علي قاسم

تنبع قيمة رواية ألدوس هكسلي، “عالم جديد شجاع”، من قدرتها على تعرية الواقع، وفضح النظم الشمولية، وهي لا تكتفي بالحديث عن المستقبل المظلم وتتابع أحداثه، بل تعمل أيضا على منع حدوثه، وذلك بالتحذير من كل الظواهر السلبية التي قد تترتب عليه، عندما يترك البشر للحصار وتفرض عليهم الإقامة الجبرية معزولين، يواجهون مصيرهم، وقد انقطع الأمل من تدخل العالم لإنقاذهم.

رغم الخوف، الذي يصل إلى حد الذعر أحيانا، يتحدّث الناس عن عالم جديد وشجاع، اقتصر الحديث عنه في الماضي على قصص الخيال العلمي، توصف بأدب الديستوبيا، المدينة الفاسدة، تصوّر مستقبلا مظلما للبشر، عادة بسبب حروب أو أوبئة أو أنظمة شمولية. يتحول الإنسان في هذا العالم إلى كائن مغلوب على أمره، ضعيف ومعزول، قابل للانسحاق والنفي.

الديستوبيا، وتعني باليونانية المكان الملعون؛ يعيش فيه بشر؛ يواجهون مصيرا محتوما مبرمجا، يتحكم بسكنات الناس وحركاتهم. فجأة تتقلص الحريات، ويتسلل تدريجيا نظام حكم شمولي مزيحا النظام الديمقراطي جانبا.

وبدلا من مجتمع، يبدو في الظاهر مثاليا، يكتسي كل شيء طابع الخشية والخوف من الآخر، المدينة الفاضلة، تتحول فجأة إلى مدينة فاسدة، يكشف الخوف فيها حقيقتنا الداخلية، ويظهر أسوأ ما في أعماقنا، إنها نزعة البقاء، تتحرّك بدافع غريزي دون إرادة منّا.

هناك أكثر من روائي كتب حول نموذج المدينة الفاسدة، من بينهم الروائي الإنجليزي، هربرت جورج ويلز، أول من كتب رواية من هذا النوع، نشرها عام 1895، هي “آلة الزمن”. ولا بد من ذكر الكاتب الروسي، يوجين زامياتين، صاحب رواية “نحن”، نشرت عام 1924، الذي ألهم جورج أورويل، فكتب روايته الشهيرة “1984”، وكلا الروايتين يناقش الفكر الشمولي وعبثية اختزال الإنسان ليصبح مجرد رقم.

تكنولوجيا الإنجاب

في عشرينات القرن الماضي، تنبأ عالم الأحياء الإنجليزي، جوليان هكسلي، وهو شقيق ألدوس، بتطور تكنولوجيا الإنجاب لتصل إلى مرحلة يجلس فيها الشريكان على مقعد، داخل عيادة الخصوبة، وأمامهما دليل يحتوي قائمة لأجنّة؛ لكل جنين صفاته الخاصة، من لون العينين إلى البشرة والطول؛ بعبارة أخرى، مولود حسب الطلب.

انطلاقا من هذه التنبؤات كتب الروائي الإنجليزي، ألدوس هكسلي، روايته “عالم جديد شجاع”. نُشرت الرواية عام 1932، وتدور أحداثها عام 2540، وتصف مجتمعا ينمو سكانه داخل أحواض، في عملية تفريخ مركزية جماعية، ومصنّفة في خمس مراتب مختلفة من درجات الذكاء. وبدلا من أن توكل للأسرة مهمة الاعتناء بالأجنة الجديدة، يعتني بهم عمّال مختصون؛ تشكيل أسرة في هذا المجتمع، جريمة يعاقب عليها.

على السّطح، يبدو كل شيء عاديا وناجحا؛ الجميع راض بالملذات والمتع الجسدية والمادية، بينما الحقيقة مختلفة ومرّة، خاصة عندما يجرّد الإنسان من إرادته. هذا بالضبط ما كشفه، هكسلي، الذي عرّى سلبيات المجتمع، حيث العلم يتحوّل إلى سلاح بيد الطبقة الحاكمة، تستخدمه لإخضاع الناس وتحويلهم إلى عبيد سعداء، ويسمح التنظيم المبالغ فيه بالتدخل في التفاصيل الدقيقة لحياة الناس، يحصي عليهم أنفاسهم، بعد أن حوّلهم إلى نسخ متشابهة خالية من الأحاسيس والمشاعر.

للسيطرة على عقول مواطني المدينة الفاضلة يستخدم الحكام عبارات تتخذ صفة القداسة لتحقيق التأثير النفسي المطلوب

في مجتمع الديستوبيا، يصبح البشر مجرد آلات مصممة لخدمة النظام، وحتى تشعر بالسعادة ما عليك سوى تناول قرص دواء، لا وجود في هذا المجتمع لمفهوم التفرّد، كل عضو فيه مجرد ترس في آلة جهنمية.

أهلا بكم في هذا العالم الجديد الشجاع. عالم ألدوس هكسلي. الزمان: عام 632 ب.ف. هكذا يؤرخ هكسلي للأحداث، قد توحي العبارات المستخدمة خلال الرواية، أن ألدوس بحديثه عن الأنظمة الشمولية إنما يقصد بذلك الحكومات الشيوعية، ومنعا للالتباس استخدم تأريخا يستند إلى أكبر رمز صناعي في الولايات المتحدة، هو إمبراطور صناعة السيارات هنري فورد، حيث ب.ف اختصارا لـ(بعد فورد).

بالنسبة إلى هكسلي، الحكومات الرأسمالية الشيوعية تقف بخندق واحد؛ استغلال البشر، وبينما تركّز المجتمعات الرأسمالية على توفير المتع والحاجات المادية لاستغلال الإنسان والسيطرة عليه، تنحو الأخرى إلى استخدام الأيديولوجيا والأفكار الكبيرة.

للسيطرة على عقول مواطني المدينة الفاضلة، يستخدم الحكام عبارات تتخذ صفة القداسة لتحقيق التأثير النفسي المطلوب، وعلى الطرف الآخر قبولها، وتستخدم في ذلك تقنية مبتكرة تعتمد على جلسات التعلم خلال النوم.

تسرد الرواية مفصّلا جلسات التعلم التي تقام والتلاميذ يغطون في نوم عميق، تحشى عقول أطفال الفئة العليا (ألفا وبيتا) بعبارات تزدري أفراد مجموعة دلتا، ذوي المستوى العقلي المتخلف.

رغم ذلك، لا يفكر أفراد الدلتا أن يطوّروا من أنفسهم، أو أن يعترضوا، كيف لهم ذلك وعملية إنتاجهم حدّت من قدراتهم العقلية عند مستوى معين، وجرت برمجة أدمغتهم بعبارات تقدس العمل، وترى في التفكير أمرًا لا ضرورة له.

في حضارة ما بعد هنري فورد، يحلّ قطب صناعة السيارات محل الإله، وتموت العواطف والمشاعر الإنسانية، وتصبح كلمات مثل، أسرة وأب وأم وزواج، كلمات بذيئة تقشعر لها الأبدان عند سماعها.

الموت في مجتمعات هكسلي ضروري كالحياة، والخوف منه أمر سخيف، والارتباط العاطفي دليل تخلف وبدائية. كل شيء في المجتمع مصنع، بدءا من الطعام، وانتهاء بالملابس، وتسود فيه الآلات والعقاقير.

حينما العلم يتحوّل إلى سلاح بيد الطبقة الحاكمة لاخضاع الناس
حينما العلم يتحوّل إلى سلاح بيد الطبقة الحاكمة لاخضاع الناس

العالم الجديد مجتمع رفاه استهلاكي من الطراز الأول، يكفي تناول نصف جرام من أقراص “السوما” التي ينتجها مركز الأبحاث؛ ليحلق الأفراد بعيدا عن الوجود، تماما مثل المنتشي بتأثير المخدرات.

نحن نخطط عوضا عنكم، ونعرف ما هو صالح لكم، ما عليكم سوى تنفيذ الأوامر. من يغامر ويفكّر يعرّض نفسه للعقاب، فالتفكير في مجتمع فورد جريمة بنظر القانون، والخروج على القطيع عار لا يدانيه عار.

إنها مدينة العلماء الفاضلة، وقد نجح هكسلي في نقلها إلينا إلى درجة تدفع بالقارئ للتقزز.

في مدينة هكسلي، لا خيار أمامك، إما أن تكون من صنف ألفا أو بيتا، وهما أعلى المراتب فكريا، منهما يأتي قادة العالم، وأعضاء الحكومة، أو أن تكون من صنف غاما، العاملون بالأعمال المكتبية والإدارية، أو دلتا، وهم من يقومون بالأعمال اليدوية، التي لا تتطلب جهدا فكريا. وأخيرا، أبسيلون، وهم في الدرك الأسفل، الأغبى والأدنى منزلة، ويشكلون الغالبية العظمى في المجتمع.

أثارت الرواية فور صدورها جدلا كبيرا، وأصبحت محور النقاشات المتعلقة بتطور التكنولوجيا الإنجابية.

المجتمع الذي وصفه هكسلي مجتمع مرفّه، يعمّه الرخاء؛ شباب دائم، لا مرض ولا شيخوخة، تم التحكم في هذه الأمور مسبقا خلال عملية التخصيب. مجتمع يبدو للوهلة الأولى مجتمعًا طوباويّا لا ينقصه شيء، إلا الحرية الفردية.

هذه السياسة التي لطالما مارستها الحكومات القمعية بغية تغييب الوعي العام، وإغراق الفرد في متع حسيّة، حتى لا تتسنّى له فرصة الاعتراض.

يخشى مفكّرون اليوم، وهم على صواب، أن تفرض الحكومات سيطرتها مستغلة المخاوف المتصاعدة بين الناس من جراء انتشار وباء كورونا، وتدخلنا جميعا ضمن منظومة من الأوامر نلتزم بها خشية على أرواحنا، كما يقال لنا.

مزارع يجيد الحوار

ولد هكسلي في، غودالمينغ، بمقاطعة، ساري، في إنكلترا، وهو الابن الثالث للكاتب والناظر، ليونارد هكسلي. بدأ تعليمه الأوّلي في مختبر والده، ليدخل في وقتٍ لاحق مدرسة هيلسايد، ثم انتسب إلى كلية إتون.

عانى تجربة فقدان البصر لمدة ثلاث سنوات، وكان هذا سببا في عدم التحاقه بالخدمة العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى. بعد شفائه، درس الأدب الإنجليزي في كلية باليول، في جامعة أكسفورد، حيث تخرّج مع مرتبة الشرف من الدرجة الأولى.

قام بتدريس اللغة الفرنسية لمدة عام في كلية إتون، ورغم أنه عرف هناك بعدم كفاءته كمعلم، إلا أنه نجح في اكتساب شعبيةً كبيرة بين طلابه، وذلك لمهارته في الحوار وقدرته على توظيف الكلمات.

في عام 1918، عمل لفترة وجيزة في وظيفة حكومية، كما عمل في مزرعة بقرية، غارسينغتون، خلال الحرب العالمية الأولى، والتقى شخصيات ذات مكانة عالية بالوسط الأدبي، منهم برتراند راسل وكليف بيل.

خلال العشرينات، عمل في مصنع للكيماويات، وفي عام 1921، ظهرت روايته الأولى “المنزل الأصفر” صوّر فيها الحياة في قرية غارسينغتون.

بعد وفاة صديقه، ديفيد هربرت لورانس، قام بتحرير “رسائل لورانس” عام 1933، وخلال هذه الفترة، قام بتأليف العديد من الروايات الشهيرة ومن بينها “عالم جديد شجاع”. كما بدأ الكتابة وتحرير الأعمال الواقعية المبنية على القضايا السلمية والمعادية للحروب .

في مجتمع الديستوبيا يصبح البشر مجرد آلات مصممة لخدمة النظام ولكي تشعر بالسعادة ما عليك سوى تناول قرص دواء

انتقل إلى هوليوود، حيث أمضى فترة قصيرة في مدينة تاوس، نيو مكسيكو، وفيها كتب “النهايات والوسائل”، ونشرها في نفس العام. وهناك تعرف إلى مبدأ الأهيمسا، وهو مذهب هندوسي بوذي يقول بواجب الامتناع عن إيذاء أيّ كائن حيّ، وكان خلال تلك الفترة يشارك بنشاط جمعية، فيدانتا، جنوبي كاليفورنيا.

ألهمه الإلمام بالقيم الروحية للفيدانتا بكتابة “الفلسفة المعمرة”، الكتاب الذي ناقش فيه تعاليم متصوّفة مشهورين. كما كانت ذكرياته في كلية، أوكسيدنتال، بمثابة مصدر إلهامٍ لروايته الساخرة “صيف بعد فصول”، التي حصلت على جائزة، جيمس بلاك، للخيال.

قدم للكتاب المقدس “باغافاد غيتا”، وصارت كتاباته رائجة بين الهيبيين، بعد أن كتب مقالات تحت تأثير مخدرات الهلوسة. وفي عام 1955 نشر محاضراته التي ألقاها في هوليوود وسانتا باربارا، على أقراصٍ مدمجة بعنوان “المعرفة والفهم” و”من نحن”.

ناقش في روايته “النهايات والوسائل” التي نشرت عام 1937، قضايا متعلقة بالحرب والدين والقومية والأخلاق، تنبأ فيها بفشل البشرية المحتوم في تحقيق الحرية والسلام والعدالة.

عرف عن هكسلي زهده في الشهرة والنجومية، ورفض لقب فارس، الذي منحته له حكومة ماكميلان. وصنفت رواية “عالم جديد شجاع” بين أفضل 100 رواية في اللغة الإنجليزية خلال القرن العشرين.

يجب أن نتساءل، بجدية، هل كان ألدوس هكسلي مقتنعا أن ما يكتبه مجرد خيال علمي، أم أنه كان يتنبأ استنادا إلى حقائق علمية؟

واقع أم خيال

غراف

ما تحدث عنه هكسلي، ووصف بالخيال، وجد طريقه ليتحقق على أرض الواقع.

في روايته “لا تدعني أرحل” التي نُشرت عام 2005، وصف الروائي البريطاني، كازو إيشيغيرو، أطفالا ينجبون ويربّون على أنهم متبرعون بالأعضاء؛ أي أجنة حسب الطلب.

وبعد أقل من عشر سنوات اقتربت رؤية إيشيغيرو من التحقق، بعد اكتشاف طريقة تعديل جيني تسمى “كريسبر- كاس 9” التي جرى تطويرها عام 2012، واستخدمت فيها إنزيمات طبيعية لاستهداف وقصّ الجينات بدقة شديدة.

فيما بعد استُخدمت الطريقة لتعديل الأجنّة البشرية في الصين، وجاءت النتائج مشجّعة. لم يعد السؤال هل يمكن أن نحصل على أطفال تحت الطلب، من الناحية العلمية هناك إمكانية، لا شك في ذلك، ولكن يبقى العائق الأخلاقي.

وحذر فريق من العلماء بدورية “نيتشر” العلمية منذ أقل من عامين من أن التلاعب الجيني في خلايا البويضات والحيوانات المنوية، حتى وإن كان هدفه تحسين صحة البشر، فهو غالبا سيميل إلى تحسين الصفات الوراثية للبشر، ولن يقتصر على مهمة تحديد احتمال الإصابة بالأمراض الوراثية فقط.

وحسب، هنري غريلي، الأستاذ بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا “ما من شيء إلا ويمكن إنجازه عن طريق التعديل الجيني، وهذا أمر لا يمكن منعه مستقبلا، ليتطور ويصبح واحدا من أكثر المواضيع جدلا خلال القرن الحالي والقرن الذي يليه”.

وحذر غريلي من أن تصاحب كل هذا “أخطاء جسيمة ومشاكل صحية، برهنت الآثار الجينية المجهولة لدى الأطفال المعدلين على وجودها”.

وحول فكرة تصميم أطفال حسب الطلب، يرى غريلي أنه سوف يأتي عبر خيارات الأجنّة، وليس عن طريق التعديل الجيني.

وتُجرى اليوم اختبارات على الأجنة في الولايات المتحدة، وفي بريطانيا، بترخيص من هيئة الخصوبة البشرية وعلوم الأجنّة. وتعرف هذه الطريقة بالتشخيص الجيني قبل الزرع، لإنتاج أكثر من جنين محتمل، تتم المفاضلة بينها عبر الفحص الجيني.

وعندما يتعلق الأمر بالصفات الأكثر تعقيداً، مثل الشخصية والذكاء، فإن حدود معرفتنا قليلة، رغم أنها صفات قابلة للانتقال بالوراثة.

ويقول غريلي “لا أعتقد أننا سنرى رجلاً خارقاً عمّا قريب؛ نحن لا نعرف ما يكفي، وليس هناك احتمال لأن نعرف ما يكفي، قبل مرور وقت طويل، وربما لن نعرف على الإطلاق”.

ويحذر غريلي من أن “الأثرياء سيستغلون التكنولوجيا لتجعلهم أفضل”، الأمر الذي قد يؤدي إلى توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، داخل المجتمع الواحد، وأيضاً بين الأمم المختلفة. وبمجرد أن يصبح الانتقاء متاحاً، وهو ما يبدو مرجّحاً، سنواجه بحقل ألغام أخلاقية وقانونية.

وهذا يطرح عدة أسئلة مثل، متى يكون للحكومات الحق في إكراه الناس على خيارات معيّنة، أو منعهم عنها، وكيف تمكن الموازنة بين الحريات الفردية والتبعات الاجتماعية؟

بغض النظر عن النتيجة، لن يتخلى البشر عن فرصة توفّرها لهم التكنولوجيا الجديدة، فهل يحسن هذا من جودة الحياة، ويزيد من شعور الناس بالسعادة؟

عن صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم