زياد الأحمد

وصل الإنسان إلى درجة مبهرة من التقدم التكنولوجي مكنته من السيطرة على ما حوله إلى حدّ كبير، واستكشاف مساحاتٍ يعجز عنها الخيال عبر الفضاء المحيط به ومعرفة الكثير من أسراره، ولكنه بقي عاجزاً عن استكشاف الكثير من أسرار ذاته وأعماقه النفسية، وكوامن مشاعره ودوافعه، يجد نفسه عاجزاً في لحظة ما عن تفسير سعادة غامرة تطفح في أعماقه ذات صباح؛ أو كآبة مفاجئة تطفئ شمسه في صباح آخر، ناهيك عن أوجاعٍ لم يُكتشَف لها سبب، والأهم تلك المساحات الشاسعة من وجع الآخرين الذين لم يفطن لهم أحد حتى ممن يعيشون بجوارهم.

ومن تلك المساحات المظلمة من الوجع البشري هي تلك المسافة الممتدة بين قطبي ثنائية ضدية قامت عليها استمرارية الحياة وهي ثنائية الذكر والأنثى التي توازعت الجنس البشري بأكمله ونسي السؤال المهم: أليس من عالم آخر معلق بين طرفي هذه الثنائية؟ عالم يعيش وجع اللاانتماء أمام صرامة قانون هذه الثنائية؟

هذا العالم هو ما فطن إليه يونس الأخزمي، وأتخذ منه أرضية لروايته "بدون"، التي تتمحور حكايتها حول شخصية علا التي وجدت نفسها مرمية في المنطقة المحرّمة بين الذكورة والأنوثة، وعلى امتداد مئتين وخمسين صفحة، وعبر بحار من الآلام وجبال من العناد والإصرار تحاول استعادة حقيقتها:

  "بذرت العمر باحثاً عن حقيقتي لأكثر من ثلاثة عقود والتي لم تلبث أن أهدتني ظهرها وولت عني مدبرة غير آسفة. وها أنا أعود ثانية إلى غير حقيقتي" ص250.

"بدون" ليست رواية عن الشاذين جنسياً:

تناول الأدب العالمي والعربي في روايات كثيرة موضوع الشذوذ الجنسي والعلاقات المثليّة كرواية بئر العزلة لرادكيف هول، ورواية فندق بارون لعبدو خليل اللتين تناولتا الشذوذ عند النساء وميلهن إلى بنات جنسهن، ورواية عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني وسوق الرجال لأحمد حميدة في تناولهما ما يقابله من الشذوذ بين الذكور، أما رواية "بدون" فهي ليست من تلك الروايات، بل هي رواية البحث عن حقيقة الهوية الجنسيّة التي تفتقدها بطلة الرواية نتيجة خلل خَلقي منذ ولادتها،  فالهويّة التي وجدت نفسها عليها في الحياة هوية لا تنتمي إلى أحد قطبي الثنائية الجنسية (الذكر والأنثى) بل هي هوية ذات وجهين خارجي يحمل صفات الأنثى من جمال وجه وبروز صدر، وعرض حوض وحتى أعضاء جنسية مؤنثة، ووجه داخلي يغلي فيه شبق الذكورة نحو الأنثى، وبين هذين الوجهين كانت رحلة ضياع علا وعذاباتها.    

"تلك المشاعر المتعاركة تتناوب عليّ في بعض الأحيان أكثر من مرة في الليلة الواحدة، فتارة أتخيّلني فتاة مكتملة التكوين، جميلة وطبيعية بنهدين بارزين، «وردة في بستان» كما تصفني أمي أحياناً، وتارة أخرى أراني مشمئزة على منظر أن أكون تلك الفتاة الحلوة المنتظرة بزينتها وعطرها ودهن العود - في آخر المساء - إطلالة بعلِها كي يأكل من جسدها الشهي قبل أن ينام". ص26

وفي موضع آخر تظهر تلك الهوية الذكورية بشكل جلي:

"ثمة تغيير يحدث في جسمي لا شك سببه الهرمون، فمعه، زادت رغباتي الخفيّة تجاه البنات بشكل قوي، أجدني أمعن النظر أكثر في الحلوات منهم، أستدعي صورهن بالليل قبل أن يسحبني الكرى، تأتي طيوفهن مرتديات نفانيف فضفاضة تشفّ عما بداخلها، مائعات، يتهدّلن رقة وأنوثة أمامي، يترجين هجومي. ما الذي يحدث لي بالضبط؟!" ص42

المجتمع وأزمة الهوية الجنسيّة:

مما فاقم أزمة علا إضافة إلى التشوه الخلقي والصراع النفسي بين طرفي هويتها المزدوجة الجنسيّة، هو المجتمع الذي ولدت وتربت به، وهو مجتمع ذكوري ليس فيه الذكر كالأنثى، فمن يوم ولادتها كانت خيبةً لوالدها الذي كان يحلم بمولود ذكر بعد بنتين سبقتاها، وما إن قوي ساقاها حتى منعت من اللعب مع صبيان الحي، وهي التي كانت تميل إلى مشاركة الذكور ألعابهم أكثر من الإناث؛ فهي أفضل لاعبة لكرة القدم بينهم، وتروي أمها:

"حين أصبحت عُلا في السابعة لاحظتُ ميلها للهو بألعاب الصبية. لم تكن تهتم بالدمى الملونة والمزركشة مثل بقية البنات، ولم تنتبه ولو لمرة واحدة للون الوردي الذي لا تقاومه من في سنّها من البنات، أراقبها والفرحة تملأ وجهها الصغير، وهي تلعب بالمسدسات والسيارات الصغيرة، وبقية الألعاب الخاصة بالصبية". ص58

وحين استعصى دمُ حيضِها على النزول، وعجز الأطباء بكل هرموناتهم عن إنزاله لم يكن أمام أمها إلا إجبارها على الزواج من شخص لم يسمح لها برؤيته قبل عقد القران، فالفتاة في ذلك المجتمع لا تستشار حتى في زواجها، ولا يسمح لها برؤية عريسها قبل عقد القران كما تروي أمها:

"أننا لم نتعود أن يرى الرجل زوجته قبل أن يعقد قرانه عليها". ص65

"رأينا عُلا مختلفة يوم أخبرناها أنها خُطبت وأننا وافقنا، فشمخت على وجهها جبال من غضب شديد، وشعرت كمن لُدغ من أقرب الناس إليه، انتحبت بحدّة غير مسبوقة وهي تعترض على ما يجري «كيف يعقل أن يحدث ذلك دون علمي أو موافقتي وأنا صاحبة الشأن؟.» ص63

وهي بمنظور الزوج ليست أكثر من سلعة اشتراها بماله، وبصفقة علنية رغم أنها لم تكن طرفاً فيها، ومن هذا ما جاء على لسان شرف؛ حين صارحته علا بعدم قبولها بهذا الزواج:

"هي مُلكي الآن إن كانت تجهل ذلك، فلقد زوجني إياها أبوها، وليُّ أمرها الذي حضر عقد القران، وقال بلسانه «زوّجتك يا شرف ابنتي عُلا على كتاب الله وسنة رسوله ،» ثم قبلتُ أنا بها زوجة. وشهد على ذلك العشرات، وبعد عقد القران بساعات حملت لها أمي وبقية النساء مهرها وهداياها التي كلفتني الكثير. ص71

وإضافة إلى ذلك هو مجتمع متخلف علمياً وطبياً محكوم بالخرافات كما هو محكوم بالعادات وهذا واضح من لجوء الام إلى وصفات خرافية وشعبية لإنقاذ ابنتها:

 أرغمتها على لبس أحد السراويل المتسخة بدم عادة أختها ورائحته التي تشبه رائحة السمك الفاسد، قلت عسى أن يحصل السحر ويتأثر الرحم من خلال الرائحة، وكان قد تهادى إلى مخيلتي حينها منظر النخل التي تُلقح بمجرد وصول رائحة الطلع إليها من الفحول القريبة. شرّبتها بعضاً من الأعشاب التي نصحنني به قريباتي، وعرّضتُ أسفلها للسخونة المنبعثة من الجمر بعد أن قرأتُ عليه المعوّذات وأسهبتُ في الدعوات، كل ذلك باء بالفشل، وكانت عُلا، مستسلمة لتجاربي وصابرة على أمل أن تصيب في مرة. ص61

كما يظهر ذاك التخلف الطبي من جهل الطبيب السوداني بالحالة وادعائه معرفتَها وسهولتَها، ومنه إعطاؤها الكثير من الادوية الخاطئة التي فاقمت حالتها، ثم اعترافه في النهاية بعجزه؛ ولكن بعد فوات الأوان، وتأزم الحالة وانخفاض احتمالات إنقاذها. فتروي أمها

فقرر إعطاءها أقراصا من هرمونات «الأستروجين » لستة أشهر أولاً، قال « لن تحتاج لمدة أطول من ذلك »، فخاب تخمينه. رجع فأضاف ستة أشهر أخرى من الهرمون باءت بالفشل كذلك، اللهم بروز نهدين صغيرين بحجم حبة الليمون الصفراء. ص61.

إضافة إلى جهل ذاك المجتمع وتخلفه وعجزه عن فهم مثل هذا الخلل الجيني في خلق علا فإن لعنته وخاصة الدينية تطارد هؤلاء المعذبين وتحكم عليهم بالموت تخليصاً للبشرية من آثامهم:

وهل يمكن للعقل أن يصدّق أن الله يخلق مثل هؤلاء؟! الله حين أنشأ الخلق، خلق آدم ذكر وخلق حواء أنثى، ولم يخلق ما هو غير ذلك، فمن أين خُلق مثل عُلا وغيرها من أنواع؟! لا، لا يمكن للمولى عزّ وجلّ أن يخلق في هذه الحياة «شواذ» عند الولادة، بريء هو منهم، عُلا وغيرها هم من اختاروا أن يكونوا هكذا، برغبتهم. وفي نظري، الأحرى بهؤلاء أن يُسجنوا ويُجلدوا" ص62

مجتمع كهذا لا شكّ أنّه معجمٌ جامعٌ لكلّ مفردات آلام وقمع الأنثى حقيقةً، فكيف بمن استُلب منه جنسُه الحقيقي وألبس عباءات الأنثى؟

حكايات لفكرة واحدة (وجع اللاانتماء):

يوازي الروائي في نصه بين أكثرَ من حكايةٍ؛ وفي كل حكاية ثنائية ضدية تترامى بين قطبيها مسافات من الضياع والضائعين، لكنّ ابداع الروائي يتجلى في أنّ جميع الحكايات رغم اختلافها تتقاطع في مسقطٍ واحدٍ حول فكرة واحدة خلاصتها "وجع اللا انتماء" فأولها حكاية علا علوان المعلقة بين الأنوثة والذكورة، وثانيها حكاية القلق الوجودي بين الاستسلام لله والتمرد على القدر، ثم حكاية التائهين بين الوطن والغربة، وانتهاء بغربة الأوطان الضائعة بين الاستعمار والاستقلال، والوحدة والتجزئة. فالرواية هي حكايات كثيرة لوجع واحد.

• بين الذكورة والأنوثة (حكاية علا):

 في مجتمع ذكوري يسلب الأنثى أبسط حقوقها ولدت علا، ومنذ طفولتها كانت أميل إلى العاب الصبيان، وكانت أبرعهم في لعبة كرة القدم، وفي المرحلة الإعدادية تكتشف ذاك الميل الخفي والمخيف، الجامح في داخلها لجمال زميلتها (موضي) ثم زيارتها لها في أحلامها الليلية، ثم تكتشف اختلاف تطورات جسدها فيزولوجياً، وسيكولوجياً عن بنات جنسها، فصدرها لم ينمُ، ولم تأتها الدورة الشهرية مثلهن؛ بل كانت نظرتها إلى عالم الذكور بخلاف أحلامهن.

وحين تلجأ بها أمها إلى الطبيب السوداني "عبد الغفار" يزيد الطين بِلّةً بجهله علّتها، ويضاعف شذوذ حالتها بحقنها بهرمونات أنثويّة تجعل صدرَها وحوضَها ينموان بشكل لافت للأنظار، ويضاعف الآلام أسفل بطنها؛ معللاً حالتها بـأن " ذلك أمر طبيعي لا يدعو للقلق لمن هو في وضع ابنتك، فجسمها يفرز هرمونات ذكورية غزيرة، وهذا أيضاً طبيعي لمن في مرحلتها العمرية، سيزول كل ذلك عندما تصل سن البلوغ" ص24.

وتلجأ الأم إلى الكثير من الوصفات الشعبية التي تسرّع عمل الغدد الأنثوية، وكان آخرها أن فرضت عليها الزواج من "شرف" جازمة أنّه الحلّ الوحيد لتفجير أنوثتها. لكن علا التي تنفر من الذكور تصارحه بحقيقتها قبل الدخول بها، غيرَ آبهةٍ بعاصفة الأقاويل التي طالت شرفها، وسمعة أسرتها. وبعد أن يئس الطبيب السوداني يقرر أنّ حالةَ علا مستعصيةٌ في بلادنا، وأنّ لندن هي الملاذ الوحيد لعمل جراحي يعيدها إلى جنسها الحقيقي.

يترافق هذا مع حالة من التردي المادي لوالدها المغترب للعمل في شركة آرامكو في "الخُبر" السعودية مما يضطره للعودة إلى موطنه الأصلي في اليمن، لكنّ علا التي تغلي الذكورة في عروقها تناضل بكل قوتها لتتفوق في دراستها الجامعية، وتحصل على بعثة دراسية إلى بريطانيا، وغرضها الأساسي هو استعادة جنسها.

تصل علا بعد جهود مضنية إلى المشفى الذي سيجري لها العمليات، ولكن بعد أن كاد الأوان يفوت، ورغم تعاطف الجميع مع حالتها وإجراء عشرات العمليات الجراحية المعقدة لإخراج الأعضاء الذكرية الكامنة في أحشائها، لم تفلح فيالتحول الكامل من "علا" إلى "علي"، رغم الاستعداد النفسي الذي تتسلح به، والاستبسال لاستعادة جنسها، والذي عبرت عنه بالزواج من زميلتها "أميرة" التي بادلتها التعاطف والحب قبل الانتهاء من آخر عملية لم يكتب لها النجاح الكامل.

• بين الاستسلام لمشيئة الله وظلم القدر:

ومن خلال حكاية علا نلمح هذا الضياع والاغتراب الذي تعيشه علا وأسرتها بين الرضوخ للقدر والتمرد عليه، فهم مؤمنون بأن كلّ ما يحدث هو إرادة إلهية، ولا بدّ من الرضا والاستسلام له، ولكن يخلخل هذا الاستسلام أسئلة متمردة تجري على ألسنة الألم والمعاناة: ومنها تساؤلات علا:

"كم هي المرات التي تساءلتُ فيها مع نفسي لماذا لا يتم أخذ رأينا في الجنس الذي نريد أن نكون عليه قبل أن نتكوّن في الأرحام؟" ص 38

وتصل بها الجرأة إلى نعت حالتها بـ (الخطأ) في تكوينها:

"ثمة خطأ بي لم يقوَ أحد حتى الآن على كشفه، لغزٌ عجزوا عن الإجابة عنه" ص49

ونقرأ تفسير العقل الديني في فكر أغلب الشخصيات من خلال تفسيرهم لأي مصاب يصيبهم بأنه عقاب قَدَريٌّ من الله. ومنهم الأب الذي يرى أن نقمة الله عليه تطارده حتى من خلال ابنته علا: 

"سأبقى مطارداً مدى العمر من الخالق نفسه الذي تعهد بأن يكتب الفشل على كل محاولاتي للنجاح في حياتي" ص90

• المعلّقون  بين الوطن والغربة:

بموازاة حكاية علا العالقة في المنطقة المحرمة بين الذكر والأنثى؛ حكاية أولئك العالقين بين الغربة والوطن، وتُسرد من خلال حكاية الأب عبد الرحمن الذي تمرد على ولاء أبيه للاستعمار الإنكليزي في اليمن، وخرج ثائراً مع حزب العمال ضده، مما أجبره على الهرب من بطش الإنكليز إلى السعودية؛ ليعمل في شركة "آرامكو" في "الخُبر"، وهناك كانوا ينظرون إليه على أنه خائن لوطنه، آثر النجاة بنفسه، بل هو ذاته كان يعيش هذه الحالة المؤلمة من جلد الذات، فيفسر ما حلّ به وبابنته بأنه:  "نتيجة حتمية لهروبي الكبير المخجل الذي لا يُنسى حين كان وطني في أمس الحاجة إليّ ". ص 79

"أنا ليس سوى هارب جبان، خائن أفتقر لأبسط صفات الرجولة" ص 80

 وحتى المحيطين به كانوا يعاملونه كما يعاملون عبيدهم من الهنود، فهم ليسوا سوى أجانب كما تصف علا نفسها:

 "أنا مجرد فتاة يمنية تعيش في الخُبر، يمنية لا يحق لها الحصول على بعثة خارج المملكة، بل ولا حتى مجرد القبول في الجامعات السعودية" ص29

وحين عاد مع أسرته إلى صنعاء وجد من ينظر إليهم على أنهم مغتربين قضوا حياتهم في جني الثروة، وعادوا ليحاصصوا أبناء الفقراء في اليمن على حقوقهم الوطنية، فعلا رغم تفوقها في الجامعة إلا أنهم حاولوا عرقلة تعيينها معيدةً هناك، وكانت دعواهم:

  "أنتم أولاد المغتربين عندكم فلوس، خلوا هذي الوظائف للفقراء المحتاجين مثلنا".

إضافة إلى هذا كان الاغتراب النفسي، فالوطن مرتبط بالذكريات، وعلا لم تجد في موطنها الأصلي اليمن ما يربطها به؛ بل راحت تحنّ إلى موطن ولادتها وذكريات طفولتها ومراهقتها هناك في الخبر والتي هي بدورها لم ترَ فيها إلا مغتربة أجنبية.

•       بين الاستعمار والاستقلال: ِ

تظهر جليةً من خلال الرواية حكاية الوطن العالق هو الآخر بين ثنائية الاستعمار والاستقلال، وذلك من خلال اليمن الذي ظل غارقاً في وحوله التي أعاقت حركته بعد خروج المستعمر البريطاني ويتجلى هذا في الصراع الذي دار بين عبد الرحمن الثائر ووالده العميل الذي يصرخ به غاضباً:

- "ما الذي جلبه لنا الإنجليز سوى الخير، عبّدوا لنا الشوارع وبنوا لنا المدارس والمستشفيات، وجعلونا نشعر بأننا أوادم نعيش في بلد متحضر... هل تريدون أن تعودوا لحياة المحل والبؤس تلك؟ أنت لم تعش في أزمنة الجوع والحرمان والأمراض التي ليس لها علاج مثلما عشنا نحن". ص81

وبعد العودة إلى اليمن الذي طرد الإنكليز تكتشف علا وأبوها شيئاً من مصداقية رؤية جدها، حيث تجد بلداً متخلفاً تتحكم به الرشاوى والكسل وتخزين القات: "خرج الإنجليز من عدن من الباب البحري ودخلها الفساد من الباب الجبلي" ص87

ويعزّز هذا إيمانها أن البلد الوحيد القادر على إنقاذها من آلامها هو لندن، بل هو الذي رضي بأن يرافقها أبوها إليه؛ ليتعالج في مشافيه من الشلل الذي لحق بساقيه، وهو الذي على ذينك الساقين وقف في وجه الوجود البريطاني في اليمن.

وهكذا تتوضح آلام ذلك الوطن الذي بقي معلقاً ما بين مستعمر جاء لنهب خيراته وثرواته وبين حكام جدد لم يستطيعوا المضي به نحو شيء بسيط من النهضة التي ترك آثارها على أرضه ذاك المستعمرُ.

•       بين الوحدة والتجزئة:

إضافة إلى ما سبق تُلمح الرواية في عجالة إلى الهُوّة التي يقع بها الوطن في المسافة الفاصلة بين الوحدة والتجزئة، فالوحدة التي مطلب أساسي للقوة وتكامل الثروات، قد تكون وبالاً كما جاء على لسان عبد الرحمن:

 "كان أبي على حقّ في بعض الأمور، وكأنه كان يقرأ ما هو آتٍ، خرج الإنجليز من عدن من الباب البحري، ودخلها الفساد من الباب الجبلي، نزح الشماليون زرافات بحقائبهم المليئة بالأموال فالتهموا الجنوب الخارج للتو من الحرب. أحمق ذاك الذي وافق على الوحدة، لم تصنع الوحدة سوى الفرقة، لم تصنع سوى الخراب" ص87

وباختصار يمكن القول: رواية بدون واحدة من أجرأ الروايات العربية التي تناولت مساحات محرمة بين ثنائيات حكمنا بأنها بديهيات، فتأتي لتكشف ظلمات مساحات شاسعة من الألم الإنساني تمور بين أقطابها، وذلك من خلال حبكة سردية شائقة مزجت كلّ تلك الثنائيات ببراعة فائقة، تمسك بعيني القارئ حتى آخر سطر فيها.

                                 *******************

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم