أسامة غانم

تتشكل رواية نص (السواد الأخضر الصافي) للناقد والروائي عباس عبد جاسم من المتن /المطبوع والهامش/ المخطوط بخط المؤلف، فضلاً عن رقوق (تغريبة السواد الأخضر الصافي)، لإبراهيم الإبراهيمي – التي هي (أعراف مطموسة): = شرائع – قوانين – نظم – مبادئ – تعاليم ، الموجودة في (داخل) المتن ولولاها لمَا كان للرواية من وجود، أو إلى حاجة لكتابتها، لأن الرقوق هنا عبارة عن متن المتن، وبؤرة (= المركز – المحور) العمل كله، والمبنى الحكائي للرواية، وبالاستعانة المجازية يكون المتن المروي من قبل الرواي، والهامش المخطوط من قبل المؤلف متن خارجي للمتن الداخلي رقوق إبراهيم الإبراهيمي، وهما أيضاً بنية دلالية أصبحت اطاراً لرقوق التغريبة التي يتناسل منها: الألواح – المرويات – الوقائع التاريخية والدينية – الأساطير – الكتابات الذوقية، كما في الشكل التالي:

        وبهذا نكتشف أن رؤية المؤلف والراوي وإبراهيم الإبراهيمي تكون : مختلطة، متشابكة، متداخلة، متنافذة، متماهية في السرد، ومشتركة في الرؤى، الهادفة إلى كشف طبقات المعرفة من أجل فهم " لعبة الحقيقة " عبر الانثربولوجيا، أي الانطلاق من الواقع السوسيولوجي بحثاً عن الحقيقة في الوهم الواقّع في الأرض الحرام، لإنتاج رؤية توطد خطاب ما بعد الحداثة أو خطاب الاختلاف المنطلق من سوسيولوجيا الوهم والخرافة، لأن (العالم الحقيقي أصبح خرافة) كما يقول نيتشه، وإن فكر الاختلاف هو تجاوز لحظة ما بعد الحداثة، وعليه فلن تكون (السواد الأخضر الصافي) انعكاساً ولا تحريفاً للحقيقة، بل هي مكون حيوي في إعادة خلق شروط الوعي الذاتي والجماعي، ولهذا يعمل الروائي بقصدية عالية تتسم بالإصرار الشديد على إحالتنا إلى خارج النص تماماً إلى ما وراء السرد وما وراء الرواية، للعثور على مداخل         (= مفاتيح) الشفرات والإشارات المبثوثة في الرواية(1)، والواقعة في منطقة تداخل ما بين الوهم/المتخيل والواقع/السردي، لكي يقوم القارئ باقتناص المعنى من خلال الانفتاح على الرمزية – التأويلية، لأنه لا تأويل خارج القراءة، ولا معنى خارج التأويل، وهذا يرغم القارئ على بذل المحاولة من أجل إعادة تجميع آفاق النص الدلالية، فان التأويل كما يقول تودوروف هو " إدخال العمل الأدبي في علاقاته مع القراءة " ، جدلية تستنطق النص لإظهار المغيّب فيه أو لربط الأجزاء المتشظية لتوحيدها.

        وبداية على القارئ الانتباه بأن المؤلف قام بوضع إشارات – 1 في بداية الكتاب قبل النص – لان الرواية تبدأ من الصفحة الأولى تبدأ من العنوان وتجنيسه بينما يبدأ النص بعد إشارات – 1- وهذا لا يتعارض مع ما قلناه من أن الرواية تتكون من : الرقوق ، المتن، الهامش، بينما وضع إشارات -2 في نهاية الكتاب قبل فهرس المحتويات، على شكل تعريفات لأمكنة وأسماء وردت في الرواية وإحالات عن كتب مأخوذ منها بتصرف، لذا جاء هذا الاختلاف في الموقع والسياق بشكل طبيعي، فالإشارات -1 وضعت على أساس دليل قراءة للقارئ، ومساعدة في التلقي، ولكنها كانت عملياً متاهة وفخاً في اللحظة ذاتها، وهذا ما حدث في الفقرة الأولى منها، عندما نقرأ (إن ضمير المتكلم الذي هو (أنا) – سارد لا شخصي، أي ليس له أية علاقة بمؤلف رواية هذا النص)، وهذا ما لم نلمسه أبداً، إنما كان ضمير المتكلم (أنا) الذي هو (عباس عبد جاسم) حاضراً بقوة وعمق في العمل من بدايته لنهايته، بل حتى إن هذه الإشارات-1 كانت تشتغل على خدع وتضليل وتمويه القارئ، لقذفه في التيه، بينما هي في لحظة اشتغالها على القارئ تشترك في التأسيس والإنشاء لرواية التخييل/ الواقع، المتماهية مع ما لم يُقل أو قيل على نحو غامض، ملتبس، أو عن طريق إيحاءات مشفرة، لذا ينبغي الوصول إليه وراء أو خارج النص، وعليه تكون الفقرة الثانية من الإشارات-1 : (رواية هذا النص قائمة على بنية افتراضية متخيلة لا أساس لها من الواقع)، فقرة مناقضة لواقع سلطة الكتابة، لأن الرواية قائمة على بنية متخيلة لها أساس من الواقع على شكل مصادر موسوعية: تاريخية ودينية وأسطورية وأثرية، وعلى شكل ذاتي: يوميات وذاكرة طازجة تشعرك بحيويتها، ودفتر ملاحظات شخصية.

        لكننا نعثر على الدليل الحقيقي المؤدي إلى (فض بكارة الرموز) والساند للإشارات-1، بدلالته الرمزية- التأويلية في الصفحة التي تسبق الإشارات-1 في الجمل الثلاث المجتزأة من: النفري – الآن روب غرييه – عباس عبد جاسم، يقول النفري : " يا عبد ، أول الفتنة معرفة الاسم المجهول"، أي الفتنة معرفة المجهول، الفتنة الاسم، فإذا عُرف الاسم يستوي الكشف والحجاب، لأنه " إذا دعوتك إلى الاسم فإلى الحجاب دعوتك، فخذ نوري معك لتمشي به في ظلمة ذلك الحجاب، فكل حجاب ظلمة، لان النور لي وأنا النور – النفري"، وبهذا يكون باستطاعتنا معرفة الأسماء المجهولة في النص، بجانب أن (قميص الأخضر الصافي فتنة الاسم المجهول) هامش ص77، واختراقه عن طريق الإزاحات والتماثلات، لنكون في الممر المؤدي إلى المدخل = (الفهم + الوعي) للشروع في قراءات متعددة مختلفة مفتوحة تكون خارج السياقات الاعتيادية والمألوفة والمتعارف عليها، قرائية تتجاوز مديات كتابية النص، بشرط أن تكون متماهية معه، لفضح المسكوت عنه، وغير المعلن، والمخفي، والمستور، أمام هكذا كتابة تستفز القارئ/المتلقي/ المرسل اليه، سيميولوجيا وسوسيولوجيا وتاريخياً وفكرياً، لأن الواقع الملتبس بالسواد، يدفع بهذا المتلقي إلى الالتجاء لبياض السواد/ المتخييل في قراءته، أسوة بالكتابة، لأن الرؤية في (السواد الأخضر الصافي) للصفوة والغيبة للعامة.

        ينتهي المتن/ المطبوع بـ (فاتحة الوقائع)، ونقرأ في نهاية النص ما يلي: (قال مَنْ روى الوقائع: لم ارَ خامسهم في محضر الجلسة، والذي كان معهم أكد: كنت خامسهم في الحضور – ص122). بينما تكون افتتاحية نص (وقائع الفاتحة) التي يبدأ المتن/المطبوع بها هكذا: (مؤكد أن الذي روى وقائع الجلسة لا يعلم من كان يتكلم نيابة عني – ص9). هو الذي رآهم وهو الغائب وهم في الوقائع، ولم يرَوه وهو الحاضر في الوقائع، إذن (ثمة فجوة) في الرؤية بين الرائي والمرئي، فالمحذوف من الوقائع يبقى (هو أنا)، قال خامسهم الذي رأى وقائع الجلسة-هامش ص117)، المتنافذ في الحكي والروي وخط الكلمات في الهامش، هو روح النص.        هذا كله جعل رواية نص (السواد الأخضر الصافي) تعتمد على خطابين، الخطاب الروائي/التخييلي وخطاب التاريخي/الأسطوري، من حيث: الشخصيات- الأزمنة – الأمكنة- الرؤية – الصيغة، لأن الواقع ذاته هو شيء يذوب في الميثولوجيا والأنثربولوجيا مع مجرى الزمن، والمكان أو بالأحرى إن أغلب الواقع يذوب في الغموض والذي يبقى يتحول إلى الميثولوجيا، تتلاشى الحقيقة ويبقى الخيال لو أنه اشترك في ذلك الواقع، أي هو يشكل ما بعد الواقع، والذي يمكنه من البقاء بوصفه أسطورة، عليه فان تميز الخطاب الروائي عن الخطاب التاريخي يمكن اختزالهما من خلال هذا الشكل:

هذا التميز في الخطاب هو الذي يجعلنا لا نقبل بالقول عن (السواد الأخضر الصافي) بأنها رواية نص تاريخية، فالحكاية المتناولة في الخطاب يمكن أن تكون: متخيلة-حقيقية-تاريخية-سياسية. أو جميعها متداخلة، فالخطاب هنا يعطينا إشارات لواقع غير متحقق، وبوصفها رموزاً للجهد الإنساني في تخيل ذلك الواقع، لأن الرواية الرمزية تنجح حين تعمل خيالاتها إشارات وتشفيرات معقدة، تبتعد عن المفاهيم البسيطة، نحو صناعة الخرافة.

        ولكن ما الذي ينطوي عليه انتاج خطاب " تبدو فيه الأحداث تسرد نفسها"(2) لاسيما حينما يكون الأمر هو مسألة أحداث يتم تمييزها ظاهرياً على أنها واقعية أكثر منها خيالية، كما في التماثلات التاريخية – الجغرافية؟ الأحداث الواقعية يجب أن لا تسرد نفسها، الأحداث الواقعية لابد من أن تكون كما هي، يمكن أن تكون بشكل كامل إشارات للخطاب يمكن التحدث عنها لكنها يجب ألا تكون رواية للقصة"(2) هذا يجعل القارئ الذي هو (كينونة) مفكرة خارج الخطاب وعوالمه، وليس في يده الا التفكيك والتأويل والإحالة، قبل أن يقوم بتحويل النص من وهم لمعنى ما إلى وعي بأن المعنى لا حدود له لأنه (ينبغي على القارئ أن يشك في أن كل سطر في النص يمكن أن يخفي معنى سرياً)(3).

        إن وعي وفهم القارئ/الناقد غير وعي وفهم الروائي/المؤلف، لأنهما مستقلان، ولا يمكن وضعهما الواحد مكان الآخر، وليس من الممكن تداخلهما فـ باختين يشدد على الثنائية التي لا يمكن اختزالها بالمتلفظ والمسْتقْبل:

" ان الفهم الصحيح دائما فعّال ويمثل جنين الجواب، والفهم الصحيح يستطيع إدراك الثيمة بالاستعانة بمفهوم الصيرورة نفسه، الفهم يقابل التلفظ كما يقابل الجواب جواباً آخر ضمن الحوار، والفهم أيضاً هو بحث عن خطاب مضاد للخطاب المتلفظ"(4).

        لذا عمل الروائي بقصدية محسوبة دقيقة (لقد كتبت الرواية بعد انتهاء حرب الخليج الثانية واندلاع الانتفاضة في الجنوب ثم قمعها)، على ترميز وتلغيز الأسماء والأمكنة والأزمنة، والوقائع، بل جعل الشخصيات، شخصيات مركبة متنافذة ذات أصوات متعددة، حتى أسئلته وإجاباته تكون مبطنة وأحيانا محيرة ومربكة في المعاني المطروحة، وإذا ما توصلت إليها تكون معانيها خاضعة للتأويلات المتعددة، وفي منطقة الشك.

        ومن هنا تبرز أمامنا أسئلة، ويجب علينا معرفة الجواب، وإلا سنكون في متاهة، وتحول هذه الاسئلة إلى طلاسم وأنفاق سود، وخاصة إذا كان الجواب في ثنايا الكتاب ولم ننفذ إليه، أو نقتحمه عن طريق التفكيك والربط على ضوء الرمزية – التأويلية.

        وعليه ما السواد؟ وما هو السواد المستور؟ ومن هم أهل السواد؟ وما هي أرض السواد؟ ومن هو السواد الأخضر الصافي؟.

        لقد استثمر الروائي الإمكانيات المخفية في كلمة (السواد) عندما حولها إلى طاقة إبداعية ومنح (السواد) معاني مختلفة في الرؤية والمفهوم، فالسواد لون يرمز إلى الظلام، والحزن، وإلى الرؤية المحجوبة: (عند حضوري المفاجئ أو المطلق لا أحد يراني)، وعليه يكون السواد المستور = الغيبة = الحجاب = مقبرة وادي السلام، ليس هذا فحسب بل تتداخل الدلالات – الرمزية بالدلالات – الواقعية عن طريق المكانية المادية، فارض السواد = العراق، وأهل السواد = العراقيون، وعليه يكون (السواد الأخضر الصافي) حاملاً دلالتين: رمزية ومادية، بهما تتشكل وتترافد صور شعرية عن العراق (وطناً وشعباً) وعن الشخص الأخضر – السواد يأتي بمعنى الشخص في مختار الصحاح أيضاً – وباتحادهما يبقى السواد على مر الأزمنة (بياض مستور).

        من هو اليعسوب ؟ هكذا يتساءل الراوي، بل يلحق السؤال بأسئلة أخرى كثيرة، وماذا تعنى كلمة (يعسوب) في الرقوق المنشورة؟ نحن لا نستطيع معرفة ذلك، ولا تكوين وجهة نظر موضوعية، إلا من خلال الإحالة خارج النص، لأنه من الضروري أن نبحث وراء المعنى المباشر لنكتشف الدلالة " الحقيقية" المغيبة، الخاتلة عنا، يقول الإمام علي (t) في خطبة البيان:

أنا مكلم الأموات، أنا أبو الأئمة الأطهار، أنا مؤول التأويل، أنا ولي الأصفياء، أنا ولي الأنبياء، أنا سر الأسرار، أنا باب الحطة، أنا عوام الغليل، أنا شفاء العليل، أنا صفوة الصفا، أنا يعسوب الدين، أنا جبل قاف، أنا الشهيد المقتول، أنا المخبر عن وقائع الآخرين، أنا سر الحروف(5).

وإذا علمنا أن السواد الأخضر يقول عنه: (أما جدي اليعسوب فكان يرقع ثوبه، ويخصف نعله).

إن ما فعلناه هو أنه قمنا باختراق قصدية النص المضمرة، الغامضة، الملتبسة، من الخارج، أي الاستعانة بالإزاحة والإحلال، لأن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بالرجوع إلى المصدر، المصدر التراثي الرئيس، الذي اشتغل عليه الروائي، في تواصله مع القارئ، لإستفزازه وتحريضه على البحث والاكتشاف والوقوع في غواية الرؤية (لأن ما نحن عليه من اشتراك مع التراث الذي ننتمي إليه هو الذي يحدد أفكارنا المتخيلة ويقود فهمنا) (6) ، ويقود رؤيتنا للمعرفة بأن النص لحظة أبداعية خلاقة التي هي جزء من الحياة الشمولية للروائي تناغمت مع التراث لتأسيس وتجذير حالة جديدة في هكذا نص، حالة تعمل على إدانة الحاضر الراهن (حربين إقليميتين وانتفاضة شعبية خلال مدة زمنية قصيرة) من خلال التراث الإنساني، والأساطير، والحكايات، ولغربلة المعنى الواقعي المتواجد في النص، بشكل تخييل الذي هو مسار لانهائي وغير مكتمل وغير ملموس، لكون الأزمنة الروائية والواقعية متداخلة، حيث تجعل القارئ محتاراً عن أي زمكان: يسرد، يروي، يحكي، فالواقعة – بالنسبة للمؤلف وليس القارئ – تمتلك وعياً بتاريخية الحاضر (اللحظة الآنية) وبانفتاحية الحاضر على الطروحات التاريخية كلها، وهنا يجب أن يكون القارئ على وعي بالقوى الاجتماعية والتاريخية والدينية المؤثرة في الحاضر والمرتبطة بالماضي المؤسس لهذا الوعي المتراكم في الوقائع، ولهذا وعلى ضوء سياقات فلسفية سوسيولوجية عقلانية متمثلة في أبواب متاهة العنقاء المتسمة بـ : العلمية – الواقعية – الكونية ، مقابل رؤى ميتافيزيقية متمثلة في خوارق العين المتسمة بـ: اللدنية – الروحية – اللاهوتية، منهما تتأسس رؤية أحادية (بصيرة الرائي) للوصول إلى المرقاة الرؤية الشاملة، المتحركة في فضاءات مفتوحة لا محدودة وتمثل رؤية السواد الأخضر الصافي أيضاً، (أي من الأبواب يفضي إلى المرقاة؟) وتكون على الشكل التالي:

وتكون أيضاً على شكل آخر، على أساس العلاقات الجدلية بين الأبواب (= المداخل) على اعتبارها رؤية صغرى تنتمى للجسد (= الشهوة) والعين على اعتبارها رؤية كبرى تنتمي للروح عندئذ يستوي الكشف والحجاب في المرقاة (العين التي ترى كل شيء).

إن رواية - نص (السواد الأخضر الصافي)، رواية مضنية جداً في قراءتها، لكون هذه القراءة يجب أن تكون دائرية الشكل ومكوكية متشظية في تدقيق ما يرد في النص، وتحتاج إلى جهد استثنائي كبير من أجل الإحاطة بأية معلومة مهما كانت في الرواية، لأن هذه المعلومة قد تكون في المتن أو الهامش ومتوزعة في عدة صفحات بصيغ مختلفة ، مما يتطلب من القارئ/الناقد التركيز والانتباه الفطن والدقة في تناول هذه المعلومة أو تلك لاستخلاص المعنى، الذي يكون بدوره إشكالية، لأن الروائي عندما وضع المعنى المضمر، وضعه متعمداً قاصداً بشكل ملتبس، حيث جعله يعطي معاني متعددة، استناداً للقراءات التأويلية المتعددة، بل وأحياناً يخلخل الآراء التي قد تكونت نتيجة هذه القراءات ويعتمد هذا كله على "التطريسات" الموجودة والمتوزعة في صفحات الرواية، فنقرأ في أول صفحة في الهامش "تطريس" هو في الحقيقة سيكون لو ينتبه إليه القراء الإضاءة الكبيرة لكل ما سوف نقرؤه من صفحات لاحقة: (ربما لا يعلم الراوي كيف مُحيت منها النصوص وكتبت فوقها أمجاد وبطولات وهمية، وأشياء أُخر لا صلة لها بأخضر السواد الصافي).

واستناداً إلى القاعدة التي يستند إليها هذا التطريس باعتبار أن (الكل ينبغي أن يفهم انطلاقاً من الجزء والجزء انطلاقا من الكل. في كلتا الحالتين يتعلق الأمر بعلاقة دورية. الاستحضار المسبق للمعنى – الذي بفضله يُدرك الكل – لا يثير فهماً واضحاً إلا إذا حددت الأجزاء- المحددة تبعا للكل- بدورها هذا الكل)(7)، وبهذا أصبح بإمكاننا العثور على العلاقة الدلالية التأويلية لكل من السواد الأخضر والسواد ورجل الحذاء الأسود، وبور-سين، لتمثل في الحقيقة لنا الوحدة الكاملة للمعنى، والصورة الضخمة المعلقة في سواد البياض على الصفحات جميعها، فالنص يعمل على تكريس (سلطة الذات من أجل ولادة الفرد)(8) كما يقول مطاع صفدي، من خلال العمل على دلالية الشفرات – الايحائية هذه:

  •       - سين: الحذاء الأسود الثقيل، الذراع الطويلة، خطوات الشيطان ص56.
  • إن بور – سين ناكد اليعسوب وناصبه العداء / هامش ص41.
  • سين: يعني الإله بور – سين / هامش ص116.
  • الواح غير محفوظة في          (إمبراطورية أ. غ) سين / ص101.
  • بعد التحقيق من صورة التنين، تبين أنه كلب الحراسة الأمين للإله مردوخ العظيم هامش ص98.

وعند مقاربة قصة (فتنة الاسم المجهول) الواقعة ضمن المجموعة القصصية (تطريسات)(9) لنفس الكاتب نقرأ ما يلي:

  • القوة غير العاقلة، منطق الصدر العالي، وهم المكابرة (=المنازلة . أ. غ) الكبرى أسطورة الذراع الطويلة / ص116.

وننطلق من نفس السياق في قراءة السواد الاعظم:

  • إن السواد الأعظم ما زال مأسوراً في محطات انتظار الذي لا يأتي ، يجب أن نشطب أسطورة البطل المنقذ من قاموس حياتنا، لأنه لم يستطيع أن ينقذ نفسه.../ أي خيال يجنح إلى منقذ إنما هو خيال مريض / إذن لماذا لا يكون كل واحد منا هو المنقذ في حضوره المطلق الآن؟ ص35.

في فقرة أخرى، تتجلى الذات الراوية في اتحادها بالسواد (أعني: الأرض – السلام – الحرية – الخلاص – الأمل)، وفي وقائعه التاريخية وخرائطه الجغرافية، ففي هذا التجلي
(= السمو – التوحد) تكتمل لدينا الرؤية السوسيو-سياسية، ووضوح عمق التداخل فيما بين الناس والأزمنة والأمكنة، وتحويل كل تأويل إلى الفضاءات التاريخية والآنية:

  • أهل السواد، كانوا يخرجون من تجاويف مطموسة من الجغرافيا أو يدخلون إلى تجاويف مجهولة في التاريخ، وقائع مجهولة لمواقع معلومة / متن ص34:
  • موقع قدمي في (ماوت).
  • اندثر في ثلوج (بندوره).
  • بقايا في (...).
  • الشظية التي اخترقت خوذته في ((حوض بنجوين))/ هامش ص34.

أظن أنه من الضروري أن نرى وراء المعنى المباشر لنكتشف الدلالة الفعلية المتوارية، وتكوين تصور – لا أقول شامل ولكنه واضح – عما أراده الروائي من بثه لهذه الرسائل القصيرة المشفرة ذات الدلالات الإيحائية التي تشتغل على الأزمنة المتداخلة (أو تداخل الأزمنة)، وتبين العلاقة المأزومة، الملغومة، التي تقتات الخوف مع الرجل ذي الحذاء الاسود الثقيل = بور-سين = مردوخ = الإله المحتضر، أي أن كل هذه المسميات تقع تحت مسمى واحد : الدكتاتور، بمعنى آخر إنه: الحروب – الدمار – الخراب – القمع – الوحشية – السجون – التعذيب – إلغاء الإنسان الآخر – المقابر الجماعية: (كان الأحياء يتعفنون فيها، الإله المحتضر مازال يسد فتحة الحفرة بموطئ قدمه لئلا تنتشر رائحة السر في كل مكان – ص86).

ولا يجب أن يختزل أهل السواد التجربة الإنسانية التاريخية – السوسيولوجية منذ فجر السلالات وليومنا بـ المنقذ / السوبر مان، فلا وجود لمثل ذلك إلا في أفلام هوليود، وإن حصل ذلك فهو أحد أمرين، أما أن يخرج رجل نتيجة ظروف سوسيو-تاريخية لتصحيح شأناً ما كما في واقعة ألطف، أو لاستعباد واستباحة وطن كما حصل في الماضي القريب، وما تميزت به الرواية كما لاحظنا استشرافها للمستقبل، والتنبؤ بذلك، وفضح وإدانة أساليب التزوير والتشويه التي يقودها بعض المؤرخين والمثقفين ونخبة الفكر في العالم ، طمس الحقائق، وإلصاق التهم الملفقة، والافتراء، ووصل الأمر بالبعض أن يقوم بإضفاء العصمة والإلوهية على (...)، ولقد تناول المؤلف ذلك بأسلوب لعبة الورقات الثلاث، إن التشوهات القائمة في المدونات أو المرويات:

= تشويهات ناجمة عن تقلبات أحوال الطبيعة: كالأمطار–الفيضانات–الحرارة–الرياح–الزلازل.

= تشوهات ناجمة عن تقلبات أحوال البشر: كالأمزجة – المعتقدات – الأهواء.

= تشويهات ناجمة عن تقلبات أحوال التاريخ: كالانقلابات-الثورات-الحرائق-الحروب ص90 (سين).

  • التشوه غير ناجم عن قوى الطبيعة، ربما ناجم عن فعل مقصود في التشويه/ هامش ص86 (دليل المرويات).
  • إن التشوه ناجم عن أخطاء طباعية في المرجعيات المدونة أو عن تلفيقات شفاهية في المرويات المنطوقة / هامش ص42 (أنفاق السواد).

القارئ يوضع أمام ثلاثة اختيارات متوزعة على ثلاثة فصول (أنفاق السواد ، دليل المرويات، سين) لأسباب التزوير والتلاعب بالوقائع وتحريف الحقائق (كما في اكتشاف ليونارد و ولي لنفق هيكل سليمان والذي حفر كشبكة مائية في عهد الصليبيين والذي عثر عليه في العقد الثالث من القرن العشرين) اختيار صعب ولكنه غير بسيط، عندما يحل (= يتفكك) على طريقة الكلمات المتقاطعة، وعلى الفهم التأويلي، والمعنى المزدوج، للتواصل مع العبارات النصية، ويمكن للنص أن (يؤول بوصفه وحدة، إذا مارس، منظوراً إليه بوصفه كلية، وظيفة محددة: ستوصف العبارة النصية، غالباً بوصفها إنتاج " ذات متكلمة وحيدة " أي بوصفها إنتاج مخاطب أو ناسخ)(10)، على أن تكون المعلومة المستخلصة من النص مختزلة، منظمة، كما في الفقرات النصية السابقة، التي تناولناها، فالرواية كيفما كانت، أو تحت أي مسمى جناسي، فهي كونية، ومتجاوزة للتاريخ والمعرفة والثقافة.

        في رواية (السواد الأخضر الصافي) لا توجد شخصية محورية أو شخصية مركزية نهائياً، إنها رواية اللاشخصية، رواية اللابطل، رواية حبلها السري فقط (العراق)، رواية تشتغل في الضفة الأخرى اللامرئية، لأنها رواية غير نمطية، غير مألوفة للذوق العام والخاص، رواية تعبث بمركزية الروي والحكي قبل أن تضلل المتلقي، وهذا يجعلنا نتساءل كما تساءل المؤلف عباس عبد جاسم: أهي رواية (لغة) أم رواية (ذات) أم رواية (أفكار) أو رواية (لا رواية)؟ (11) إنها جميع ذلك، لأنها احتوت على كل الطروحات الحديثة (منها: ما وراء السرد – ما وراء الرواية). بهضم الطروحات الأخرى، ولم تقطع صلة الرحم مع أية رواية، لا دونكيشوت، ولا كرامازوف، ولا الأوديسا لـ جويس، ولا مائة عام من العزلة، ولا شرق المتوسط، ولا رائحة القهوة، إنها الجزء المميز من الكل المتناغم الكوني، رواية الذاكرة البيضاء الواقعة في وقائع السواد السوداء، الذاكرة المحاطة بأنفاق السواد ومدرجاته الثلاثة: العرش-الحاشية-العامة.

عصف  

        بعد كل ذلك، أمن حق القارئ بعد أن شاهد الموت المجاني والموت المعلن والموت المستور، أن يتساءل لماذا مدينة غدامس الصفا بالذات ارتبطت بالسواد الأخضر الصافي، ارتباطاً وثيقاً؟ فهو ينطلق منها باحثاً ، متأملاً، بعد امتلاكه لألواح غدامس الصفا الاربعة: لوح الاعماق (=القبر) ولوح الصلصال (=الإنسان) ولوح السكينة (= الموت) لوح الأثير (=التراب)، إن مدينة غدامس اسمها يتألف من مقطعين (غد) و (أمس) ، أما الصفا فهي مدينة مستورة بسواد أخضر صاف في العراق، وهي تشبه مدينة غدامس المغربية، حيث تكثر فيها: المدافن – السراديب – المقامات- الأضرحة – المنازل المبنية تحت الارض، وفيها يتعايش الأحياء/ الأموات، والأموات / الأحياء، أليست هي المدينة التي تضم أكبر مقبرة في العالم (مقبرة وادي السلام)؟ إنها مدينة النجف الأشرف، وهي في الوقت ذاته تمثل العراق / السواد، ولأن السواد (لم يعد بحاجة إلى ثورات بيض أو حمر او سود، لأن لصوص الليل، وثعالب النهار، وذئاب الصحراء وغالباً ما تسرق أحلام السواد المشروعة) ص67، كم كان عباس عبد جاسم دقيقاً في وصفه للحالة العراقية، بكافة أزمنتها، ولكن سيبقى السواد يشتبك بالخضرة، نبوءة أم تنبؤاً؟.

ولان غدامس الصفا أكثر تقبلاً بأن تكون منطقة افتراضية ما بين التخيل / الواقع وما بين الوهم / الحقيقة لـ السواد / الأخضر / الصافي، وهنا هل طرح المؤلف الواقع بوصفه افتراضاً؟ أو بوصفه بؤرة متخيلة متماهية مع الواقع. أم عمل على الكشف عن المعنى المضمر من خلال الوهم؟ أم اشتغل على الواقع بوصفه وهماً وعلى الوهم بوصفه واقعاً؟.

        أما من حيث الشكل والفكرة المطروحتين في الرواية النص، لقد كان لابد من الاشتغال على هكذا شكل فني لاحتواء السرد المتوزع من أجل توصيل فكرة (وجهة نظر – آراء – استشراف – إدانة) ملغومة محملة برؤى إيديولوجية، وهي تعتبر غاية في الخطورة في زمنية الكتابة ثم في زمنية النشر، رغم أن هذا الشكل الفني قد عمل على تكسير المألوف واختراق النمطي وتجاوز المتعارف عليه والتحرر من آلياته ليؤسس في ذات الوقت شكلية مغايرة تماماً بعد المغادرة بمفاهيم تجريبية ميتافيزيقية، معاصرة، وهي لها مشابهة في التراث العربي الإسلامي من حيث الشكل (= الصورة أحياناً): متن / هامش، ولكن هي في الحقيقة مختلفة اختلافاً عميقاً في آليات اشتغالها، فالهامش في كتب التراث ينحصر دوره بالشروحات أو يسطير عليه متن ثان مستقل عن الأصلي ولا علاقة له بالمحتوى الموجود في المتن الأول، أما عند عباس عبد جاسم، فهما متداخلين، لأنهما قد وضعا أساساً الواحد يكمل الأخر، في سياقات مفهومية المعنى، ولهذا ليس من الممكن الاستغناء عن بعضهما وإلا فقدت هذه اللعبة الشكلية الفنية مقومات وجودها وصيرورتها، وتناثر المعنى واختفى في متاهات اللامعنى نتيجة هذا البتر القسري افتراضياً، وهذا ما لم يخطط له المؤلف نهائياً، أو يفكر فيه، لأن تكاملهما يتم عبر اتحادهما(12)، وعليه أعطى الشكل مساحات واسعة في الانفتاح الترميزي التأويلي للشخصيات والأمكنة والأزمنة، وأعطى حرية غير محدودة في التلاعب (= فنياً) من جهة الازاحة والإحلال في التشكيل السردي، ومنح سلطة غير متناهية للحلم في فتح بوابات الخيال.

 أخيراً أقول إن رواية – نص (السواد الأخضر الصافي) أثبتت أن أي قارئ إذا لم يكن منتمياً إلى النص الذي يقرأه لا يستطيع أن يكون جزءاً من المعنى الذي يفهمه.

الهوامش والإحالات

  1. أرجو من القارئ الانتباه عندما تمر عليه كلمة (رواية)، فأنا أقصد بذلك: الرقوق – المتن المطبوع – الهامش المخطوط، جميعها متداخلة.
  2. هايدن وايت – قيمة السردية في تمثيل الواقع – ت رمضان مهلهل سدخان. مجلة الثقافة الأجنبية. العدد 3/2009. ص53.
  3. أمبرتو ايكو – في أثر المعرفة الخفية – ت رعد محمد مهدي – مجلة آفاق عربية – العدد 4 نيسان / 1992.
  4. تزفيتان تودوروف – المبدأ الحواري: دراسة في فكر ميخائيل باختين. ت فخري صالح. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد 1992.
  5. الشيخ علي اليزدي الحائري – إلزام الناصب في إثبات حجة الغائب. المكتبة المرتضوية – ظهران 1351هـ.
  6. هـ. غ غادامير – فلسفة التأويل. ت محمد شوقي الزين. منشورات المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء / منشورات الاختلاف – بيروت ط2 2006- ص42.
  7. م. ن. ص119.
  8. ميشيل فوكو – الكلمات والأشياء. مجموعة من المترجمين. مركز الانماء القومي. بيروت 1989 -1990 (المقدمة).
  9. عباس عبد جاسم – تطريسات (قصص). دار الشؤون الثقافية. بغداد 2003.
  10. تون أ. فان ديك – النص: بنى ووظائف – ضمن كتاب العلاماتية وعلم النص. مجموعة من المؤلفين. ترجمة وإعداد د. منذر عياشي. مركز الإنماء الحضاري. حلب 2009. ص145.
  11. عباس عبد جاسم – ما وراء السرد وما وراء الرواية. دار الشؤون الثقافية. ط1 بغداد 2005.
  12. لقد اشتغل أدونيس في كتابه الشعري "الكتاب: أمس. المكان. الآن." – الصادر عن دار الساقي بيروت 2002- على المتن والهامش أيضاً، ولكن كان اشتغاله عليهما على الطريقة التراثية، حيث كان الهامش عبارة عن إيضاحات وإضاءات في دلالية "تاريخية اللحظة" للمتن الشعري، ويقول القاص محمد خضير عن كتاب أدونيس هذا في "السرد والكتاب" – الصادر عن مجلة دبي الثقافية/ 36. ايار 2010: "الديوان / المدوَّنة" الذي حقق اتصالاً مع " عناصر الماضي" وآخى بين النظامين: نظام المخطوطة ونظام التوزيع الطباعي المتبادل بين المتون والهوامش، السوابق واللواحق، الامتداد والفواصل، ومزج بين المدى البصري والنظر الدلالي. ص121، أما في رواية - نص "السواد الاخضر الصافي" فلقد كان الهامش المخطوط متناً مضافاً للمتن المطبوع، إن المغايرة والاختلاف بينهما قائمة في الشكل والمعنى.

* عباس عبد جاسم – رواية نص (السواد الاخضر الصافي) منشورات الغسق، ط2، بابل 2002.

*نشرت في كتاب مشترك، تقديم وتحرير: د. وسن عبد المنعم ياسين الزبيدي، تحت عنوان:

كسر النمط: عباس عبد جاسم، وجاليات سرد ما بعد الحداثة، مختارات نقدية، دار غيداء للنشر والتوزيع، الأردن، ط1 2018.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم