عبد الله إبراهيم

نال كتابي “التخيّل التاريخي” حظّه من الاهتمام النقدي والأكاديمي، ومن اللازم عليّ الافصاح عن مفارقتين جديرتين بالذكر في هذا السياق؛ فقد انصبّ الاهتمام على مقدّمة الكتاب وحدها، وهي بتسع صفحات، وأُهمل الكتاب الذي زاد على ثلاثمئة صفحة، فلم يقف على متنه سوى قلّة قليلة من الباحثين، وحتى هؤلاء عزفوا عن التحليلات المستفيضة للروايات الكثيرة التي وقفت عليها باعتبارها عيّنة لما رأيت من انتقال الكتابة السردية العربية من حقبة الرواية التاريخية إلى حقبة التخييل التاريخي. هذا هو مضمون المفارقة الأولى، أما مضمون الثانية، فالتمحّل الذي لا يستند إلى أي قرينة منسوبة إليّ، بأنّني ألغيت مصطلح “الرواية التاريخية” من التاريخ العربي الحديث. وهو تمحّل نمّ عن سوء فهم أو تعجّل مذموم أُريد به النيل من المقترح الذي تقدّمت به، فإنما دعوت إلى استبدال مصطلح معروف هو “التخيّل التاريخي” بمصطلح شائع هو “الرواية التاريخية” لوصف حال الكتابة السردية بعد مرور أكثر من قرن على اهتمام كتّاب الرواية بالتاريخ بعد أن تبيّن لي عدم استيعاب المصطلح القديم لطبيعة الكتابة السردية الجديدة التي تستلهم التاريخ. وإليكم الجملة الأولى من مقدّمة الكتاب: آن الأوان لكي يحلّ مصطلح “التخيّل التاريخيّ” محلّ مصطلح “الرواية التاريخيّة”.

وقد اجتهدت في القول بأنّ “هذا الإحلال سوف يدفع بالكتابة السرديّة التاريخيّة إلى تخطّي مشكلة الأنواع الأدبيّة وحدودها ووظائفها، ثمّ إنّه يفكّك ثنائيّة الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هُويّة سرديّة جديدة، فلا يرهن نفسه لأيّ منهما، وإلى ذلك فسوف يحدّ من التنقيب الذي لا تُرتجى فائدة منه في مقدار خضوع التخيّلات السرديّة لمبدأ مطابقة المرجعيّات التاريخيّة؛ فينفتح على كتابة لا تحمل وقائع التاريخ نفسها ولا تعرّفها، إنّما تبحث في طيّاتها عن العِبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وعن التماثلات الرمزيّة فما بينها، فضلا عن استيحاء التأمّلات والمصائر والتوتّرات والانهيارات القيميّة والتطلّعات الكبرى، فتجعل منها أطرًا ناظمة لأحداثها، فتلك هي المسارات الكبرى التي يقترحها “التخيّل التاريخيّ”.

وتوفّر هذه المقالة مناسبة مضافة لتوضيح الغاية من الإحلال المقترح -الذي وجدت أنه قد جرى الأخذ به في كثير من البحوث الجامعية بعد صدور الكتاب- ولست مستاء من تقويلي ما لم أقل، فلطالما حدث مثله، من قبلُ، لي ولغيري، فذلك ينمّ عن معاندة لا محلّ لها في التفكير النقدي الذي يجتهد وقد لا يصيب، ولكنه يسهم في فتح باب الأسئلة، وإلى ذلك ففي هدي مقترحي تكاثرت المقترحات الموازية التي كادت تُضيع الهدف التصنيفي منه، بدل تمحيص المقترح، وإثراء فكرته، والتوسّع في النماذج الروائية التي تعذّر عليّ بحثها، فيتولّاها غيري. والحال هذه؛ فالسبات النقدي يفيق للحظة متذمرا ثم يمضي، بعد ذلك، في رقاده الطويل كأنّ شيئا لم يكن سوى الإزعاج الذي سببته الصدمة، ومع أنني تجنّبت الصدمة، وبها استبدلت التحليلات المفصّلة إلا أن كثيرا من هواة البحث يتجنّبون مشقّة الخوض في التفصيلات التحليلية، ويتعلّقون بالمقدّمات الوجيزة؛ كأنّ ذلك فرض كفاية عليهم.

لم تطرأ فكرة الاستبدال التي أشرت إليها بين ليلة وضحاها، فقد قلّبتها عقدا من الزمان، وكتبت حولها، وأقمت ندوة كبيرة عنها، وشاركت في أخريات حول الموضوع، غير أنّ الحافز الأهم وراء ذلك هو البحث في السرد العربي ضمن خطّة عامة وضعتها لـ”موسوعة السرد العربي” واستغرق تنفيذها أكثر من ربع قرن، واقتضت تلك الخطة الوقوف على ظواهر كثيرة لها صلة بالسرد، منها: الدين والهوية والمنفى والمرأة والارتحال والتاريخ، وللموضوع الأخير خصّصت جزءا كاملا في الموسوعة، ظهر أولا بكتاب مفرد عنوانه “التخيّل التاريخي”، وفيه قاربت الصلة بين السرد وسيلة والتاريخ مادة، وتبيّن لي تعذّر الفصل بين المادة السردية والمادة التاريخية، فالتكوين الجديد ظهر بهوية مغايرة للاثنين، فهو متّصل بهما ومنفصل عنهما في الوقت نفسه.

انصبّ جهدي على هذا التكوين السردي الجديد، فهو المادّة التاريخيّة المتشكّلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقيّة والوصفيّة، وأصبحت تؤدّي وظيفة جماليّة ورمزيّة؛ فالتخيّل التاريخيّ لا يحيل على حقائق الماضي ولا يقرّرها ولا يروّج لها، إنّما يستوحيها بوصفها ركائز مفسّرة لأحداثه ومؤوّلة لها، وهو من نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المُعزّز بالخيال الذاتي، والتاريخ المُدعّم بالوقائع الموضوعية، لكنّه تركيب ثالث مختلف عنهما. وباختصار فقد رأيت أن “التخيّل التاريخيّ” يتنزّل في منطقة التخوم الفاصلة/الواصلة بين التاريخيّ والخياليّ، فينشأ في منطقة ذابت مكوّناتها بعضها في بعض، وكوّنت تشكيلا جديدا متنوّع العناصر أمسى من غير المفيد البحث في أصوله وفصوله.

يُعزى التخيّل التاريخي في الكتابة الروائية إلى الحبك السردي، فعملية الحبك تتولّى التوفيق بين الأحداث المرجعية وسياقاتها السردية، فتقوم بالتوسّط بين طرفين متنازعين، هما: الانسجام من طرف، والتنافر من طرف آخر؛ ذلك أنّ أرسطو افترض وجود مبدأ تناسق عامّ يحكم الطبيعة ويقوم بتنظيم مكوّناتها، ولكنّ تقلّبات الدهر ومسارات التاريخ وارتداداته المؤقّتة تدفع بأوضاع متناقضة، كما توصّل بول ريكور إلى ذلك، فتظهر الحبكة للتوسّط بين الحالتين اللتين يمكن وصفهما بـ”التوافق المتنافر”، وينتهي الأمر بنسيج من المتغايرات إذ تؤدّي الحبكة دور الوساطة السرديّة بين تعدّد الأحداث والوحدات الزمنيّة للقصص، وبين المكوّنات المتباينة لسير الأحداث وتسلسل القصّة وترابطها، وأخيرًا بين التتابع ووحدة الصيغة الزمنيّة.

ثم قادني البحث إلى بيان أسباب ظهور “التخيّل التاريخي” بعد أكثر من قرن على شيوع “الرواية التاريخية” فرجّح لديّ أن ازدهاره نتج عن أزمات مجتمعية معقّدة لها صلة بالهُويّة والرغبة في التأصيل والشرود نحو الماضي باعتباره مكافئا سرديّا لحاضر كثيف تتضارب فيه وجهات النظر وتتعارض، فوصول الأمم إلى مفترق طرق في مصائرها يدفع بسؤال الهُويّة التاريخيّة-السرديّة إلى مقدّمة الاهتمام، ويصبح الاتّكاء على الماضي ذريعة لإنتاج هُويّة تقول بالصفاء الكامل، والمسار المتفرّد بين الأمم والجماعات التاريخيّة. إنّ وجود الماضي في قلب الحاضر يكون مهمّا بمقدار تحوّله إلى عِبرة للتأمّل وتجربة داعمة للمعرفة.

وفي سياق كل ذلك لم تغب عنّي السمة التخيّلية للرواية التاريخية، فلا بها يراد أداء وظيفة التاريخ بمعناه التوثيقي الدقيق، كما قال جورجي زيدان، إنّما حمل المادّة التاريخيّة على سياق يجتذب اهتمام القرّاء، فقد اعتبر زيدان نشر التاريخ بهذا الأسلوب أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته ومعرفته والاستزادة منه فقال “العمدة في روايتنا على التاريخ، وإنما نأتي بحوادث الرواية تشويقا للمطالعين، فتبقى الحوادث التاريخيّة على حالها، ندمج فيها قصّة غراميّة، تشوّق المطالع إلى استتمام قراءتها، فيصحّ الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ، مثل الاعتماد على أيّ كتاب من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان والأشخاص، إلاّ ما تقتضيه القصّة من التوسّع في الوصف ممّا لا تأثير له في الحقيقة”.

سبقني كثيرون إلى القول بأن الرواية التاريخية عند زيدان إطار ناظم لمادة مستعارة من المدوّنات التاريخية والإخبارية القديمة، فلا عجب أن ظهر انقسام واضح بين إطار سردي شبه متخيّل ومتن تاريخي موثّق، فروايات زيدان عبارة عن مزاوجة سردية بين القسمين تقوم على مبدأ التناوب بهدف تعليمي يجتذب القرّاء إلى الاهتمام بالماضي والتعرّف عليه، فقوام تلك الروايات تلفيق لثنائية متناقضة لا يستقيم أمرها بكتابة سردية منسجمة في هويتها النوعية كما انتهى إليه الحال بالتخيّل التاريخي، وكلما مضى زيدان بذلك الضرب من الكتابة التعليمية اتسع الفتق بين السرد وسيلة والمادة التاريخية غاية، فلا يمكن رتقه، إلى أن انتبه إلى ذلك، في وقت متأخر، فعدّل في الأمر حينما قال “لا نريد بالرواية التاريخيّة أن تكون حجّة ثقة يرجع إليها في تحقيق الحوادث وتمحيص الحقائق، ولكنّنا نريد أن تمثّل التاريخ تمثيلا إجماليّا بما يتخلّله من أحوال الهيئة الاجتماعيّة على أسلوب لا يستطيعه التاريخ المجرّد إذا صبر الناس على مطالعته.. فإذا جرّدت روايتنا من عبارات الحبّ ونحوه، كانت تاريخا مدقّقا يصحّ الاعتماد عليه والوثوق به والرجوع إليه، وإن كنّا لا نطلب الثقة بها إلى هذا الحدّ، وإنما نعرف لها مزيّة هي تشويق العامّة لمطالعة التواريخ باطّلاعهم على بعضها على سبيل الفكاهة، ذلك أنّه بالروايات التاريخيّة نهيّئ الناس لمطالعة التواريخ، وإن يكن في تأليف الرواية من المشقّة أضعاف ما في تأليف التاريخ، مع ظهور فضل مؤلّف التاريخ أكثر من ظهور فضل مؤلّف الرواية، ولكنّ غرضنا الفائدة العامّة، وأقرب الطرق إليها من حيث التاريخ الطريقة القصصيّة التي نحن سائرون فيها. زد على ذلك أن لهذه الطريقة في نشر التاريخ مزيّة لا تتأتّى لنا في التواريخ المحضة، نعني بها تمثيل الوقائع التاريخيّة تمثيلا يشخّص تلك الوقائع تشخيصا يقرب من الحقيقة، تتأثّر منه النفس، فيبقى أثره في الحافظة، فضلا عمّا يتخلّل ذلك من بسط عادات الناس وأخلاقهم وآدابهم، ممّا لا يتأتّى بغير أسلوب الرواية إلاّ تكلّفا”.

واضح أن جورجي زيدان تنبّه إلى خطورة التلفيق في رواياته الأولى التي أظهرت الخطر الذي جرى ترسيخه في عدد وافر منها، فحاول تعديله إلى ما يصحّ القول بأنه من مقدّمات “التخيّل التاريخي” بقوله إن الرواية “تمثّل التاريخ تمثيلا إجماليّا بما يتخلّله من أحوال الهيئة الاجتماعيّة” لكنّه بقي متمسكا بالوظيفة التوثيقية للرواية بتأكيده أنها “تاريخ مدقّق يصحّ الاعتماد عليه والوثوق به والرجوع إليه”؛ فالغاية التعليمية عنده تقدّمت على الغاية السردية، فهو يقصد إلى “نشر التاريخ” بتشخيص “يقرب من الحقيقة” لكي “يبقى أثره في الحافظة”. تنتفي القيمة السردية لكتابة تضع “المنفعة” في مقدمة اهتماماتها، وتجعل المزايا الجمالية تابعة لها، وكأنها فضلة، أي “ما يستقيم الكلام بغيرها إذا حُذف” بحسب اصطلاح النُحاة. على أنّني لا أغمط حقّ زيدان، ولا أجحد دوره الريادي في الكتابة السردية الشاملة العابرة للنوع، فهو نتاج سياق ثقافي رأى في الأدب وسيلة للإصلاح والتعلّم.

يفرض مرور الزمن شرطه على ثقافات الأمم كافة، ويغيّر من تصوراتها، ومن وسائلها في التعبير عن نفسها، وعليه فلم يبق بالإمكان قبول التصوّرات البدئية لوظيفة “الرواية التاريخيّة” وهي حمل تاريخ السَلف إلى الخَلف، كما أشار زيدان إلى ذلك، فقد استنفد المفهوم طاقته الوصفيّة بعد أن جرى تحول في طبيعة الكتابة من ناحية البنية والدلالة والأسلوب، فاستحدثت لها وظائف اعتبارية وجمالية جديدة غير الوظائف التوثيقية والتعليمية القديمة، وتبعا لذلك، ومجاراة لتطور وظيفة النقد ونظرية الأدب، سوف تتراجع قيمة التصوّرات التي عاصرت ظهور الرواية التاريخية في الأدب العربيّ الحديث خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فقد أصبحت غير قادرة على الوفاء بموضوعها الذي شهد تحولا كاملا في طبيعته ووظيفته، فمكانها تاريخ الأنواع السرديّة، ويلزم إعادة طرح المفهوم القديم بتحوّلاته الجديدة ضمن مصطلح “التخيّل التاريخيّ”، للتخلّص من العثرات التي لازمت ذلك النوع من الكتابة مدّة طويلة.

  • عن مجلة الجديد 1/1/ 2020

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم