أسامة غانم

        

في رواية "التشهّي" (دار الأدب -2007 ) للعراقيّة عالية ممدوح، يظهر الفعلُ الجنسيّ على أنّه عنصرٌ إنسانيّ فعّال ، في استراتيجيات السرد، وفي الإيروتيكية، ويساهم في صنع المعاني المختلفةِ المتفرعةِ منه: السياسية، السوسيولوجية، التاريخية، الأيديولوجية، وهنا بالذات تبرز السياسية التي كانت متوازيةً، و متداخلةً ومضمرةً  للفعل الإيروتيكي ، كل ذلك يشتغل عبرَ الذاكرة الفردية لبطل الرواية، وبعض الشخصيات الأخرى – كيتا، المغربية، يوسف، ألف- وهذا يجعلنا نطرح على أنفسنا سؤالا: هل الذاكرة الذاتية تتماهى مع الذاكرة التاريخية؟ رغم أن الذاكرة الفردية مطلقة – بمعنى أنها ذاتية بحتة - والتاريخ لا يعرف إلا النسبي كما يقول بول ريكور، ولكن التاريخ الشخصي يكون ملحقاً وتابعاً للتاريخ العام (= الشمولي ) وبهذا تكون ذاكرة الروائية والقاريْ – خاصة العراقي - مشتركةً في التفاعل والتجربة لتاريخ العراق المعاصر، وزمن الاحتلال  الأمريكي، مما سوف ينتج رؤية إبستمولوجية خارج النص السردي، تزيد في تفاعل الاتصال القرائي وتعمقه من الداخل، فالخارج (= التجربة) له انعكاساتُه وإمكانياتُه في ترسيخ الداخل (= القراءة)،  فالقراءة   في  رواية  التشهي  هي همزة وصل بين العالم الروائي للنص والعالم الواقعي للقارئ، وبهذا تحولت عملية القراءة إلى وسيط لإعادة  التصوير، لإعادة التشكيل، فان نقطة بداية الاتصال تبدأ من المؤلف لتكون نقطة نهايته عند القارئ، ومن دون: " قارئ يتملك عالم النص، لا وجود لعالم يمتد أمام النص، إن النص هو بنية في ذاتها لذاتها، وإن القراءة تحدث للنص بوصفها حدثاً خارجاً وعرضياً "(1)

 فقد يكون القارئ فريسة الاستراتيجية التي اشتغلت عليها الروائية وضحيتها، مادامت هذه الإستراتيجة مخفيةً في أعماق النصّ، ولأن تماسك الإستراتيجية أكانت مخفيةً أم ظاهرةً فإن نقطة انطلاقها تكون في الجانب غير المرئي من النص الأدبي.

         تبدأ الرواية وسرمد برهان الدين الذي لم يكمل الخمسين بعد، المترجم، والمنفي في لندن، والشيوعي السابق، بمخاطبة ذاته: "ماذا ألم بي وبصاحبي؟ ص2 "، وصاحبه هو  قضيبه (ذكَره) الذي أصيب بالضمور والانكماش إلى حد الاختفاء، نتيجة السمنة المفرطة، ودخول الذكَر مرحلة اللا اعتيادية حيث إنه لم يختف كلياً، ولكنه بقى لا ينتصب أبدا، إنها اللعنة، لأنه كان يعتبر عضوه الوسيلة لإثبات وجوده "بيولوجيا" في ممارسته للجنس مع النساء، بينما كان هذا الانغماس غير الطبيعي يدلل ذهنيا على تستره، على فشله في المواجهة عندما كان في العراق، وفي أوربا لاحقاً ، فالجنس هو التعويض: "إن عضوي المسن كان يجامع من أجل اللا شيء ، من أجل الفراغ والتلاشيْ ، من أجل الآخرين، لا من أجلي أنا" ص 8".  

        إن اختيارات القراءة في التشهي هي اختيارات مشفرة أصلاً فيها، وتستدعي قارئاً يتجاوب معها، وعندها تتكشف بلاغة الرواية المتركزة على الروائية عن حدودها، وهنا علينا التأمل في لحظات ثلاث، تقابلها ثلاثة محاور متجاورة، متميزة، وهي:

1 –الإستراتيجية كما يتدبرها المؤلف وتتوجه إلى القارئ.

2-تسجيل هذه الإستراتيجية في تصور أدبي.

3-استجابة القارئ باعتباره إما فاعلاً أو باعتباره الجمهور الذي يتلقى (2).

وإن القول بأن الروائية تصنع قُرّاءها قولاً يفتقر إلى جدليّة المناظرة، قد تقوم الرواية بإيجاد قراء جدد، نعم، ونعني بذلك القارئ الشكاك، فإن القراءة ماهي إلا عملية جدلية بين النص السردي، والمؤلف الضمني، جدلية ترغم القارئ على الرجوع إلى ذاته.

         وهذا ما حصل في "التشهّي" حيث قامت عالية ممدوح بتوصيل رؤيتها للأشياء إلى القارئ المتلهف لمعرفة ما في سطورها، دون أن تكشف له مفاتيح اللعبة، ودون أن ترشده إلى المداخل، لقد وضعته في عملية الاكتشاف، والسير فيها رغماً عنه، فإن عالية ممدوح في غموضها هذا، وتضليلها للقاريْ، قد قامت بتحريره من ذلك في الوقت ذاته، مع إحالة النص الروائي إلى ذاته، ليكون مؤوَلا إحالاته وشفراته في مواجهة القارئ، الذي تتحول قراءته عندئذ إلى قراءة تأويلية.

       وإن سلطة سرمد برهان الدين الصورية في الكتابة والذهنية في القراءة، تتوزع عليهما          بالتساوي، وذلك حينما يبدأ الجسد بالتحول إلى مسخ، إلى جسد ميت عمليا (أخصاء + سمنة متوحشة)، لكن مع وجود التفكير، بكل استيهاماته وشبقيته.. وفعاليته، أو سيرته الحياتية معجونة بسيرته الجنسية، وهذا يذكرنا بمسخ كافكا عندما يستيقظ صباحا وقد تحول إلى حشرة، مع بقاء عملية التفكير، ويتحاور مع أهله عبر باب غرفته الموصود، وهو في خضم تفكيره بوظيفته، وبمقابلته لأهله، فلقد عمل كافكا على مسخ جسد بطل روايته كله، حيث حوله إلى صرصار، بينما عالية ممدوح مسخت قضيبه (ذكَره) فقط، مع تشويه الجسد بالسمنة المفرطة، ففي هذا التوافق -المتنافر، تبرز عندنا الصور المضمُورة، والمختفية، وهنا وفي هذه الحالة تعمل القراءة على إظهار غير المكتوب في النص.

      ويتفاجأ القارئ وسرمد من موقف طبيبه الباكستاني (حكيم الصديقي)، عند مراجعته له في عيادته في لندن، بل وتكون أقواله متسمة باللامعقولية والشطط مع سرمد، موقف غير متوقع وسرمد في قمة معاناته وتفكيره بصاحبه الذاوي، المنكسر الضعيف، المنكمش –ص،12 ،14 – يسمع صوت طبيبه الخالي من أي أمل:

أنظر إلي، في هذه اللحظة أريد أن أقول شيئاً لنفسي وليس لك فقط، أبداً لم تكن أعضاؤنا ذخراً لنا، أعني ذخيرة وطنية. دائماً هناك ذلك الأمر المثقل بالغم، الضمور، الانكماش وربما الاختفاء -ص 3 الرواية.

       جملة تحمل من الدلالات – الرمزية الكثير، بـ انفتاحات تأويلية مختلفة متعددة، وخاصة (ذخيرة وطنية) دلالاتها التأويلية واضحة وهي الموت المجاني في حروب عبثية، وإذا علمنا أن سرمد قد مرّ بعدد من حالات الاختفاء، اختفائه عن العراق بسفره إلى لندن المصمم من قبل أخيه مهند لكي يستولي على حبيبته ألف، مطالبته من قبل دور النشر بإخفاء اسمه عن أغلفة الكتب التي يقوم بترجمتها، وأخيرا اختفاء جزء من جسده:

- كنت أتحذلق على حالي وأنا أحسب الاختفاء ضروريا في بعض الأحيان، قلت ربما هو اختفاء لحقبة من عمري. ص4 الرواية.

- ابتسمت دون مناسبة حين عادت إلى ملاحظات دور النشر التي كانت تفاوضني مازحة

أو جادة:" عليك بالاختفاء، نعني اختفاء الاسم، اسمك" ص5 الرواية.

- بالتأكيد هو إغراء حقيقي أن يختفي عضوك، كأن هناك مصلحة عليا مرتبطة بالاختفاء ص3 الرواية.

      تتكئ بنية رواية التشهي على قضيب سرمد، أداة المتعة الجنسية، لقد جعل أدونيس  الجنس أداة للتجاوز، وخلخلة السائد، وتقويض سلطة المحظور "والخروج منه إلى واقع ميتافيزيقي، لأن الاستغراق في الجنس ينقل الإنسان إلى عالم آخر بعيد، متناسياً ذاته المادية الواقعية" (3 )، بينما بطل التشهي اتخذه وسيلة لإثبات وجوده ولتعويض فشله، ثم تنبثق حين الضمور الذكريات، والاستيهامات والمشاهد، ويكون الجنس/العضو هو نقطة الانطلاق نحو استكشاف المخفي، وذلك باستعادة سيرته الجنسية مع أربع من عشيقاته : فيونا لنتون الأربعينية ذات الشعر الأشقر الداكن، الأستاذة في المعهد البريطاني في بغداد التي فتحت بأيديها أكمام شهواته الداعرة، وإفساده بين ساقيها وهو لا زال في الثانوية، ولا زال ضائعاً ما بين "الاستمناء والتشهي"، وهي المرأة المشعّة برائحة وماء المضاجعة، والرغبة المخيفة المقذوفة من قصص ألف ليلة وليلة، إنها تضاجع مثل كاهنات معابد أور وبابل اللواتي جعلن  أجسادهن متعة لكل عابر سبيل، إنها التي "تموت وتعود ما بين ساقي ومائي فتبتكر صرخات لم أسمع مثلها من قبل – ص 21 الرواية" ،  إنها الغواية بذاتها، بلحمها وشحمها، إنها المرأة التي تعيش للجنس وبالجنس، إنها تضاجع لكي تستمر في الحياة، وإن كل ما عرفنه عن السيدة فيونا الإسكتلندية، جاء على لسان سرمد، ولنستمع إليه وهو يصفها بدقة متناهية:

"ترفعني إلى أعلى، وترفع ذكَري أعلى، أعلى كثيراً، أعلى من الأعوام والبلدان واللوردات وملكات وملوك بريطانيا العظمى، وكأنها تجهزني لتقنيات لم أجربها بعد، تدلك وتمسد كل شيء بيدها بقدميها بظهرها وبطنها ويتم الانفجار، فأشعر أنني بللت وجهها وشعرها ورقبتها ونهديها. كانت تأخذه بيدها وتجعله يصب كما يشاء على أطراف وأجزاء بدنها، فتضحك بطريقة شيطانية لم أسمع مثلها" ص 20 الرواية. فهي تزداد إشعاعا وهو يزداد عتمة، في قولها له، وهي تحمحم: سأدربك وأعلمك. سأطبخك على نار جسمي حتى تتصاعد رائحتك من داخلي، من جوفي ولساني فأنا خليط من كل شيء، منك ومني. وأنت بكر تغرف على عجلة وبلا تركيز. ص19الرواية.

      وبسبب مثل هكذا مقاطع وغيرها، منعت رواياتها، فتقول في إحدى مقابلاتها في مجلة نزوى الثقافية العدد 67:"فكتبي شخصيا كلها ممنوعة في بلدي وفي بلدان عربية لا أقدر على تعدادها، وأنا شخصياً ممنوعة من زيارة بلدان عربية؛ لأنني لا أملك جواز سفر عراقي." وللأسف الشديد أن كثيرا من المسؤولين في مجال الثقافة قد نصبّوا أنفسهم فقهاء عليها أي الثقافة، ولكنهم هم فقهاء للظلام، ولا يستطيعون أن يميزوا ما بين الواقع والخيال، وما بين الحقيقي والحلم، فعالم السرد غير (= يختلف) عالم الواقع، وبالمقارنة، فان الشخصيات الروائية نفسها (هي "غير واقعية "تماما، و"غير واقعية " أيضا هي التجربة التي يصفها القص. وفيما بين "واقعية الماضي" و "لا واقعية القص" يكتمل التفاوت واللاتجانس) (4).

      أما كيتا عشيقته البرلينية، الشيوعية السابقة خريجة جامعة كارل ماركس بدرجة امتياز، أول ما تعرف عليها في بيت أحد أعضاء الحزب الشيوعي العراقي بلندن، ونقرأ وجهة نظرها في أحداث العالم، وفي علاقتها مع سرمد ورأيها في الشيوعية، من خلال اشتراكها في السرد، إضافة إلى وجهة نظر سرمد فيها، وعلاقته الجنسية معها، وللدلالة الرمزية على ذلك لنتأمل ما تقول له كيتا في أثناء الجماع على لسانه:

أسمع أنت لا تضاجع لكنك تنتقم، أخبرني، هل جميع الرجال العرب يمتلكون ضراوة الانتقام هذه وممن يا عزيزي-ص 22 الرواية).

هذا يذكرني ب بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال "واشكالية علاقاته مع نسائه، في فقَده السيطرة على نفسه عندما يكون في الفراش معهن، لحين قتله زوجته الإنكليزية، فالانتقام ما هو إلا نتيجة حتمية للتراكمات السايكوسوسيولوجية وترسباتها ضد الاستعمار، والاضطهاد والعنف والاستغلال، والصراع بين الشرق والغرب، والرؤية المشوهة لكل منهما، ولكنّ سرمد كان يعمل على الانتقام من ذاته بتعهر جسده لحد أذى الآخر أحيانا، لأنه فقد بلده إلى الأبد دون أن يكسب بلداً أخر (ص-74). وهذا حال الشيوعي المهزوم مهيار الباهلي أحد شخصيات رواية "وليمة لأعشاب البحر"، فإنه يغرق نفسه في تجاربه الجنسية، والالتذاذ بها، عبر استعادتها كل مرة بشكل آخر لكي ينسى أين هو، ويلتقي في هذه الرؤية مع سرمد عندما يقول:

(أما وطني أنا، فهذا البانسيون وهذا الجسد).

بل نرى أن رؤية سرمد أكثر تطرفاً في ذلك، حينما يقول:

(فعضوي هو الآخر أحسبه وطنا- ص 99 الرواية)

هم مهزومون أمام حكوماتهم وأنظمتهم الاستبدادية، وليس ذلك فقط بل مهزومون أمام أنفسهم، عندما يحاصرون ذواتهم في أصغر مكان في العالم، في الجسد-المكان، ولكنهم في اللاشعور، يبحثون عن المكان الأول، "لان من بين جميع الأمكنة الحقيقية والمجازية علانية واستفزازاً وجمالاً هو الجسد "(5)، وهو الذي يشكل المكان الأول، الهنا أيضا كما يقول بول ريكور، وبإمكاننا أن نتعرف على مدى قوة وسحرية الجسد لدي عالية ممدوح في أدبها، وماذا يشكل عندها هذا الجسد حينما تصفه بطريقة مليئة بالخشوع والتعجب:

أتذكر دائماً جسد السيدة افتخار عاهرة الحي الذي كنا نسكنه وهي تحت العباءة، وتمشي وراء جسمها يسابقهاُ حيواناً لا مثيل له) (6).                                  

      وعندما يكون هو مع مجموعة من الضيوف ومن ضمنهم كيتا في ضيافة السيدة هنكا البلغارية، وهو يتحاور معها يشطّ خياله في رسم صور فانتازية لأعضائها الجنسية مع اقتحامه العنيف فيها:

رفعت كيتا رأسها وابتسمت في وجهي. كنت أشاهد في تلك الابتسامة مبيضها ومهبلها وبالحجم المكبر. شاهدتها وأنا اخترقها على السرير وهي تئن وحبات العرق لا تقوى على مسحها فأمسحها بشفتي. كانت بين ذراعي، وهذه الضحكة كانت تصلني كهديل (الفختاية) فوق تيغة حوشنا بالوزيرية. ص-26 الرواية.

    ومن المفارقات العميقة في رواية التشهي أن أغلب شخصيات الرواية من الشيوعيين السابقين: سرمد برهان الدين –كيتا –نسيم جلال–الطبيب السوري يوسف – أبو مكسيم -  وأعتقد أنّ ذلك كان مخططاً له مسبقاً، وبقصدية عالية من قبل الروائية، فالقيادات سقطت مع سقوط جدار برلين، فـ كيتا تقول عن نسيم وهو عيّنة من شيوعيّي الخارج: "كان يردد وهو داخلي: إن الشهوانية السياسية لا تصل إلى الشهوانية الجنسية –ص 32 الرواية "،بل إن البعض منهم قام باستغلال الشيوعيين الهاربين من البلد، مثل أبو مكسيم ،الشيوعي المتأمرك، ذو اللهجة العراقية –الإيرانية ،  الذي يقدر أن (يدحرج رؤوساً كثيرة، وفي أوقات قياسية وليس بيده وبدون شفقة تذكر ..إنه متفرد –ص 40 الرواية)، ليس ذلك فحسب بل إنه كان يقوم بعقد صفقات مشبوهة، وأعمال قذرة، ورغم ذلك كان يضع البازباند في مكان من جسمه ، إنها الازدراجية ،وإنه السقوط الذي جعلهم يبررونه عند دخولهم تحت خيمة المحتلين، ويبررون العولمة والانفتاح، لقد أصبحوا بياعي كلام، إن هذا يجعل القارئ /الناقد في منزلة الرائي المتأمل ذاتياً إزاء المعاني التي نسميها التاريخ، والتي تطرحها عالية ممدوح بصورة مباشرة صادمة للبعض، فلقد عملت على اقتحام تابوات الجنس والسياسة لبلد فيه حرب تلد أخرى، فهي تقول لوكالة فرانس برس:

كيف تلاحق بلداً بالكلمات والسرد والشخصيات، وهو يُحتضَر ما بين قوة الاحتلال وبين الخراب والجرائم والمليشيات التكفيرية.

هنا تتوضح لدينا مفارقة المعنى، التي تعمل على تصعيد وتزايد القدرة التأويلية عند القارئ، وتعمل أيضا على تحقيق الفكرة الاستراتيجية التأويليّة التي توحد الروائية والقاريْ، فالفكرة تقوم بوظيفة حلقة الوصل بين المعنى الموجود في النص والمعنى الواقع خارجه، بل تتعدى ذلك لتكون بين معنى المؤلف ومعنى المؤوَل، لضمان مشاركة المعنى بين المؤلف والقاريْ معاً، وبهذا نستطيع الجمع بين ذاتية المعنى وسمة التأويل السوسيولوجية.

    أما المغربية أمينة والتي أطلق عليها أبو مكسيم البيضاوية، فكانت بنت إقطاعي، تعمل في مؤسسة للأدوية في لندن، وهي زيرة رجال، وكانت تحب أنوثتها والكشف عنها، وتنام مع من تشتهيه ووقت ما تشتهي، وهي باختصار شديد السكرتيرة والمترجمة الاستثنائية، وهي ليست لها أية علاقة إيديولوجية/سياسية مع أية جهة، إنها تمثل الشهوة المنفلتة، وهي بالنسبة إلى سرمد: " كانت أكثر نسائه شبقاً وسخونة وضحكاً عالياً –ص 11 الرواية " و " كانت ألذ النساء إلى حياتي – ص 80 الرواية "، وتقول له حين تشاهده في حالته الغرائبية:

انني أفهم صاحبك أكثر منك، سرمد، مدينتك تدك دكاً، وأنت غير قادر أن تدكني بوردة –0 ص0 8 الرواية)، هل أصبح الجسد /الوطن غابة من القبور في هذا الترهل المتمثل بالاحتلال والأحزاب الدينية والأممية والقومية ؟! أن العجز لا يقتصر على الجانب الجنسي وإنما يشمل : العجز اليوم أمام المحتل كما بالأمس أمام الطاغية، وما يتركه ذلك من خراب وتدمير للنفوس وللأمكنة، إن في رواية التشهي تتداخل الزمكانية عميقا، وتتداخل الشخصيات والوقائع، حيث الكل تراهم موجودين في كل صفحة من الرواية، وإن هذا التداخل لا يشعر به القارئ، لذا ينبغي "الاعتراف ..أن عالية ممدوح تمتلك أهم ( الشفرات /المفاتيح ) في الكتابة الروائية، ليس لأنها تجيد قواعد اللعبة بمهارة فائقة، وإنما لأنها تفتح مجال اللعب على الروائي الدال المفتوح على مستويات متعددة من الأصوات، بما في ذلك الكيفية في خلط الترتيب الزماني والمكاني للشخصيات والأحداث "(7)، وعليه يجب أن نضع لقراءتنا هذه هدفاً في دراسة التضمينات والصور المتعددة والشخصيات المختلفة ومناقشتها بحيادية ومن ثم ربطها بالجوانب السياسية والسوسيولوجية، والتاريخية والإيديولوجية ،لكي نتمكن من العثور على الشفرات /المفاتيح ضمن سياقات الجدلية /التأويلية وانفتاحاتها على الجوانب الثقافية الحديثة.

         إن المميز في التشهي، هو عندما نقوم بتحليل مضامين الرواية وارتكازاتها، ورؤيتها، وتحولاتها التخييلية -السردية، لا نستطيع تناولها بعيداً عن شخصيات الرواية ابداً، وإلا كانت مبتورة، ويسقط التحليل في فخ التجزئة القسرية، بمعنى أن أية دراسة تتناول الرواية، ولا تعرج على الشخصيات كأنها تكون تبحث في القشور، ولا تستطيع تجاوز المربع الأول، وللتداخل العميق في سردية النص: الزمكانية، الشخصيات، الأحداث، تداخل الحوارات، تمفصل شكل الرواية. مثلا تبدأ الرواية بمقابلة سرمد للطبيب الباكستاني، بينما هذا الحدث في حقيقة النص يكون قبل ذهاب سرمد إلى باريس للعلاج في مصح صديقه الطبيب يوسف، فالتسلسل الزمني في هكذا رواية قد ألغي تماما، لأن النصّ كلّه مبني على الذاكرة، فهي رواية – ذاكرة، لتتحول قبل نهاية الرواية إلى رواية – مذكرات على شكل مخطوطة:

        "فلا أقدر على أعادة تركيب ماضيَ، فجميع من سردت شذرات عنهم في هذه الكراسة ينفلتون من التجانس، ولا أريد أن أبرهن من خلالهم على أي شيْ .... كلهم حضروا إلى هنا، في المخطوطة، كل الأسماء التي ذكرتها هنا، وحتى لو حضر أصحابها مرة واحدة فقط، سوف أقوم بتعدادها وليس حسب التسلسل ... حتى دخل الشقر تلك البلاد. ص 123 – 124 الرواية). 

          التشهي، الشهوة، الاشتهاء، مفردات متعددة تلتقي في تشه، الرغبة الملحة والشديدة في ذلك الشيْ، الجنس، الطعام، الملابس، الكتابة، السياسة الخ:

  • كنت أشتهيها وأشتهي تحولاتها ص 28.
  • الشهوانية السياسية لاتصل إلى الشهوانية الجنسية ص32.

-    أنت اشتهيت أن تكون روائياً أو حكائيا ص134.

  • فانا أحب الأكل والمضاجعة ص4.
  • فهذا الجسد الذي تملؤه الشهوة ص95.
  • أرجوك يا سرمد تعلم الهدوء هو أكثر قوة واشتهاء ص 56.

شهوة الدمار، وشهوة القتل المجاني، واشتهاء الأخضر الإبراهيمي "هكذا يسمي العراقيين

عملة الدولار فئة المائة كنكتة "، وتشهي الخراب الضاربة أطنابه في كل زاوية، وشهوة إلغاء الآخر على الهوية، وشهوة الاحتلال في استباحتنا شعبا ووطنا، وتتجلى براعة الروائية في الإحالة للسمنة إلى عملاء الاحتلال:" السمنة جعلتني رهن ذلك الاحتلال "ص92. ولقول كيتا له: "إن الغرب والشرق دمر بلدك فكنت تفتي علي بصوت ممرور، لا ربما، البلد يغري بالتدمير أليس كذلك؟ ص44 "

ويتسأل سرمد بخبث مبطن عن معنى اسمه واسم بلده:" ترى ما معنى اسم سرمد، وما معنى اسم البلد، ذاك الذي هناك؟ " ف سرمد= الأبدي = الأزلي، فكيف ذلك مع وجود عضو متعطل "مصاب"، بينما الطبيب حكيم يضعه في مربع الموت، وذلك لعدم قيام عضوه بواجباته الجنسية: لماذا لم تمت؟ ولا حلّ كان أمامك إلا الموت، أنت أصلا كنت مخصصاً للموت، عضوك الكريم تخلص منك ص3، هنا توقف يهدد تجربة الأبدية هذه: في موت القضيب، هكذا تستمر المعركة بين الأبدية والموت، لكن العلاقة بين الأبدية والموت لا تمحَى، أما رمز مهند، فهو لا يحتاج للتفكيك او التأويل العميق، فهو يمثل السلطة الدكتاتورية، القمعية، المستبدة، قبل الاحتلال، وهو ضابط مخابرات، وكان يستعين بكل شيْ من أجل تحقيق مآربه، بالفتيات الجامعيات، وموظفات فنادق الدرجة الأولى والثانية ونساء السياحة والخطوط الجوية، لقد قام بفتح شركات ومطابع ومجلات وصحف لتغطية أنشطته الاستخبارية ( ص121 )، وأسس وكالة مصرفية في بيروت سماها هندس، تورية لجعل الاسم  " مهند  =  السيف = القتل ،البطش ،الدم " و العمل يتوافق تماماً مع اسم الوكالة، ففي اللهجة العراقية هندس تعني الظلام الدامس، حتى أخيه سرمد لا يسلم منه:

" لا تتأفف كثيراً فلدي تسجيلات لك ولألف وأنتما بلندن في غرفة نومك وفي الفندق. للبيضاوية، وهي تصبغ شواربك وتحممك مثل حيوان رخوي لا تهش ولا تنش. لكيتا وانتما بالحمام سوياً وأنفاسك الرقيقة تمسحها عن الزجاج لكي ترى وجهيكما بالمرآة – ص 47. "بل إنه كان أفظع وأخطر من ذلك، لوجوده في شبكات مشبوهة وخطرة، معه أبو مكسيم الشيوعي، وأبو العز الفلسطيني، إنه بؤرة الشر الأسود، المعجون بالغموض والخيال، والقسوة والإغراء، فهو متوحد باطنياً متناقض ظاهرياً.

     يقول روب غريية: "الرواية بحث عن واقع لن يوجد إلا بعد الانتهاء من الكتابة "،أما في التشهي، فالواقع كان موجوداً أصلا قبل كتابة الرواية، فالرؤية السردية عبًرت عن الواقع المتخيل بعين ثاقبة، واختزنت كل المتغيرات والحالات التي عصفت بهذا الواقع المأساوي، فقط نقل إلى عملية التحولات التخيلية، ففي هكذا نص إيروتيكي ينظر إليه على أنه لعبة، تمنح المؤلف والقاريْ إمكانية إنتاج معان وعلاقات لا نهائية وللقاريْ وحده حرية رؤية واستخلاص المعاني من النص الإيروتيكي، وقد طور بارت الارتباط بين القراءة والخيال في مواضع عدة، فهو يتحدث في كتابه "لذة النص" عن العلاقة بين القراءة والتخييل الخلاق، ويحدد لاحقاً فعالية القراءة بوصفها شهوانية "حلم- قراءة "، بل يكرس ذلك ويعمقه عندما يضع الأنا /الآخر/العالم في علاقة جدلية عرفانية من خلال القراءة حيث تصبح "رغبة في الآخر وعشقا للجسد "( 8 ).

     وهذه العلاقة الجدلية-العرفانية في تقديس الجسد، نعثر عليها في علاقة ألف بسرمد، حيث وهو في وضعية الانهيار الكليّ  يجعلها بجانبه (يتذكرها بحميمية)، ولا يستطيع التخلي عنها: "مرضي هو شهيتي لبطنها وفخذيها وصدرها، لجميع أعضائها ولذاتها وتعاستها –ص 110 الرواية " وينسى جميع الفروج التي ضاجعها باستثناء فرج ألف، اختزال في الجسد وفي التوحد وفي الذاكرة، أما هي فتكون الجهة الأخرى للجسد المتشاركين به، المنعتقين منه، والمتوحدين فيه، رغم فناء عائلتها بيد مهند، فالأب الدكتور رياض البغدادي  وجد مقطعاً بمشرطه، وسيف شقيقها تبخر، و والدتها المهندسة المعمارية أصيبت بفالج أقعدها (ص116 -117 ) هي بقيت على موقفها المتحدي والمعارض بينما هو وقف ( على الحدود القصوى ما بين الجريمة والجنون .ص 117 ) وقام برحلة اللا عودة منها (رحلة التخلي والخيانة )كما يسميها هو.

     وباختصار شديد، نقول إن سرمد إنسان لا منتمٍ، ويتجلى ذلك في ذروة موقفه العبثي من الآخر والعالم، حيث يتماهى مع ذكره، وذلك عندما يسأله يوسف عن مرجعه يكون الرد متسماً باللامعقولية، وبإسقاط جميع الثوابت: "نظرت في عينيه تماما، فتحت أزرار معطفي الصوفي وسترتي أيضا مددت يدي إلى ذكري وأشرت عليه قائلا بتمهل شديد:

- (هذا...) ص 127 الرواية.

    من الواضح هنا أن القارئ كما الروائية تماما ينغمس بصورة فعالة في خلق نص جديد، نتاج لتداعيات شخصية يستثيرها النص الأصلي ليجعل لذة عملية القراءة ترتبط بالإحساس المفعم بالذات، ذلك الإحساس الذي تفيد القراءة في بلورته، رغم انشغال القارئ في استبطان النص وتأويله، لينتهي بالتأويل الذاتي لذات ما، وذلك لمعرفة نفسها ولمعرفة الذات الأخرى. وتتجلى قصدية المؤلف المختفية وراء النص، عند إشارة سرمد إلى ذكره بكل برود ولامبالاة، ليس إلى حاجتها للتفسير والفهم فقط بل إلى الاستيعاب المقترن بفرز المعنى، الذي يعمل على "انكشاف طريقة ممكنة للنظر إلى الأشياء، وتلك هي القوة المرجعية الأصيلة للنص ...ويسعى التأويل في مرحلته الأخيرة إلى المساواة والمعاصرة والاندماج بمعنى المشابهة. وتتحقق هذه الغاية بمقدار ما يحقق التأويل معنى النص للقاريْ الحاضر "(9)، ولتتحول الصور الوجودية إلى صور مجازية، وهذا ما يسميه غادامير بانصهار الآفاق حيث "ينصهر أفق عالم القارئ بأفق عالم الكاتب. ومثالية النص هي الرابطة في عملية انصهار الآفاق هذه "(10)، وهنا تكون للخيال وظيفة تأويلية محددة في دعم ومساندة المعنى، وإمكانية طرح الأسئلة الحقيقية الإبستمولوجية.

      وباستطاعتنا العثور على تحولات التخييل الأيروتيكي، بصورة جلية مع عمق في تمايز هذه التحولات، وتشظيها، حيث تتلبس الجنس والسياسة، وذلك في قول ألف: آه سرمد، الجنس معك يشبه التحريض ضد كل شيْ، كلا، ليس هو الثورة أو التمرد كما تقولون في السياسة. الجنس معك يتبدل وينقلب من حال إلى حال فيجعل أشيائي الصغيرة في داخلي تنتقل من مكانها. تعرف، أشتهي لو كنت منحرفة بطريقة من الطرق، أعني، الجنس يظل أمرا مفتوحاً على الدوام، يتغير في كل ثانية، يصير أنواعا وأنواعا ولا تكفيه التأطيرات والتنظيرات أو التعابير الشعرية-ص 114 الرواية)، أن هذه التحولات لا تخضع لأي شيء، لا للتأطير، ولا للتنظير، بمعنى أنها مفتوحة ويشتغل اللا متوقع واللا مخطط فيها.

     ألف.. من هي؟ إنها المعيدة في الجامعة، والتي كانت جزءاً من مؤامرة مهند لإقصاء أخيه سرمد  إلى خارج العراق، دون أن تدري، لكي يستبيحها، وليذل سرمد من خلال جسدها بتعهيره من قبله، وتدخل العملية الجنسية معه أيضا في نطاق تحولات التخييل الإيروتيكي ، في صورة سلبية، يقول لسرمد :اسمع ،خراء عليك وعلى ألف التي كانت تضاجعني وهي تحلم بك فوقها، وأنا أعرف ذلك ولا نحتاج لا هي ولا أنا إلى أي اثبات ولكني أبقى داخلا فيها ليس بقوة الرغبة واللذة وإنما بشروط العداوة والبغض الذي يركبني  وأنا أركبها  ص46) أسمها أول حروف الابجدية ،أ، مليء بالألغاز والسحر ،أنه نوع من " الترانيم السومرية "، وملحمة كلكامش ، وأناشيد التوراة ،"هل هو هكذا، حقيقي وخرافي".

 وليس من الممكن أبدا، دون قراءات معمقة، وتأويلات تستند على مستلات من النص أن ننشى عملية ترميزية دلالية، فمثلا هل اسم ألف "رمز إلى السلطة التي ظل الشيوعيين العراقيين يحلمون بها ويغازلونها عن بعد "(11)، فمن خلال قراءتنا تستنبط الرموز وخاصة نحن محكومون بسياقات الحياة التي يقوم عليها الوعي الجمالي/ التاريخي /التأويلي، وأن عالية ممدوح كانت متعمدة في عدم إعطائها اسماً صريحاً، فقط حرف، لا يخضع لأي معنى مادي، المعنى يولد من بين وقائع ألف، لذلك ينبغي (التسليم بلغة الخلق التي عبرها يوجه الإله خطابه. بيد أنه لا يمكننا الانغلاق في فكرة مفادها أن "المعنى "لا يستعمل في الخطابات والكتابات فحسب، وإنما أيضا في جميع الإبداعات البشرية حيث تكون قراءة وفك الرموز نشاطاً تأويلياً) (12).

       الفهم التأويلي لقرائية النص يضعنا أمام ثلاثة اتجاهات قصدية: قصد المؤلف، قصد القارئ، قصد النص ،وبهذه العملية تنشأ جدلية – حوارية، تتجاوز ديالكتيك هيجل بين النقيضين، فما بين السمنة المفرطة، وضمور الذكّر، وما بين اليسارية المتطرفة والصفقات المشبوه، وما بين فكر سرمد المتناقض ودموية مهند الثابتة، ذلك كله نتبينه في إنتاجية النص المقروءة، وإنتاجية المؤول، ولكن ليس بالضرورة أن يتطابق مع ما قصده المؤلف، فقرائية النص إنما تحكمها قوانين وآليات مضمرة في داخل فعل القراءة، غير قوانين وآليات عملية الكتابة، وهذا يكرس بأن القارئ/ الناقد هو كائن تاريخي ثقافي.

         أن القصدية الثلاثية تلك، تكون خاضعة لثلاثة مفاهيم غاداميرية أساسية وهي: التفسير، والفهم، والحوار.

التفسير هو إيضاح شيء ما، أما الفهم من خلال التفسير يتكشف لنا نهائية الفهم الإنساني، فالفهم يبقى دائماً فهماً مفتوحاً، أو تكثيف وعينا لمعرفتنا بالأخر وبالعالم، فالفهم عند غادامير يمثل: اللغة. الجدل. التاريخ، أما الحوار فهو يتضمن التفسير والفهم، لكنه يتجاوزهما، الحوار يتسم باللانهائية، وهو وسيط التواصل مع الآخر.

       ويتساءل البعض لمعرفة كيف يصبح النص إيروتيكيا؟ بداية علينا معرفة العلاقة التفاعلية بين النص والجسد، ومدى عمق العلاقة التي تربطهما، إذ يمثل الجسد مجموعة من الرموز والعلامات والإشارات، بشرط ألا تقع في المخيال السردي الإباحي، بل إن تتشكل في القراءات الثقافية المتعددة والأنساق المختلفة، مع رؤية متجذرة إنسانياً، وبهذا المفهوم نستطيع أن نكّون رأياً عما فعله مهند بـ يوسف، لنبدأ بأقوال سرمد فهي سوف تكون مدخلا ولو ضيقا، ولكن سوف تعمل على أضاءة "الفعل" المرتكب:

"كنت اعرف جميع المكابدات التي تعرض لها من ملاحقات مهند ثم الفتك به، والتواري من أمامنا أياما طويلة وكيف تمرد على الصداقات كلها وفر إلى جامعة الموصل -ص 70 "

وفي المقطع السردي التالي يعلم القارئ ما معنى "الفتك به " وماهي طريقة الفتك تلك وكيف:" كل شيء يفعله بالظلام ... كان يتركني أنزف كما في المرة الاولى حتى يمتلئ لباسي الخام بالدم الذي بقيت صورته تطاردني حتى هذه اللحظة – ص 71 الرواية "

هذا الفعل اللا إنساني، يترك جرحا مفتوحا نازفاً في الذاكرة وفي الجسد عند حاملهما، مما سوف يترك ذلك على سيرته الحياتية والجنسية مخالبه الغائرة فيهما:

" تزوجت روزالين التي تكبرني بخمسة عشر عاماً لكني كنت أعيش بمفردي، أضاجع بصورة مزرية وأصبح أكثر صعوبة إذا ما حاولت المضاجعة مرة ثانية أبدو مجهولا، ليس من النساء فحسب وإنما من نفسي بالدرجة الأولى – ص 74 الرواية ".

هذا الحفر في المسكوت عنه (التغاضي) المضمّن في خطابات الجسد المنتهك يؤدي إلى تفجير تاريخ المكبوت لإغناء الثقافة الإبستمولوجية المعاصرة.

       تبدأ رواية التشهي بـ "إليه .." وتنتهي بـ "و..."، بمعنى بداية لم تبدأ ونهاية لم تنته، فمن هو المدعو "إليه" ؟! ،وال "و..." من الممكن أن يتناسل منها كلمات لا نستطيع أن نحصيها، إنه الفخ الذي تنصبه لنا الروائية، فخ الممكن والمستحيل، الفخ الذي من يستطيع أن يمسك بمفاتيح خرائطه، قد يكون حل الغازه، ومن لا يستطيع يكون قد تاه، والسطور تصبح عنده مملة، رتيبة، مسكونة بالظلام الدامس "هندس" ،هذه كانت لعبة عالية ممدوح في السرد – التخييلي، عندما قامت بخلط كل الأزمنة والأمكنة والشخصيات، وخلط المواقف، والروى لتعمل على إعادة كتابة الرواية بالاشتراك مع القارئ، إنها لعبة البلد المسمى العراق في تحولاته: السوسيولوجية، السياسية، التاريخية، الثقافية. إنها اللعبة التي "يضخون ثلاثة أنواع من السموم القاتلة في عروقنا ومع هذا لا يقضي علينا – ص 137 الرواية"، لعبة أن أكون او لا أكون، وهل سيبقى اسمه المريض العراقي؟ وهل سيظل نائماً في دواخله أو سيطول غيابه عن الوعي؟ أو ستظل "تعيش في مكان آخر وهذا الأخر هناك"؟ أسئلة تتناسل منها أسئلة، والإجابة أظن اأنها عند الأخر الذي هو: أنا. أنت. هم. ولكنها ستكون ملغزة، ملغومة.

       ويأتيه صوت ألف من شريط مسجلة سيارة يوسف وهو في الخلف ورأسه ملقى في الخلف، وهما ذاهبان إلى النورماندي: "فما عليك إلا البقاء حياً فهذا وحده يفقأ عين مهند من قبل، وعيون الشقر من بعد ...ماذا عسانا نفعل لكي ندون ما يحصل، وأية لغة علينا أن ندون بها، فالعربية سوف تتحول إلى نشارة خشب، وكأن هناك لعنة سرمدية تتعقبني ولغتي، اللعنة على الاسم والحرف والفعل والمفعول به، ودجلة المخنث – ص 135 الرواية".

      يسأل بول ريكور في مفتتح كتابه "الذاكرة، التاريخ، النسيان"، سؤالين: من ماذا هناك ذكرى؟ لمن هي الذاكرة؟ (13)، أن الذاكرة هي التاريخ للإنسانية، فمن ليس له ذاكرة ليس له تاريخ، ومن هذه الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، وتفاعلهما فيما بينهما جدلياً، تنتج سوسيولوجيا الذاكرة الجماعية التي بدورها تعمل على خلق التاريخ، الحامل في دواخله: الأنا، الآخر. وهذا ما نشاهده في شرائط التسجيل التي تبعثها ألف لسرمد: فهي تاريخ شخصي وتاريخ بلد.

      أن الرسائل والتقارير الخاصة والوثائق لسرمد كمخطوطه "باعتباره قطعة من الماضي، ليس هو حامل التراث، بل إنها استمرارية الذاكرة، فبواسطتها، يغدو التراث جزءاً من عالمنا الخاص" (14)، وهذا ما اشتغلت عليه عالية ممدوح كما قلنا، من خلال الجمالية الإيروتيكية، المستندة على الذاكرة السوسيولوجية، بآفاقها المفتوحة.

الهوامش والاحالات:

  • أن مصطلح الإيروتيكية يدخل ضمن نطاق النقد الثقافي، وتكون مديات اشتغاله وتشكيلاته وتمظهراته واسعة جداً، ولامحدودة في الكتابة عن الجسد، وفي رواية التشهي قمت بنحت المصطلح، وذلك بإضافة مفهوم الجمالية المستعارة من النقد الأدبي، حيث جعلته هنا يعني الكتابة عن جمالية الجسد.

1 – بول ريكور. الزمان والسرد ج 3، ترجمة: سعيد الغانمي، مراجعة د.جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1 بيروت 2006، ص 246.

2 – م. ن. ص 239.

3 – أدونيس. الثابت والمتحول ج 3، دار الفكر ط 5، بيروت 1986. ص 216.

4 – الزمان والسرد ج 3، ص 236.

5 – عالية ممدوح. السفر بأسرار الجسد إلى مدن الباء، جريدة الأديب العدد 52 في 22 /12 /2004.

6 – حوار مع عالية ممدوح. جريدة الاديب العدد 71 في 11 /5 /2005.

7 – عباس عبد جاسم. عراقية عالية ممدوح الروائية (عدد خاص) العدد 52 في 22 /12 /2004.

8 – محمد شوقي الزين. التصوف العرفاني، كتابات معاصرة، عدد 35 ص8.

9 – بول ريكور. نظرية التأويل: الخطاب وفائض القيمة. ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي بيروت –الدار البيضاء ط1 /2003/ ص 145.

10 – م. ن. ص 146.

11 – زهير الهيتي. التشهي والإخصاء، موقع إيلاف الإلكتروني، 20 / ديسمبر /2007.

12 – هانس جورج غادامير. فلسفة التأويل، ترجمة: محمد شوقي الزين، منشورات الاختلاف / المركز الثقافي العربي، ط2 ،2006 ص 90.

13 – بول ريكور. "الذاكرة، التاريخ، النسيان "ترجمة: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت ط1 حزيران / 2009 ص 31.

14 – هانس جورج غادامير. اللغة كوسط للتجربة التأويلية، ت أمال ابي سليمان، مجلة العرب والفكر العالمي، بيروت ال عدد3 /1988.

لقد اعتمدت في دراستي هذه للرواية على النسخة المرسلة بالأنترنيت من قبل الروائية إلى الصديق الناقد والروائي عباس عبد جاسم والتي أرسلها لي بدوره، وكانت مطبوعة على ورق A4 .نشرت في مجلة الرقيم الفصلية العدد 1 نيسان 2013.    

                                                                                                                                                                  

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم