علي السياري

سعت الرواية الليبية منذ ظهورها في منتصف القرن العشرين إلى مساءلة العلاقة بين خطاب السلطة والخطابات المناوئة له. ولقد مرّت هذه المساءلة بمراحل مختلفة وأشكال شتّى إذ تمّ في البداية طرح مسألة الثقافة الوطنيّة في مواجهة المستعمِر الذي يمثّل السلطة العسكرية الأجنبيّة أو السلطة الثقافية المركزية والإمبريالية، فظهر خطاب المثقّف طارحا قضايا ثقافته المحلّية ومحاولا تفكيك سلطة الثقافة الأجنبية التي يسعى المستعمر الأجنبيّ إلى إحلالها في ليبيا وفي كل المستعمرات في العالم الثالث. ويتجلّى ذلك بوضوح في ما سُمّي في تاريخ الرواية الليبية بمرحلة الرواية الوطنيّة، وهي التي تمتدّ من النشأة إلى حدود منتصف السبعينات حيث وظّف روائيو هذه المرحلة التاريخ النضالي للشعب الليبي ضدّ الاستعمار الإيطالي، وقد مثّل تاريخ حركة التحرير الليبية مدار أسئلة المتن الحكائي لتجاربهم الروائية، وذلك من خلال استرجاع ذلك التاريخ في العصر الراهن، وتمثُّل بعض عناصره وأبرزها أمكنته وشخوصه وأحداثه في صياغة تمجيديّة منفعلة ومتأثّرة بلحظات الاستقلال والنصر، وما تولّد عنهما من مشاعر نخوة ورغبة في إثبات مقوّمات الهويّة المستلبة والتعبير عن الموقف السياسي.

وقد بدا خطاب المثقّف، في هذه الروايات المبكّرة في تاريخ الرواية الليبية، رافضا لسلطة المستعمر وسلطة الامبريالية الثقافية والمركزية الغربية، وهو ما يتجلّى في بعض روايات محمّد علي عمر مثل "أقوى من الحرب" (1962)، "حصار الكوف" (1964)، "أنا والوطن" (1974)، وبعض روايات محمّد صالح القمّودي مثل " انتقام السجين" (1970)، "دماء على النخيل" (1973) و" أغلى من الحياة" (1973). فلقد احتوت هذه الروايات على صور نمطيّة للمثقّف التقليدي الذي يحلم بتخطّي حاجز الاستعمار ومخلّفاته وإحلال الثقافة الوطنيّة بدل الثقافة الأجنبية وتخطّي مظاهر التخلّف الاجتماعي والاقتصادي والسير بليبيا المستقلّة نحو التقدّم. وفي هذه المرحلة لم يواجه المثقّف في الرواية الليبية استبداد السلطة السياسيّة المحلّية ولكنّه واجه سلطة المستعمر الأجنبيّ والثقافة الأجنبيّة.

ومن الأشكال الأخرى للمواجهة بين السلطة وخطاب المثقّف في الرواية الليبية، سواء في مراحلها المتقدّمة أو حتى المتأخّرة، هي علاقة المرأة (باعتبارها حاملة لخطاب ثقافي ذي خصوصيّة) بالسلطة بجميع أشكالها. فالمرأة هي كائن ثقافي معبّر عن ثقافة هامشيّة في مجتمعات عربيّة متخلّفة لا تقيم وزنا للهامش، وهي حاملة لأنساقها الثقافية التي تميّزها عن الرجل. ومن هنا، فإنّها تخوض "حربها الثقافية" ضدّ سلط متعدّدة تأتي في مقدّمتها السلطة الذكورية (أو الهيمنة الذكورية بعبارة بيير بورديو)، حيث إنّ المجتمعات العربيّة، ومنها المجتمع الليبي، جميعها ذات طابع ذكوري وبنية فحوليّة تراتبيّة.

ولقد واجهت المرأة المثقّفة في الرواية الليبيّة "الفحل الاجتماعي" متمثّلا في الأب والزوج والأخ والمربّي وغيره، كما واجهت الفحل السياسي متمثّلا في السلطة السياسية وأجهزتها. وقد استمدّت المرأة الليبية المثقّفة عناصر وعيها بقضاياها من بيئة خارجيّة تمثّلت في الحركات النسوية العالمية الداعية إلى تحرّر المرأة والدفاع عن حقوقها وقضاياها في كل بلدان العالم، ومن البيئة المحلّية حيث مثّل الاستقلال حدثا شجّع المرأة على التعليم والعمل ومواجهة السلطة الاجتماعية الذكورية، وقد أدّى ذلك إلى بلورة وعي المرأة الليبية المثقّفة بكيانها باعتبارها أنثى، وكذلك وعيها بدورها باعتبارها عنصرا فاعلا في المجتمع، وهو ما عزّز نزوعها إلى التحرّر من أشكال القهر الاجتماعي المسلّطة عليها.

ولقد ظهر هذا النموذج للمرأة المثقّفة التي تواجه استبداد السلطة الذكورية في روايات نسائيّة بالأساس لعلّ أهمّها "المظروف الأزرق" لمرضيّة النعّاس، "البصمات" لشريفة القيادي، "المرأة التي استنطقت الطبيعة" لنادرة العويتي، "رجل لرواية واحدة" لفوزية الشلابي و"الهجرة على مدار الحمل" لرزان نعيم المغربي وغيرها.

وإلى جانب ذلك، مثّلت السلطة السياسية إحدى أهمّ القضايا التي تمّ طرحها في الرواية الليبية خلال عقد الثمانينات تحديدا، فهي قد شكّلت الهاجس الرئيس لعدد من الروائيين لعلّ أبرزهم صادق النّيهوم الذي انشغل بالفكر والفلسفة أكثر من انشغاله بالكتابة الروائية. ولقد صوّرت الرواية ذات التوجّه السياسي المثقّف باعتباره صوتا معارضا للاستبداد وحاملا لهموم المجموعة ومفكّرا نيابة عن النّاس، ولكنّه عادة ما يمنى بالخيبات ويُتّهم بانفصاله عن واقعه وغياب التواصل بينه وبين الآخرين. والملاحظ أنّ صورة المثقّف في هذا الصنف من الروايات تخفي وراءها عادة صورة الكاتب إذ يعبّر بعض الروائيين عن آرائهم وإيديولوجيّاتهم بواسطة شخصيّاتهم التي يبتدعونها في أعمالهم الروائيّة، وهو تعبير يتمّ وفق صيغ مباشرة كما هو الحال في رواية "وميض لجدار الليل" (1984) لأحمد نصر. ولقد عالج من خلالها إخفاق التجربة الديمقراطيّة في الانتخابات النيابية التي عاشتها ليبيا قبل وصول معمّر القذافي إلى السلطة عام 1969، وتُعتبر هذه الرواية تصويرا لخيبة أمل المثقفين الليبيين في مآلات الوضع السياسي بعد الاستقلال.

كما أنّ التعبير عن المواقف السياسية في الرواية الليبية يتمّ أيضا وفق صيغ غير مباشرة كما هو الحال في رواية "الحيوانات" (ط1، 1984) لصادق النيهوم (أو كذلك في روايته "القرود"). وتبدو ملامسة السلطة السياسية وتحريك سواكنها أكثر جرأة في رواية "الحيوانات" رغم لجوء الكاتب إلى حيلة القناع للتعبير عن مواقف الشخصيّات ورؤاهم (ومن ورائها مواقفه ورؤاه الشخصيّة) إذ استعار أسلوبا تراثيّا وهو أسلوب الحكاية المَثَليّة لكتابة روايته. فهو يقسّم الحيوانات إلى أدوار مختلفة بعضها يضطلع بدور السلطة السياسية بمختلف تفريعاتها وبعضها يضطلع بدور الشعب بكل فئاته المثقّفة وغير المثقّفة.

ولعلّ طرافة هذه الرواية تكمن في جرأتها، باعتبارها قد عالجت، بأسلوب ساخر، السلطة السياسية الاستبدادية التي تفتقر إلى الشرعية الانتخابيّة والديمقراطية. فهي سلطة تأتي عبر الاستحواذ على الحكم حيث يتمّ تشكيل الحكومة بين عدد محدود من الأفراد الانتهازيين وذوي النفوذ دون اللجوء إلى الشعب لممارسة حقّه في التصويت واختيار من يحكمه.

وتعمد السلطة في رواية "الحيوانات" إلى ممارسة أبشع أنواع القهر والاستبداد والقمع للأصوات المعارضة لها. وحجّتها في ذلك حرصها على توفير الأمن للشعب، وهي لا تتردّد في مصادرة حرية الرأي عبر فرض الرقابة على وسائل الإعلام لمنعها من فضح ممارساتها القمعيّة وانحرافاتها المتعدّدة، كما أنّها تلجأ إلى الاعتقال والتعذيب والمحاكمات الجائرة لكلّ صوت يسعى إلى معارضتها أو نقدها. ويكاد صوت المثقّف يكون غائبا في هذه الرواية، حيث إنّ السلطة السياسية لا تترك له حقّ التعبير، وهي تصادر كلّ حقوقه في إبداء رأيه أو الاضطلاع بدوره الاجتماعي. ومن هنا، فإنّ رواية صادق النيهوم تعدّ مثالا على الصراع المنهك والدموي الذي يخوضه المثقّف ضدّ السلطة السياسية الفاسدة والمستبدّة. ولكنّها، أيضا، تقدّم المثقّف باعتباره، هو الآخر، حاملا لجينات السلطة ولبذور الاستبداد في خطابه.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم