقديم وثيقة تاريخيّة عن ذلك الماضي؛ وإنما لتقديم العِبَر المتناظرة بين الماضي والحاضر، أوالتماثلاتِ الرمزية بينهما، فضلاً عن استيحاء التأملاتِ والمصائرِ والانهياراتِ القِيَمية والتطلعات الكبرى ...
وفي هذا المجال يؤكد الناقدُ عبد الله إبراهيم في كتابه "التخييل التاريخي" انتقال الكتابة السردية العربية من حقبة الرواية التاريخية إلى حقبة التخييل التاريخي، ويصرّحُ بتكوّن نمطٍ سرديِّ جديد؛ يتعذّر الفصلُ فيه بين المادة السرديّة والمادة التاريخيّة، فهو ذو هُويّة مغايرة للاثنين، كما أنه متصلٌ بهما؛ ومنفصلٌ عنهما في الوقت ذاتِه، ويرى أنه في هذا النوع الجديد تكون "المادّة التاريخيّة المتشكّلة بواسطة السرد، قد انقطعت عن وظيفتها التوثيقيّة والوصفيّة، وأصبحت تؤدّي وظيفة جماليّة ورمزيّة؛ فالتخيّل التاريخيّ لا يُحيل على حقائق الماضي، ولا يقرّرها ولا يروّج لها، إنّما يستوحيها بوصفها ركائز مفسّرة لأحداثه ومؤوّلة لها، وهو من نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المُعزّز بالخيال الذاتي، والتاريخ المُدعّم بالوقائع الموضوعيّة، لكنّه تركيب ثالث مختلف عنهما".
تحوّلات الرواية التاريخيّة:
ومن خلال تتبُّع المادة التاريخية في الرواية العربية واستقراء تحوّلاتها يمكن التمييز بين ثلاثة أجيال من الكتاب لكلّ جيل خصائصُه وإضافاتُه.
- الجيلُ الأوّل: وهو الذي يصحُّ تسميةُ ما كتبه بالرواية التاريخية، ومنه سليم البستاني، وجورجي زيدان، وأنطون فرح، ويعقوب صروف، وأمين ناصر وغيرهم، ورغم أنّ كتاباتهم صنّفت في الرواية التاريخية إلا أنه لا يمكن أن يُهمَل فيها دورُ التخييل، فجرجي زيدان الذي قدّم /23/ رواية تاريخية (1861-1914) سمّاها "روايات تاريخ الإسلام" هو أوّل من يؤكّد هذا الدور التخييلي في أعماله بقوله:
"العمدةُ في روايتنا على التاريخ، وإنما نأتي بحوادثِ الرواية تشويقاً للمُطالعين، فتبقى الحوادث التاريخيّة على حالها، ندمجُ فيها قصّة غراميّة، تشوّق المُطالعَ إلى استتمام قراءتها، فيصحُّ الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ، مثل الاعتماد على أيّ كتاب من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان والأشخاص، إلاّ ما تقتضيه القصّة من التوسّع في الوصف ممّا لا تأثير له في الحقيقة".
- الجيل الثاني ويمثله علي الجارم ومحمد فريد أبو حيدر وعلي أحمد باكثير ومحمد العريان وعادل كامل وعبد المنعم محمد وعبد المجيد جودة السحار ونجيب محفوظ، ونقرأ في بعض أعمال هذا الجيل تحوّل الرواية من التركيز على الشخصيات التاريخية إلى شخصيات عامة؛ لتعكس بذلك حياة المجتمع آنذاك كما في روايات محمد العريان قطر الندى وشجرة الدر وعلى باب الزويلة.
- الجيل الثالث وهو الذي يمكن القول فيه بأنه تحوّل بالرواية التاريخيّة نحو التخييل التاريخي، ويبدأ مع جمال الغيطاني الذي توغل شخصياته التاريخية في الماضي، ولكنها تظلّ قائمةً في الحاضر، كما في روايته "زيني بركات" وكذلك روايات أمين المعلوف التي تخوض في أعماق التاريخ لتخرج لنا بفكرة الدعوة إلى التسامح وإرساء جسور التواصل بين الغرب والشرق، ومنها رواية حدائق النور، وموانئ الشرق، وسمرقند.
ومن هذا النوع من روايات التخييل التاريخي رواية سيد الهاوما لعبد الناصر العايد التي سنتخذ منها نموذجاً لهذه الدراسة.
الرواية التاريخية وسيد الهاوما:
من خلال التصنيفات السابقة لتحولات الرواية التاريخية نحو التخييل التاريخي نخلص إلى السؤال: أين يمكن أن نصنف رواية سيد الهاوما للعايد الصادرة عن دار الجمل 2009م. في 258 صفحة من القطع المتوسط. ولعلنا من تحليل بعضِ المُكوّنات البنيويّة لهذه الرواية نخلص إلى الإجابة على هذا السؤال، واستنباط الرؤيا السردية التي يريد الروائي رصدها وتقديمها لنا من خلال هذا العمل.
الفضاء الزماني والمكاني:
تتخذ رواية سيد الهاوما من الحقبة السلجوقية أرضيّةً مكانيّةً، وفضاءً زمانيّاً لها، وتُزاوج بين أحداث موثّقة في المصادر التاريخيّة التي أرّخت لتلك المرحلة وبين سرد متخيّل يحكي قصة مسيرة الحسن الصباح المعروف بمؤسس الحركة الإسماعيلية النزاريّة، وطموحاته في تحقيق أحلامه، ومن ورائها أحلام بعث الإمبراطورية الفارسية التي قوضتها الفتوحات الإسلامية.
المتن التاريخي:
يتناول حقبة تاريخية مضطربة من التاريخ العربي الإسلامي وهي ما عرف بالعصر العباسي الثالث، أو عصر السلاجقة (1055م -446هـ) ويستند الروائي إلى أسماءَ حقيقيةٍ ووقائع تاريخية من تلك الحقبة مؤرخة بالسنة وأحيانا باليوم والشهر. كقوله عن واقعة اغتيال الحسن الصباح:
"وفي سهل ساهانا بالقرب من همذان ليلة الجمعة، السادس عشر من تشرين الثاني سنة 1092م الموافق للعاشر من رمضان التقى مبعوثي آراني جيشيَ الفردُ الذي يمشي على قدمين بالرجل الذي صنع تاريخ المنطقة في الخمسين سنة المنصرمة.." ص202.
والأحداث تدور زمن الخليفة العباسي القائم بأمر الله، ومن بعده المقتدي بالله، ثم الخليفة المستظهر، ويقابلهم بالترتيب من سلاطين السلاجقة طغرل المؤسس الحقيقيّ للدولة، ومن بعده ابن أخيه ألب أرسلان، ثم ولده ملكشاه، حيث يطغى في بلاطهم حضور الوزير نظام الملك، ودوره المحوري في سياسة الدولة في عهدي ألب أرسلان وملكشاه. ولا تغفل الرواية بلاط الحريم السلجوقي، ودور توركان خاتون زوجة ملكشاه التي أخذت البيعة لولدها محمود بعد موت أبيه وعمره خمس سنوات كي تبعد أخيه بركيارق ابن ضرتها زبيدة عن ولاية العهد، وكذلك علاقة المصاهرة بين الخلفاء العباسيين والسلاجقة ومنها زواج المستظهر من توركان خاتون ابنة ملك شاه.
ومن بلاط الدولة الفاطمية في مصر تحضر شخصية الخليفة المستنصر وولده نزار ووالي عكا بدر الدين الجمالي، ومن الإسكندرية الحاكم ناصر الدولة أفتكين والقاضي جلال الدين ابن عمار الإسماعيلي وغيرهم.
وخارج البلاطات الحاكمة يمضي بالأحداث أشخاص حقيقيون لهم وجودهم ودورهم في تاريخ تلك المرحلة، وأولهم الحسنُ الصبّاح الشخصية الرئيسة في الرواية، وهو مؤسس الحركة الإسماعلية النزاريّة؛ التي انفصلت عن الحركة الفاطمية في مصر، وزميلا دراسته نظام الملك وزير ألب أرسلان وعمر الخيام الشاعر والرياضي والفلكي، إضافة على ذكر الشاعر الفارسي ناصر خسرو وهو من دعاة الحركة الإسماعيلية، إضافة إلى أسماءَ أخرى كثيرة ستمرّ لاحقاً في هذه الدراسة. كما تذكر الرواية وقائع تاريخية معروفة في تاريخ تلك المرحلة كاستنجاد الخليفة العباسي بسلاطين السلاجقة، والمستنصر بحاكم عكا، ومعركة ملاذ كرد الشهيرة وحصار قلعة آلموت التي اتخذها حسن الصباح مقراً لدعوته الباطنية، واعتماد الخليفة الفاطمي المستنصر على بدر الدين الجمالي لإرساء دعائم دولته...
وبالتالي الرواية باختصار هي رواية تاريخية المتن والشخصيات والأحداث.
الإطار السردي المتخيّل:
يُناوِب الكاتبُ في حبكته السردية بين محورين من حياة الحسن الصباح، الأول من طفولته حتى تخرّجه في مدرسة نيسابور وهربه إلى مصر، والثاني من هربه إلى مصر وحياته هناك ثم عودته لتأسيس حركته الجديدة.. والراوي العالم للمحورين هو حسن الصباح.
وخلاصة المحورين:
تبدأ من مشهد قسوة علي الصباح وإصراره على مواظبة ولده الحسن على الدراسة وطلب العلم، والذي يتجلى بقراره الحازم رغم معارضة زوجته بأن يرسله إلى مدارس نيسابور لمتابعة تعليمه على يد الشيخ موفق النيسابوري. ورغم أن الصباح شيعيٌّ لكنّه أصر على معهد موفق النيسابوري السنّي لأن تلامذته يكون لهم الحظ الأكبر في مراتب الدولة. وفي طريق الرحلة مشياً من الرّي إلى نيسابور ولمدة بضعة أيام نعرف أنّ الأب علي الصباح؛ فهو واحد من الأربعين في مجلس الحكماء؛ وهي منظمة لمجموعة من حكماء الفرس أخذوا على عاتقهم حفظ روح أمتهم من الضياع إلى أن تعود، ونفهم أيضاً من وصاياه لولده الحسن خلال تلك الرحلة ما يكنه من عقيدة باطنية وأحلامٍ قومية ودينيّة يريد تحقيقَها من خلال ولده، فيصارحه رغم حداثة سنه (12سنة) بأنهم لا ينتمون إلى العرب، ونسبهم المنتهي بـ "حِمْيَر" هو نوع من أنواع التقية فهم ينتمون إلى سلالة الفرس العظماء، وليس إلى العرب البدو الغلاظ الأجلاف الأميين فالعرب هم" الشعب الذي نفاه الرب إلى صحراء لعنته، وظلمة الجهالة به، وعدم معرفته، دوناً عن كلّ شعوب الدنيا" ص25. وتتوضح أحقاده أكثر في قوله "العرب هم الذين أطفؤوا جذوة مصباح روح العالم: عرش عاهلنا كسرى" ص26. ويقول له "نحن الفرس الموكلون بالرسالات السماوية منذ البدء.. إننا الأوائل والأواخر في باب النبوّة و الوحي.. وكلّ نبي هو بمثابة الظاهر لباطن من الفرس يسوسه كما تسوس الروح الجسد" ص26. ويصرح له في النهاية بأن "الإسلام ليس ديننا، ديننا هو الدين الوحيد على وجه الأرض، والإسلام والنصرانية واليهودية شرائع تصلح لعامة البشر". فديانته كما يصفها هي "خلاصة ما جاء به كيومرث (آدم) ونوح وإبراهيم وزرداشت وماني وهرمس ومزدك وديصان ورزام والصابئة ... " وغيرهم من عقائد تؤمن بوجود إلهٍ للنور هو "يزدان"، وهم أنصاره، وإلهٍ للشر هو "أهرمن" والصراع بينهما قائم حتى انتهاء الدنيا، وقبل أن يودّعه يسلمه خنجرَه المسمومَ، ورسائلَ إخوان الصفا التي يرى فيها رسائل مبطنة لديانتهم الحقّة، ويوضح له قضيتَه، والقضيةَ التي يرجوه لها: "قضيتي هي إزاحة هذا الكابوس، العرب والسلاجقة المسلمين عن صدرنا، واستئناف مهمتنا ورسالتنا التي خلقنا لأجلها" ص26.
ويظهر أثر تلقين هذا الحقد الفارسي فوراً على صفحة نفس الطفل، حيث انعكس من خلال الحُلم الذي رآه وهم ما زالوا في الطريق بأنّ فارساً غليظاً من العرب اختطف أخته الطفلة فاطمة، وانطلق بها على ناقته.
وينكبّ الحسن على دراسته، وحفظ رسائل إخوان الصفا التي يحتفظ بمضمونها السريّ لنفسه.. وتتوثق عُرى الصداقة بينه وبين زميليه عمر الخيام الذي سيصبح الشاعر والفلكي المعروف، وبالحسن الطوسي "نظام الملك" والذي سيغدو وزير الملك ألب أرسلان وولده ملكشاه من بعده، وتظهر شخصية عمر من خلال رواية الحسن لها أنها شخصيّة متهتكة، همُّها لذاتُ الدنيا من خمر ونساء، ورغم أنه قد أصبح صديقاً لأسرة عمر التي عاملته كواحد من أبنائها فإنه لم يكن راضياً عن سلوكيات تلك الأسرة المنصرفة نحو الحياة، كما أنه رفض إغواء أخت عمر "زبيدة" التي طلبت منه أن تلهو معه كما يلهو أخوها عمر مع حبيته "سارة"؛ فرفض بدعوى أنها أخت صديقه، وأن هذا حرام، وفي المقابل نراه لا يتورع عن تخيل أم عمر في مخدعها تتعرى لزوجها إبراهيم، ويصفها بالعهر، وأنها تصلح لأن تكون عشيقة للملوك وليس زوجة. أما شخصية نظام الملك فتظهر في عيني الصباح وفية له، قوية الحضور في نفسه "كان حضوره يشع فيه سرورا وخدراً" ص122. أجبرته على التعلق بها دون أن يستطيع تفسير ذلك، فيقول يومَ فراقِه:
"داهمتني مشاعرُ الفقد بقوة، كنت أجلس في سريري لأعاين دموعي باستغراب وانفصال، لم كل هذه الدموع؟ من أين تاتي؟" ص122.
حتى أنه يوم تقرر سفره لتولي الوزارة بكى الحسن ودعا ربه قائلاً "يا ربي العظيم بحق نورك الوضّاء احفظ الحسن الطوسي واحمه بملائكتك الستة إنه روحٌ تفيض نوراً ربّ قيض له ما يهديه إليك، ربِّ اجمعني وإياه مرة أخرى" ص123. ونقيض هذه المشاعر نرى الحسن يتآمر مع توركان خاتون زوجة ملكشاه الناقمة على نظام الملك لأنه يرفض تولية ولدها ابن خمس السنوات ولياً للعرش، ويريده لابن ضَرتها زبيدة الشاب بركيارق، فتتهمه بسرقة إيرادات الدولة، ويتعهد الحسن بكشفها خلال أربعين يوماً، وحين فشل في ذلك وجد نفسه هارباً يتيه وراء سيناء على شاطئ البحر الأحمر قاصداً الدولة الفاطمية، وقد انهارت كل أحلامه في الشمال.
وفي مصر يلتقي الحسنُ كما يروي الخليفةَ الفاطميّ المستنصر ويتقرب إلى ولده ولي العهد من بعده نزار، والذي كان على خلاف مع والي عكا وحامي الخليفة بدر الدين الجمالي، ونتيجة لقرب الحسن من نزار انتقلت عداوة الجمالي إليه، وكذلك كان الحسن يكن له كرهاً شديداً، وينعته باللواطي ولاعق منيه، وخوفاً عليه من اغتيالات الجمالي أُرسِل الحسن إلى الإسكندرية، ليكون في حماية الحاكم ناصر الدولة أفتكين والقاضي جلال الدين ابن عمار الإسماعيلي.
وفي الإسكندرية وبالأموال التي يغدقها عليه نزار يتعلم زراعة الحشيش، أو الخشخاش وطرقَ جنيه، وتحضيره وآثاره على العقل والروح، وذلك بعد أن يئس من الوصول إلى شراب الهاوما؛ المشروب الروحي المقدس العظيم لزرداشت ص67. كما أتقن فنون التعامل مع الأفاعي وترويضها من حاوٍ إسكندراني، وعرف أنواع الزيوت والأدوية التي تمكنه من تسخيرها لمآربه.
وبعد مؤامرته الفاشلة لاغتيال الجمالي وابنه، يُقرّرُ إبعاده من جديد نحو الغرب، ولكنه كان قد تعب من الغربة والترحال، وقرر العودة إلى بلاده، ويلجأ إلى خديعة ماكرة لتحويل اتجاه الرحلة، فيخبر بكذبة ماكرة القبطانَ الصقليّ الذي انطلق به نحو الغرب أنه يملك كنزاً مخبأً على شواطئ عكا؛ وهو كتابٌ يستطيع فيه الوصول إلى عوالم الجن، وكان قد عرف أن القبطان مهووس ببنات الجنّ، وإذا بذاك القبطان يقرر تغيير وجهته وإيصاله إلى عكا. لاستعادة كنزه طمعاً بأن يمكنّه الحسن من واحدة من بنات الجن.
وقبيل الشاطئ يغادر الحسن صاحبه دون رجعة على زورق، متخيّلاً السفينة تتناثر ألواحها على الشاطئ الصخري.
ومن عكا تبدأ رحلته نحو الشمال، وهو لا يحمل سوى بذور الخشخاش، وبعض أوراق الحشيش، وعلومه في النباتات وترويض الأفاعي، وخطةً طامحة أقسم على تنفيذها وهو يعاني دوار البحر وزلزلة الأمواج من تحته: "أقسم بيني وبين نفسي أن أملك مكاناً صلباً أنعم فيه بسكينة وثبات، لا يزعزعهما سلطان، ولا يقلقهما مجنون، ويعجز العالم كله عن انتزاعه مني" ص79.
وحين يصل إلى حدود كرمنشاه يتجه نحو صحراء "دشت كافر" القاحلة حيثُ جبل الثعابين الذي لا يجرؤ كائن حيّ على الدنو منه، ليتّخذَ من قِمته صومعةَ متعبّدٍ درويش يفعل المعجزات، وأولها الثعابينُ التي تحيط به، وتتمرغ بين يديه، ومن هناك تبدأ دعوته الغامضة، التي يتزايد مريدوها يوماً بعد يوم، وما إن كثر أنصاره واستقام له الأمر حتى قرر الانقلاب على مجلس الحكماء الذي رعاه فيقول بأنّ "الموبذ موبذان لا يحلّ في هذا المنصب بانتخاب مجلس الحكماء وإنما يعيّنه الإله ذاته بإيحاء إلى الموبذ السابق والشيرازي الذي كان الحسن كما يقول آخرَ من رآه أعلمه أن الرب اختاره لهذه المهمة" ص105. كما زعم أنّ الإمام المستنصر قد عينه حجّة في بلاد فارس خلفاً للشيرازي. وهكذا دمّر مجلس الحكماء السابق، واختار منه عبد الملك بن عطاش ليكون ساعده، واختار لمجلسه الجديد إضافة لابن عطاش حسين القويني وأبو علي الدهدار وكيا بوزرك أوميد. أما العوام من الناس فتركهم على وهمهم باتباعه الخلافة الفاطمية. واستقر له الحكم باستيلائه على قلعة آلموت الحصينة التي اتخذها حصنا ومقراً، والأهم أنه أسس مدرسة للدعاة وأخرى لتدريب الفدائيين الذين يسمي الواحد منهم "بالجيش الذي يمشي على ساقين". واصطنع في حدائقها ما يشبه الجنة، وحورياتها، فكان يدخل الفدائيَّ المُنتدب لعمليّة انتحارية ليلة واحدة تحت تأثير الحشيش الذي اهتم بزراعته أيضاً؛ وفي اليوم الثاني يرسله إلى الموت مُؤمّلاً أيّاه بالعودة والخلود مع حوريات الجنة اللواتي نَعم بقربهنّ لليلة واحدة. ونجحت فدائيّوه في اغتيال أكثر من شخصية مهمة، وأولهم صديقه القديم نظام الملك.
وماهي إلا سنوات حتى بدأت ألاعيبه تتكشف لمريديه وأولهم ولديه، وخاصة بعد هزائمه أمام الجيوش السلجوقية، وانهيارت القلاع التي كان يستولي عليها. وحين يجد نفسه عاريا حتى من أقرب مريديه وقد سلبوه كلّ سلطاته نراه يدخل في حالة من الندم على ما ضيعه من متع الدنيا التي كان عازفاً عنها، بل ويستنكر إقبال صديقه عمر الخيام عليها فإذا به ينكب على إدمان الحشيش والتمتع بزوجة خادمه "شرف"، الوحيدة التي بقيت إلى جواره.
شخصية سيد الهاوما (الحسن الصباح)
شخصيّةُ الحسنِ في الرواية شخصية نرجسيّة ذكيّة، حالمة، حاقدة، لها رؤيا ثاقبة تجيد استقراء الأشخاص والأيام، لا شيء يصرفها عن المضيّ نحو هدفها مهما كان ومهما كانت الصعاب.
وهي شخصية مركبة من شخصيتين؛ ظاهرة وباطنة، ويتجلى ذلك من خلال التناقضات الواضحة في مسيرة حياته؛ ففي الوقت الذي يّظهر فيه الإسلام والورع والتقى نراه ملتفتاً إلى طقوس عبادات أجداده من الفرس القدماء، والنار، وعين الإله يزدان لم تفارق خلوة من خلواته، وفي الوقت الذي يدّعي فيه العفّة والوفاء لصديقة عمر نراه يتخيل عري أمّه، وتصاحبه أخته زبيدة الخيام في استمنائه. ومن هذا ندمه على رفضه لفيروزة جاسوسته في بلاط ملكشاه، حين جاءته يوماً وطلبت منه أن يباشرها يقول "غلبني غبائي فنفحتها موعظة عن العفّة التي يجب أن نتحلى بها كجنود للقضية، أخجلتها، لكنّ صورتها حين لمّت ثوبها الحريري حول ساقيها العاجيين لم تبارح عالمي الاستمنائي كأجمل ما تختزنه ذاكرتي التي كانت وقفاً على زبيدة الخيام" ص34.
بل تصل به غريزته إلى تشهّي الحيوانات كغزالة عمر "سارة" حين أثارته مداعبتُها، ولم يجد الأمر بشعاً على حد قوله.
كما أنه ناكثٌ للعهود متنكرٌ لها فهو لم يغدر بعهد الصداقة بينه وبين الخيام ونظام الملك فحسب؛ بل تنكر وحل مجلس الحكماء الذي تعهده وأرسله إلى مصر، وحين انتهت مصلحته مع ابن المستنصر نزار أدار له ظهره بل لم يهتم برسوله بعد أن استقر في آلموت، فيقول "لم أكلف نفسي عناء الرد على نزار كانت علاقتي به وبالفاطميين قد أصبحت ورائي"
كما أنه رجل لا وجود للعواطف في حياته حين تتضارب مع ما يصبو إليه، فهو الذي تنكر لأمّه وأخته فاطمة؛ لأنها ستتزوج حمالاً لا يليق بمقامه.
هو الذي بكى فراق نظام الملك حين كان يشعر باحتياجه إليه لكنه هو ذاته الذي قتله حين هدد ملكه، والأهم علاقته بولديه اللذين أمر بإعدامهما لأنها خرجا على طاعته، وكاد صغيرهم أن يفضح سرّه، وهو الذي يقول حين جاءته زوجته بمولودته الجديدة "شاهة" بأنها لم تحرك فيه أية مشاعر ص183. إضافة إلى هذا نجده طافحاً بالحقد على كلّ من يقف في طريقه، ويبدو ذلك من خلال الصاق التهم بخصومه، فبدر الدين الجمالي لواطي لاعق لمنيه، وتوركان زوجة ملكشاه عاهرة، والخليفة القائم بأمر الله منحرف مهووس برائحة العفن بين أصابع قدميه.
وأهم المكنونات الباطنية لتلك الشخصية النزعةُ الإجرامية التي كانت متأصلة فيه منذ طفولته والتي ظهرت بممارسته لهواية قتل الذباب، ثم قتل المتسول المجنون حين شبهته زبيدة أختُ عمر به.
وثمة محور أساسي آخر في بناء تلك الشخصية هو الكذب والخداع فهو قادر خلال أقل من ساعة على تأليف حكاية كاذبة مقنعة؛ كما فعل مع البحار الصقليّ، وكذلك في تقويل المستنصر وصيّة توليته له أمر الشمال، وهو الذي خرج هارباً من مصر، وأما الخداع فرأيناه في أفانين معجزات جبل الأفاعي، ثم الجنّات والحوريّات التي اصطنعها، ومخاطبته أتباعه من وراء حجاب، وهو في خداعه يستند على خبرته وعلومه التي كان مواظباً على الاستمرار فيها. ونلمح هنا شيئاً من التناقض في شخصية الحسن يتبدى في اعتكافه على العلوم والأخذ بالأسباب من جهة، ومن جهة أخرى أيمانه بالجن والأرواح التي تهاجم البشر، ومنها إيمانه بخطف الجن لأحد مرافقيه إلى مصر حين أعجب بصبية منهم، ويوم تعرض لعاصفة شوكية بين الرِّي ونيسابور، وأبى أن يصدق إلا أنه كان هجوماً من الجن عليه تلك الليلة. إضافة إلى إيمانه بالنجوم وربط تحركاته وعملياته بحركاتها واقتراناتها.
ومما سبق يمكن القول إن ملامح شخصية الحسن بظاهرها وباطنها هي ملامح فكر أكثر منها ملامح شخص، وكان إبداع الكاتب جلياً في مقدرته على تشخيص هذا الفكر من خلال الحسن الصباح، وهذا ما جعله مؤهلاً تماماً لقيادة حركة فكرية باطنية.
حقيقة الراوي في سيّد الهاوما:
ذكرنا أن الراوي العالم الذي يسرد أحداث الرواية هو الشخصية التاريخية الحسن الصباح، ولكنّ جملة عابرة جاءت في الرواية على لسانه ولمرة واحدة وبشكل اعتراضي تدعونا إلى إعادة التساؤل عن الراوي الحقيقي أو حقيقة هذا الراوي لرواية سيد الهاوما؛ وهي قوله " هل رأيتم يوماً حصاناً جانحاً في سوق؟ في زمننا قبل ألف عام كان المشهد مألوفاً" ص196
ومنه نستنتج أن زمن الحدث يبتعد عن زمن السرد ألف عام، وهذا يُبعد منطقياً أن يكون الحسن الراوي هو الحسن الصبّاح الذي مات من ألف سنة، ومن هنا يمكننا القول ان الراوي هو فكر حسن الصبّاح الذي لم يمت بل استمر، فالراوي ليس شخصاً بقدر ما هو فكر، فكرٌ وُلِد من رحم الحقد الفارسي على الدولة العربية الإسلامية التي قوضت عرش كسرى، فكرٌ نقرأ ملامحه خلال رحلة الحسن مع أبيه إلى مدرسة نيسابور؛ لنعلم أنه فكرٌ سرطاني متضخمُ الورم بعظمة الدولة الفارسية، متوثّبٌ للانتشار كأي سرطان في جسد العالم بأسره.
ومن خلال ملامح شخصية الصبّاح السابقة نستنتج أنّ (الصباح/ الفكر) ليس شيعيّاً ولا إسماعيلياً ولا نزاريّاً، بل وليس مسلماً، بل هو (شخص/ فكر) متورم بفارسيتّه التي أسقطها الإسلام، ولكنّه اتّخذ من الإسلام وقرآنه، ومن الخلفاء في الدولة السلجوقية والفاطمية أقنعة للتقيّة لا أكثر؛ لتحقيق نرجسيته وحلمه الفارسي، وكلّما انتقل إلى مرحلة كان يتنكر لمن أوصله إليها كما فعل مع نزار ابن المستنصر، أو يقتله كما فعل مع نظام الملك وولده.
الرؤيا السردية ونبوءة الرواية:
من خلال مقارنة الرؤى التي قدمتها الرواية التي نشرت عام 2009 بالأحداث السياسية التي سبقتها بقليل في لبنان والعراق، أو تلتها ومازالت مشتعلة في سوريا واليمن، وكلها تتلخص في محاولات إيران بسط نفوذ هلالها الشيعي على المنطقة، ومن تصريحات القادة الإيرانيين والمُعمّمين الذين تتسرب مواعظُهم وخطبُهم .. من خلال مقارنة كل ما سبق مع عالم الرواية يمكننا ان نقول ان الرواية تنبأت من خلال راويها بكل ما تلاها من بدء العمل على استعادة الإمبراطورية الفارسية ممثلة بإيران لهيمنتها وسطوتها التاريخية على المنطقة. ويمكن القول أنّ الرواية كانت صرخة تحذير مبكرة نبّهت لما يحدث اليوم وخاصة في سوريا.
وباختصار رواية الهاوما هي أقرب إلى الرواية التاريخية بوثائقيتها وشخصياتها، ولكنها تجنح إلى رواية التخييل التاريخي بحفرها عميقاً في شخصية بطلها لتسطع برؤيتها التنبّؤية التي خرجت بشخصية الحسن الصباح من تاريخيتّه وجسديتّه؛ لتحوله إلى فكر مشخصن يستمر عبر الأجيال، فكرٍ سرطانيّ كان ومازال يهدد بالانتشار والقضاء على التاريخ والوجود العربي والإسلامي.
0 تعليقات