د. محمد حمدان

رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ صدرت لأول مرة عام 1959 وذلك على شكل حلقات في جريدة الأهرام، وتأخر صدورها في كتاب حتى عام 1962 وقد قطع محفوظ وعداً بعدم نشرها في مصر.. ولهذا السبب فقد جاء نشرها في كتاب من خلال دار الآداب "اللبنانية". وقد كانت هذه الرواية هي أول رواية يكتبها محفوظ بعد ثورة 1952. صحيح أن الثلاثية نشرت بعد الثورة، إلا أنها كانت قد كتبت قبلها حيث أن محفوظ قبل هذه الرواية وبعد الثورة كان قد دخل في فترة من الصمت الأدبي، بل إنه اتجه نحو كتابة السيناريو قبل أن يعود إلينا بهذا العمل الروائي الذي بين يدينا اليوم.

تقسم الرواية إلى خمسة أجزاء تمتد على أكثر من خمسمائة وبضع وخمسين صفحة. وقد أثارت الكثير من الجدل منذ أن نشرت لأول مرة. وهي دون شك، تستحق منا هنا وقفة مطولة. ولكنني في مراجعتي هذه سأحرص على التعرّض إلى النص وتجاهل ما كتب عنها إلا في ما يزيد من إثراء هذه المراجعة ولكنني لن أجعل ما كتب عنها محوراً لهذه المراجعة في أي حال من الأحوال.

بدأت الرواية بافتتاحية حيث بيّن لنا الراوي أنه سرد لنا حكايات هذه الحارة، بناءً على اقتراح من أحد رفاق عرفة وهو صاحب الحكاية الأخيرة في الحارة.

الحكايات الخمس هي عن حارة الجبلاوي، صاحب الوقف.. والذي استفاد من قوته، وعلاقته بالوالي بأن عمّر الخلاء، وقيل بأن كان فتوة، ولكنه لم يأخذ إتاوة من أحد، وكان رحيماً بالضعفاء. ولربما يكون من السهل للقارئ الكريم أن يستنتج بأن الجبلاوي ليس إلا رمزاً للإله. وله في ذلك من دلائل كثيرة؛ إنه صاحب الوقف، وجد الحارة التي تعرف به. وقد تؤخذ فكرة الجد من الثقافة المسيحية التي تعدّ الإله أباً للبشرية كما يكون المسيح ابناً له سواء كان ذلك من باب المجاز أم الحقيقة. وليس ذلك وحسب، بل إن حكايا الجبلاوي مع أدهم وإدريس وتشابهها لما حدث في الحكاية المعروفة لآدم وإبليس وحديثه المباشر مع جبل، والذي يذكرنا بحديث الله عزّ وجلّ مع موسى، وصوته الذي سمعه رفاعة، يذكرنا بدور مع سماع سيدنا عيسى لصوت الوحي الإلهي. وأخيراً، لقاء خادم الجبلاوي بقاسم وتكليفه بإرادة الجبلاوي تشبه عملية تكليف الله للنبي عليه أفضل الصلاة والسلام بالرسالة من خلال الملك جبريل، إلخ.. فالقارئ الكريم، قادر حتماً على الاستدلال بالمزيد من الأدلة في النص على أن الجبلاوي ليس إلا رمزاً للذات الإلهية. ولكن، هل هذا هو الأمر فقط؟ لا، كان هناك الكثير من الظلم. فالظلم كان الدافع الأول لكل شيء في الرواية.

كان هناك، الناظر، والفتوات الذي يقدمون دور الحماية للناظر على الوقف في مقابل نصيب معين يقدمه لهم الناظر من الوقف.. وهو يحتفظ لنفسه بنصيب الأسد بالطبع. وهذا بدوره، يرمز إلى كل نظام حكم ظالم. وما يثير الاهتمام هنا، هو أن الحكايات الثلاث: جبل، رفاعة وقاسم.. هي أشبه ما تكون بالثورات على هذا الحكم الظالم.. فقد كانت الثورة الأولى "الملهمة" هي ثورة جبل. ولربما من المثير بأن نجد خاتمة حكاية جبل بـ: "ولولا أن آفة حارتنا النسيان ما انتكس بها مثال طيب. لكن آفة حارتنا النسيان". . وقد تكررت الثورة مرة أخرى، بعد أحداث مشابهة من قبل علي الذي لنقل بأنه كان الوريث الشرعي لرسالة رفاعة الذي قتله الفتوات غدراً ثم جاء الجبلاوي وأخذ جثته ليدفنها في حديقته. ونجد أن خاتمة حكاية رفاعة جاءت كالتالي: "وعلى أي حال استبشر الناس خيراً، واستقبلوا الحياة بوجوه مشرقة، وقالوا بثقة واطمئنان أن اليوم خير من الأمس، وإن الغد خير من اليوم. فلماذا كانت آفة حارتنا النسيان؟!". ويتكرر الأمر ذاته مع خاتمة حكاية قاسم لنجد:

"ومهما يكن من أمر فإن حارتنا لم تشعر قبله بالسيادة حقاً، وبأن أمرها قد آل إلى نفسها دون ناظر يستغل أو فتوة يستذل؛ ولا عرفت قبله ما عرفت أيامه من الإخاء والمودة والسلام.
وقال كثيرون أنه إذا كانت آفة حارتنا النسيان فقد آن لها أن تبرأ من هذه الآفة، وأنها ستبرأ منها إلى الأبد. هكذا قالوا.. هكذا قالوا يا حارتنا. !"


لم تنتهِ حكايتا أدهم وعرفة بهذه العبارة. فالأولى قد انتهت بالإشارة السريعة لموت أبطالها: أدهم، أميمة وإدريس. وعودة قدري وهند ومعهما أطفال. والتأكيد على أن الحارة قد نشأت من نسل هؤلاء جميعاً. وفي هذا إشارة ذكية للغاية، بأن الحارة هي من نسل أولاد آدم، والأهم أن قسماً منهم هم من نسل قدري ابن آدم وقاتل أخيه، من هند ابنة إدريس. ويمكننا مجازاً القول بأنهم ذرية قتلة وشياطين.. فلا عجب أن نجد في أولاد حارتنا سلالة من الطغاة والفتوات إذن، أليس كذلك؟
أما حكاية عرفة فانتهت: لكن الناس تحملوا البغي في جلد، ولاذوا بالصبر. واستمسكوا بالأمل، وكانوا كلما أضر بهم العسف قالوا:

"لا بد للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرينّ في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب".

حسناً، ما هي الغاية هنا من ذكر آفة النسيان في الحكايات الثلاث دون حكاية أدهم وعرفة؟ إنه تأكيد على ما أشرت إليه سابقاً: أنها حكايات ثورات ضد حكم ظالم. وتكرارها دليل على نسيان الناس لكيفية تكوينها منذ البداية.. مما سمح لتكرارها مرة تلو الأخرى.. اللهم أنها تختلف بالهيئة التي ظهرت عليها من حكاية لأخرى. . فجبل، جاء بالحق من خلال القوة. فقد أخذ عن جده الجبلاوي القوة التي طبق بها العدل في زمانه. فاليد التي قضت على الفتوات، هي ذاتها التي كبلت عبس كي يأخذ كعبلها عينه مقابل عينه! بينما اختلف رفاعة عنه في ذلك، بأن أخذ عن جده الجبلاوي الرحمة، وكان يرى -مخطئاً- بأن الحق لا يؤخذ بالقوة فقط، بل بالرحمة أيضاً.. وكان هذا خطأه الفادح الذي أدى بمقتله بعد خيانة زوجته له. ولكن علي، الذي حمل رسالة رفاعة من بعده وفهمها بشكل مختلف عن رفاقه الآخرين، قتل زوجته الخائنة ثأراً لمقتل رفاعة، ومن ثم قتل كل الفتوات كل على حدا، ليثور بعدها على الناظر ويأخذ حق حيه من الوقف. لتمثل حكاية رفاعة الرحمة التي أشعلت نار ثورة تمكنت من إنهاء الظلم. ثم تأتي بعدها حكاية قاسم التي تجمع ما بين القوة والرحمة.. فهي قوة جبل التي جاءت لتعطي الناس رحمة رفاعة.

كانت مشكلة أدهم الكبرى في طرده من بيت أبيه، والمكيدة التي كادها له أخوه إدريس. فلم يكن يحلم بإزالة ظلم كما شاهدنا في الحكايات التالية. إنما كان يحلم بالعودة إلى بيت أبيه. ولهذا، لم يكن شيء ليتم نسيانه. أما عرفة، فهو يمثل ثورة من وجه آخر، حملها من بعده حنش الذي لم نعرف أبداً إن كان قد وجد دفتر السحر الخاص بعرفة أم لا. ولكنه أصبح نواة لثورة وشيكة تجتذب الشباب من الحارة للانضمام إليه قبل أن يصبحوا أقوياء بما فيه الكفاية كي ينقضوا على الطغيان كما فعل جبل وعلي وقاسم من قبل! ولكن الحارة هذه المرة، لم تنسَ، ليس لأنها غير قابلة للنسيان.. إنما لأن ثورة عرفة لم تتحقق بعد. على العكس تماماً، فقد كان عرفة عوناً للنظام الحاكم الظالم على أي حال، رغم نيته بأن يحاربها! من خلال فضول عرفة أو لنقل طمعه بأن يتحصل على دفتر أسرار قوة الجبلاوي التي جعلته يعمّر طويلاً إلى هذا الحد ليصل إلى الجيل الخامس من أولاده. نعم، الخامس. فأدهم هو الابن المباشر للجبلاوي، ولو فرضنا أن كل حكاية جاءت مباشرة في الجيل التالي، رغم أن ذلك لا يصح، فكل حكاية كان لا بد من أن يأتي هامش من الزمن على أهل الحارة لتعود الأمور فيها إلى ما كانت عليه قبل الحكاية الأخيرة. وهذا يعني أجيالاً أكثر بكثير من خمسة.. ولكنني سأكتفي بالفرض بأنهم خمسة أجيال وهذا يعني أن جبل هو ابن مباشر لأدهم، رغم أن هذا غير صحيح. ورفاعة هو ابن مباشرة لجبل، وهذا أيضاً غير صحيح، وقاسم ابن لرفاعة، وهذا أيضاً غير صحيح، وعرفة ابن لقاسم، وهذا بالطبع، غير صحيح. فتخيل معي، أنك تعيش، وترى جدك الخامس حياً؟ هذا أمر يفوق قدرات أي بشري. وما شرحته أعلاه بكل تأكيد يفند تماماً اي فرضية تتحدث بأنه قد يصل إلى عمر 120 عاماً مثلاً.. لأن جدي لأبي مثلاً عمّر عمراً مشابهاً.. وهو جدي لأبي مباشرة.. وليس جدي الخامس حتماً.. ناهيك عن الفواصل الزمنية اللازمة بين الأجيال كي تتمكن الحارة من الرجوع إلى حالات الظلم وينسى الناس ما كان معها. نحن إذن، نتحدث عن ما لا يقل على مائتي عام! ولا أظن أن هذا أمر معتاد في الحارات البشرية إلا تلك التراثية منها أي تلك التي نقرأها في كتب السيرة عن حياة الأنبياء. كحياة نوح الذي دعا قومه 900 عام تقريباً مثلاً. لنعد إلى عرفة، الذي كان من الطبيعي أن يثير هذا التعمير لجده الأكبر فضوله ويجعله على قناعة بأنه قد يكون ساحراً مثله، فيقدم على التسلل إلى بيته، وهناك، يجده أحدهم، فيقوم عرفة وبرغبة جامحة في الدفاع عن النفس ربما بخنق هذا الشخص وقتله، ومن ثم يفرّ هارباً. يتضح لنا فيما بعد أن عرفة قتل أحد خدم الجبلاوي، وأن الجبلاوي مات حزناً على خادمه المغدور. أي أن عرفة قد تسبب في مقتل جده بشكل غير مباشر. إذن، عرفة لم يقتل الجبلاوي، وما قد يثير القارئ، بأن يجد أن الجبلاوي قد كلّف خادمته في أن يبلغ عرفة بأنه مات وهو عنه راضٍ! متى وصله هذا الكلام؟ وهو منغمس أشد الانغماس في الحياة مكرساً سحره لفائدة الناظر، وبالتالي، يخدم الطغيان في ظلم الناس. ولربما كان هذا دافعاً له ليهرب من هذه الحياة.. ويعيد تجديد رغبته في الثورة. ولكن ذلك لم يحدث كما قرأنا. بل كان أن تم القبض عليه مع زوجته ودفنا حيين. ولكن الأمر لم ينتهِ بموتهما، فلربما يكون موتهما هو التضحية اللازمة لإشعال ثورة حنش، كما كان الأمر في موت رفاعة مع ثورة علي.

تماثل هذه الرواية رواية نجيب الأخرى "ثرثرة فوق النيل" من ناحية أنها وجودية، حيث تكون هنا الحارة تمثل العالم، كما كانت هناك العوامة تمثل المجتمع. وحيث أن الرواية عموماً قد تبدأ من حكاية حقيقية ولكنها لا تنتهي إليها جاءت إلينا هذه الرواية بهذه الطريقة. فقد استلهمت بعض حكايا الأنبياء، ولكنها لم تحاكيها بمعنى الكلمة. إنما حاولت أن تضرب لنا بعض الأمثلة كما أشرنا أعلاه بخصوص الثورات الثلاث. ولا ننسى أمراً في غاية الأهمية هنا، الكيفية الموصوفة في الرواية عن عودة الظلم في النظام الحاكم، رغم المثل الطيبة التي تحدث من أجلها الثورة.. تشبه ما حدث في زمن نشر الرواية في مصر. وقد ذهب كثيرون من النقاد إلى القول بأن محفوظ كان يريد أن ينتقد نظام ناصر في الرواية.. وهذا ما دفع صلاح نصر بأن يحقق معه شخصياً في الرواية. وقد أشار محفوظ ذاته بأنه كان يتوقع بأن تثير هذه الرواية جدلاً سياسياً أكثر منه دينياً. وهذا بدوره يؤكد على إشاراته التي تشير إلى نظام مصر الظالم في رأيه بعودته للظلم بعد ثورة 1952. صحيح أن هذه الإشارات جاءت خجولة في الرواية، على عكس الإشارات الدينية الكثيرة. ولكن، دعونا ننظر إلى الرواية وكأن كاتبها غير مسلم. كيف كانت ستكون في أعيننا؟ الرواية لم تقدم الأنبياء بصورة إنسانية سيئة. على العكس، طوال امتداد الرواية.. كان ذكر أدهم، جبل، رفاعة، وقاسم حميداً.. إنما كان يذمهم الفتوات. وهذا طبيعي، فماذا تتوقع من كتاب يحكي حكاية أبي جهل مثلاً ؟ من البديهي أن يذكر أنه كان يذكر النبي عليه أفضل الصلاة والسلام بالسوء. هذا لو كان كتاباً، فماذا لو كان الأمر كقصة كليلة ودمنة مثلاً؟ " للمناسبة، هذا المثال كان قد استخدمه محفوظ ذاته في دفاعه عن الرواية" هذا ما يتطلبه فن القصة، أن يبحث الثعلب وهو وزير الأسد في القمامة مثلاً.. أيفترض بالوزير في الواقع أن يغضب إذن؟ إن الثعلب يفعل ما تفعله الثعالب في حياتها.. وأبطال حكاية أولاد حارتنا، كانوا يفعلون ما يفعله سكان أي حارة. صحيح، أن شرب الخمر والحشيش والكلام عن رفاعة بأنه لا يملك رغبة في النساء، فيمكننا النظر إلى كل هذا على أنه توظيف لشخوص الرواية يما يخدم النص. فلم تأتِ المسيحية ولا الإسلام على ذكر شيء لكون المسيح قد تزوج مثلاً.. ولكن رفاعة قد تزوج من ياسمين والتي كانت قد زنت مع بيومي فتوة الحارة.. وبقيت على علاقة معه حتى بعد زواجها من رفاعة. ونحن نعرف من خلال السرد بأن رفاعة لم يلمس ياسمين خلال زواجه منها.. ولربما هذا ما دفعها لعدم قطع علاقتها مع بيومي.

فيما قرأته عن دفاع محفوظ عن روايته هذه، أن الجبلاوي، ليس رمزاً للإله، بل هو رمز للدين. وقد وافقه بعض النقاد في ذلك، خاصة في حكاية عرفة. ولكن غيرهم رأى، فيما رآه.. أنه إشارة لموت الإله الذي بشّر فيه نيتشه. وقد حدث بأن تحدثّت لجنة جائزة نوبل عن هذه الرواية بالإشارة إلى أنها تحمل فكرة موت الجبلاوي أو موت الإله. ولربما قد أكتفي فيما أشرت إليه من أسباب في هذه المراجعة، والتي تبين اتفاقي أنه لا يمكن للجبلاوي أن يكون رمزاً لشيء آخر عدا الإله. إلا أن هناك شيئاً واحداً يقف عائقاً أمام هذا التفسير؛ إنه الوالي الذي استفاد الجبلاوي من علاقته فيه كي يستملك أرض الخلاء، وهي الأرض التي بنيت عليها الحارة. ولربما نستطيع أن نعزو ذلك للحبكة القصصية كما هو الحال مع سلوك أبطال أولاد حارتنا كما أشرنا سابقاً. وبالتالي، نرجع مرة أخرى إلى رمز الإله.

والآن، إلى النقطة الأبرز، هل أتت عملية موت الجبلاوي بخير ما ؟ لقد سبق أن رأينا فيما أشرت إليه أعلاه؛ أنه لا، لم يأتِ ذلك على الحارة بخير. بل إن عرفة قد تحول من ثائر، إلى خادم آخر للطغيان. وهذا ما قد يجعلنا نقول بأن موت الإله الذي تحدث عنه نيتشه لم يأتِ على البشرية بخير كذلك. فلم يحقق العلم أو المعرفة مجتمعاً عادلاً ولم يتخلص من الظلم.. بل إن الحاكم الظالم قد وظف العلم أو المعرفة في خدمته على ظلم الناس. إن قوة سحر عرفة، دون توجيه الجبلاوي، كانت قوة عمياء، خدمت الظلم بدلاً من خدمة أولاد حارته. ولم يفق عرفة من سكرته، إلا بعد معرفته بأن الجبلاوي مات عنه راضياً. حينها فقط، تحرك إلى ما كانت عليه نيته في السابق من رغبة في الثورة على الظلم.. ودفع حياته وحياة زوجته ثمناً لذلك. وانتهت الرواية بينما يقود حنش جيلاً جديداً من الثوار الشباب تحضيراً لثورتهم القادمة.

لربما كانت لديّ إشارة أخيرة عن محتوى الرواية قبل أن أنتقل إلى ما قيل عنها؛ هل كانت شخصية الجبلاوي، شخصية جذابة؟ في واقع الحال، لا. لا يمكنني القول أنني أحببت الجبلاوي. فسلوكه "غير بشري" ولطالما أزعجني سلوك بعض الناس الذين يلبسون عباءة الإله فيتصرفون مثله. ولك أن تتخيل مثلاً لو أنك كنت محلّ الخضر كما كان مع موسى. هل كنت ستتفهم سلوكه؟ بالطبع لا، فموسى نفسه لم يتمكن من تفهم ذلك. فكيف نحن مع شخص نحن نعلم يقيناً أنه ليس نبياً كالخضر؟ ولي حوادث شخصية مع الكثيرين من هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم آلهة علينا عن قصد، أو من دون قصد. وهنا يتوجب التفريق بين الإله والبشر.. فالإله حتماً كلي القدرة، ونستطيع أن نتفهم أحكامه من منطلق معرفته المطلقة.. بينما لا يمكننا أبداً أن نتفهم الحسم والأحكام المتعسفة للبشر مع سابق معرفتنا بمحدودية معرفتهم مهما بلغوا من حكمة. وفي هذه النقطة على وجه التحديد، نستطيع أن نتفهم ردة الفعل الدينية العنيفة اتجاه هذه الرواية. ولكنني في ذات الوقت، تعاملت معها وكأن الكاتب غير مسلم، وهو بالتالي، غير ملزم بأحكامي الخاصة بنظرتي للإله ومدى إمكانية توظيفه كشخصية في رواية. وبالتالي، تمكنت من تفهم مثل هذا التوظيف حتى وإن كان توظيفاً حقيقياً كما هو الحال في الأدب الغربي مثلاً. أما مع هذه الرواية على وجه التحديد، فلم يكن التوظيف حقيقياً تماماً.. وإن كانت الإشارات عليه قوية كما أسلفت.

عجبت أيما عجب، ممن حاول تشبيه هذه الرواية برواية آيات شيطانية لسلمان رشدي. فقد قرأت تلك، وها قد قرأت هذه، وشتان بين تلك وهذه. فكما أسلفت، لم يأتِ الكاتب هنا على إساءة صريحة أو مقصودة سواء للأنبياء أو الأديان أو الإله.. بينما تلك كلها إساءات، ناهيك أنها لم تحمل ما حملته هذه من رسالة. فهنا، نستطيع أن نرى الثورات تتوالى على الظلم بتوجيه من الجبلاوي على يد أولاده من الحارة. وهذا التوجيه، حمل شكل الرضا على رغبة عرفة المتوارية والتي أيقظتها بالفعل فعاد للهروب كي يبدأ من جديد ما حاول أن يبدأه. بينما لا نستطيع أن نستخلص أي شيء إيجابي من آيات سلمان الشيطانية.. أستطيع أن أتفهم الجانب الفني من الأدب. ولكنني لم أتمكن من استخلاص فن ما من الآيات الشيطانية كما فعلت هنا. يستطيع قارئ ما القول بأن هذه الرواية هي محاولة لعلمنة قصص الأنبياء.. ولكنني سبق أن أشرت إلى أنني لم أستطع رؤية ذلك. صحيح أن الرواية بدأت منها ربما.. ولكنها لم تنتهِ إليها.. لقد استوحى محفوظ فكرته الأصلية منها في التعبير عن عودة الظلم بعد كل ثورة.. في ذات شكله القديم تقريباً. وقد نجح في التعبير عن ذلك إلى حد بعيد.

والآن، هل هي رواية عبقرية كما يحاول البعض أن يصورها؟ شخصياً، لا أعتقد ذلك. وفي واقع الحال، أرى بأنها نجحت في التعبير عن عودة الظلم بعد الثورة إلى ما كان عليه وأكثر.. وأنه لربما خلف كل قيصر يموت، قيصر جديد. وقد ختمت ببصيص من الأمل، بأن الناس قد يصلون إلى درجة من الوعي تكفي بألا ينسوا ما كان، وأن يحضروا لثورة جديدة، لا تبقي بعدها قيصراً أبداً. أما العيوب، فلربما لم يكن عامل التشويق مثيراً ها هنا. فلربما من الصعب أن تثير القارئ بقراءة حكاية يعرف معظمها بالفعل. وهذا رهان من الكاتب بالطبع. كما فعل ماركيز في رواية "قصة موت معلن" وبينما نجح ماركيز هناك، أجد بأن محفوظ هنا لم يكن موفقاً.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم