د. بوزيد الغلى

تعد رواية "غربة بلون الرمل" الصادرة عن دار روافد للنشر والتوزيع  مطلع 2020 من الروايات ذات النفس الطويل والحدث المتشابك والفضاء الممتد، فهي تقع في 433 صفحة من القطع المتوسط، وتحتاج عتباتها ونصوصها الموازية بما فيها العنوان المركب تركيبا دلاليا موحيا بامتزاج الاغتراب بلون الرمل المحيل على الصحراء التي لا تظهر بسفور في لوحة الغلاف التي تتقاطع فيها تشكيليا وتتشاكل دلاليا ألوان بياض الثلج والصقيع بالكبيك ولون الرمال الصحراوية الدالة على أمكنة الصحراء التي تمتد فيها الأحداث من كلميم إلى طرفاية بالمغرب...

ورغم وجود مؤشرات كثيرة تساعد المتلقي على تأطير الرواية زمنيا، بافتراض جريان أحداثها زمن السبعينات وبداية الثمانينات، فإن تداخل الأزمنة وعلاقتها بالأحداث التي تدور في أمكنة مختلفة تمتد طولا من المغرب الصحراوي إلى مونتريال، وتغوص عمقا إلى أمكنة مغلقة من قبيل الكنائس والمساجد ومدرجات الجامعة ومخافر التحقيق والمستشفى والمقبرة...، يجعل الكلام عن الفضاء وعلاقة الشخصيات به أو الكرونوطوب بتعبير باختين أمراً سائغا، فلا تنفك بنية الزمن في الرواية عن بنية الحدث ودور الشخصيات في بنائه. وينبغي أن نثير في هذا الصدد سؤالا ملحا عن طبيعة الرواية التي تطرح بحدة مسالة الهجرة والهجرة المضادة من الغرب وإليه، وتعمل على تسريد العديد من مظاهر معاناة المغتربين في ضفتي الأطلسي (المغرب-كندا/الكبيك) فضلا عن كشف التمثلات واستشراف إمكان الاندماج بما يجعل ثقافة الذات/الأنا تتفاعل إيجابيا مع ثقافة الآخر (بيير الوادنوني نموذجا).

غربة بلون الرمل: رواية حدث أم رواية شخصية؟

يمكن التأكيد على اعتماد السارد أو الراوي العليم بكل شيء على لعبٍ سردي يجعل من الصعب التوصل إلى طبيعة الرواية دون إكمال قراءتها من بدايتها إلى نهايتها، إذ يوهمنا مفتتح الرواية أنها تدور حول حدث الثورة الهادئة وأثرها على المجتمع الكبيكي عامة وعلى المغتربين خاصة، في ظل انحسار نفوذ الكنيسة، وبروز مجتمع مدني فاعل يشتغل بكد ودأب على تسهيل إدماج المهاجرين الآتين من شتى قارات العالم...،حيث يظهر بيير شخصية رئيسة ساهمت في تحديث خدمات منظمة تعنى بالأنشطة الإدماجية، غير أن حدث الثورة الهادئة وإفرازاتها على المستوى السياسي والمجتمعي بالكبيك، انحسر لحظة بزوغ شخصية "بيير الوادنوني" (نسبة إلى وادنون جنوب المغرب)، إذ سيهيمن على البناء الدرامي للأحداث بما سينتجه من علاقات مع الشخصيات الأخرى الرئيسة منها والثانوية، المسطحة منها والدائرية أو النامية، وذلك بعد انتقاله من مونتريال إلى وادنون في ظروف سيشكف عنها النص بعد تقدم السرد، وظهور خلفيات الشخصية التي صنعت "الحدث" بوادنون منذ دخلت فضاء مفرش محيجيبة الدلالة بالسوق القديم إلى غاية انكشاف سر مجيئه إلى المنطقة، ليس من أجل السياحة والترفيه والاكتشاف، بل من أجل العمل كمهندس زراعي يربطه بوزارة الفلاحة ومصلحتها الخارجية بكلميم (مديرية الفلاحة) عقد عمل يلتزم بموجبه بيير بوضع خبرته العلمية والميدانية في خدمة المنطقة الرازحة تحت ضغط التصحر وزحف الجراد والجفاف.

لقد سهلت قدرة بيير على الاندماج في المجتمعات الأخرى التي زارها بمختلف القارات  بناء علاقات مع شخصيات عديدة نامية ظلت حاضرة في السرد من أوله إلى منتهاه منها محيجيبة الدلاّلة (تاجرة الحلي)، لحسن مول التوريست، بوشعيب المدير...تلك العلاقات المتشعبة التي نسجها بيير مع مختلف الشخصيات الأخرى بوادنون،مونتريال، الدار البيضاء أثمرت أحداثا تتدرج من  حيث التعقيد كي تفتح أفق الانتظار على عدة احتمالات، لعل أكثرها مأساوية السجن وفقدان العمل الذي حاق به  إثر إلقائه محاضرة تخللها نفس ثوري سمح للراوي بنعته ب"حادثة تشي". لا تسمح مآلات الأحداث ولحظات تلاشي السرد بإسباغ صفة "البطل المأساوي" على بيير الذي يعكس تشظي الهوية، والانتقال السلس من قناعة سياسية ودينية إلى أخرى (كان قسا كنسيا، ثم أصبح مناضلا ثوريا، ثم مناضلا مدنيا مؤمنا بالاندماج الممكن بين الثقافات بما يجسر الهوة بين الأنا والآخر..)، بحيث يغدو الدين قناعة شخصية لا تقدم ولا تؤخر في بناء العلاقات بين بيير النصراني وأصدقائه من المسلمين الذين حضر معهم كل حفلات أفراحهم (العرس بوادي نون) وأتراحهم ( العزاء بالدار البيضاء / وفاة عزيز).

ولعل مما يعزز انتماء الرواية إلى صنف رواية الشخصية، أن نهايتها السعيدة توجت بنجاح بيير في إنفاذ وعده للحسن مول التوريست وزوجته زينة بتأمين هجرتهما إلى المقاطعة الجميلة "الكبيك"، فضلا عن وفائه بوعده للطبيبة بشرى زوجة صديقه السابق عزيز بالدخول معها شريكا في مشروع استثماري بالدار البيضاء، كي ينقذها من وطأة الغربة التي علمتها وإياه درسا مشتركا: "الغربة سيدتي تعلم الحكمة، لابد أن ندفع الثمن لنجرب، لا يمكن أن نجرب لنقبل أو لا نقبل دون ثمن، هذا على الأقل ما أشعر به الآن في غربتي في بلدة الرمال (..) الرمل علمني أن أظل صامدا (...) مهمتي أن أوقف زحف الرمال، حتى لا تزحف علي، وعلى الأرض، وعلى الناس).

تقنيات الرواية: من الاسترجاع والسرد المكتنز إلى التوتر السردي:

وظف الكاتب تقنيات السرد بكثافة، ولا يتسع المقام لإيراد أمثلة من المشهد scene والوقفة pause ، ولعل أبزر التقنيات التي أبقت أفق الانتظار مفتوحا على امتداد مساحات من الرواية هو الاستباق الذي سمح بكشف شراكة محتملة بين بيير وبشرى بما يحمل القارئ على افتراض أقرب الاحتمالات وهو زواجه بأرملة صديقه قبل أن يصاب المتلقي بالخيبة (خيبة الانتظار) لما يصرح بيير في الصفحة الأخيرة من الرواية، بأنه (إكس قس) وأنه لم يتزوج قط ولم يلمس أية أنثى قط.

وفضلا عن الاستباق الذي يتساوق مع توتر سردي سنكشف بعض جوانبه لاحقا، اعتمد الناص على تقنية الاسترجاع التي سمحت بهدم المسافة بين الأزمنة، ففي فترة وجوده بوادنون، يعرف بيير عبر تحاكيه مع أصدقائه شذرات من تاريخ وادنون زمن الفرنسيين، ويكشف السارد عما رسخ  بذاكرة المنطقة الجماعية من أخبار " موغا" الذي كان يوقع بخاتمه على صدور المرشحين للعمل بالمفاحم الفرنسية كما يوقع الجزار أو البيطري على العجول...

إن استرجاع قصة  موغا وعمله بوادي نون ضمن ما تتيحه تقنية "التضمين enchachement"، يجعل صورة موغا متقاطعة حد الافتراق مع صورة بيير الذي يرشح عائلة لحسن للهجرة لكن دون ممارسة صلف وقسوة "فيليكس موغا"، وهذه المسألة، تحفز على دراسة الرواية من زاوية صورة الآخر وتمثيله السردي في النص، إذ تتقاطع صورة موغا بوصفه الآخر المتعالي مع صورة "بيير" الآخر المندمج أو المستعد للاندماج في كنف ثقافة الغير (بيير الوادنوني) الذي يلوك كلمات بلغة عربية لا تبرحها رطانة العجمة.

ولا يقوم السرد في النص على تقنية "التناوب" السردي بين قصتين متضايفيتن (قصة بيير وقصة عزيز وزوجته)، وإنما وظف الكاتب ما يسميه النقاد الحكاية داخل الحكاية بحيث وشج بين الحكايتين بمهارة عندما جعل بيير ينتهز أزمته مع تحقيقات الأمن كي يلتقي في البيضاء مع بشرى على هامش حفل عزاء زوجها السابق، كي تبدأ خيوط قصة جديدة بؤرتها الأساسية الشراكة في الاستثمار تتشكل، وتتطور عندما نكتشف أن بيير باع حصاد عمره (البيت) من أجل المغامرة الاستثمارية رغم يقينه كما قال بأن رأس المال جبان...

بنية التوتر السردي في رواية "غربة بلون الرمل"

لا يسوغ الكلام عن التوتر السردي دون الإشارة إلى الحبكة بوصفها أحداثا محكومة بمنطق السببية لا مجرد أحداث تتابع في الزمن كما هو مفهوم الحكاية على حد تعبير فوستر الذي قدم هذا المثال : "مات الملك،ثم ماتت الملكة بعده، هذه حكاية، ومات الملك ثم ماتت الملكة بعده حزنا عليه، هذه حبكة".

الحبكنة في النص، تبدأ من وجود بيير في وادنون بسبب معلن هو عقد العمل، لكن مستويات الحبكنة تتواصل مع وضع الناصّ بيير ضمن دوامة أحداث ومواقف تبدأ من محاولة الدلاّلة استدراجه عبر الإيحاء وتجسيد طقوس العرس الصحراوي بالاستعانة بالدمية، ثم تزداد الحبكة تعقيدا بتوثق صلته في الدار البيضاء ببشرى أرملة صديقه، لتطفو على السطح احتمالات استدراجه للزواج من احجبوها إثر تعرفه العابر عليها ليلة زفاف دعته إليه الدلالة ولحسن مول التوريست، ليصل المتلقي إلى اكتشاف حل العقدة في نهاية الرواية عندما تتبدد كل الاحتمالات بإقرار بيير أنه قس يرغب دوما عن النساء.

وفي غمرة المسار السردي يبقى التوتر السردي قائما وملتهبا يخلع على الأحداث "الجانب الدينامي الدال على « قوة » ما درجنا على تسميته بالحبكة".

لقد  حدد باروني Baroni  للتوتر السردي ثلاثة وظائف ثيمية  تسهم في دينامية  النص ورفع إيقاعاته السردية: التشويق، الفضول، الدهشة.

يخترق التشويق كل فصول الرواية الخمس، إذ يترقب القارئ منذ البداية مآلات قصة فتنة بيير بالدلالة ومعروضات مفرشها المتنوعة، ليسقط في شرك "الفوكيد لحسن" الذي استطاع أن يوظف خبرته في التعامل مع السياح كي ينتزع في النهاية تعاطف بيير الذي أغراه كرمه الممتد من إهدائه  الفوقية (لباس محلي) إلى دعوته إلى  قصعة الكسكس، ويتحول التشويق إلى فضول يعتري القارئ الذي يترقب معرفة مصير بيير في مخفر الشرطة بالرباط/ ومصير صديقه مدير الفلاحة بعد حادثة تشي  بمعهد الزراعة والبيطرة بأيت ملول التي ردد خلالها بيير أناشيد وشعارات ثورية كادت أن تنهي وجوده بالمغرب، إذ كاد أن يتهم بالتحريض لولا تدخل السفير الكندي الذي يكشف حواره معه الهوة الكامنة بين شركاء الوطن الواحد (الانكلوفونيين والفرنكوفونيين)، ولا يسلم المتلقي من الدهشة حين يعرف أن قرار اللاعودة التي اتخذته بشرى وزوجها وأبناوهما قد  تم التخلي عنه لمصلحة العودة إلى الوطن الأم بعد وفاة الزوج إثر رجّات عرفتها العائلة التي تشرذمت بعد الطلاق، ليعيش عزيز المهندس المغربي الذي أضحى سائق سيارة أجرة بمنوتريال متسكعا بين البارات وبيت مكترى يتقاسم سومة كرائه مع خليلته كارسيلا...

يفتح النص إمكانات هائلة لدراسة قضايا الهجرة والاندماج من خلال منظار الأسلوبية، إذ أن الكاتب تعمد استخدام ما يوحي بإمكان "التمازج الثقافي" من خلال المزاوجة بين التعبيرات الأمازيغية والحسانية من جهة والفرنسية والانجليزية على الضفة الأخرى....

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم