زياد مبارك

«مدن الملح» أضمومة روائية للكاتب السعودي عبد الرحمن منيف، تضم خمسة أجزاء، أولها موسوم بـ «التيه»، ثم «الأخدود»، ثم «تقاسيم الليل والنهار»، ثم «المُنبت»، وآخرها «بادية الظلمات». استطالت سلطة الرقيب على هذه الأضمومة، فتم حظرها في السعودية والخليج؛ لخوضها في الواقع الاجتماعي والسياسي بالنظر إليه من ناحية تأثير طفرة النفط على دول الخليج العربي، وذلك من خلال تغطيتها لسبعة عقود من 1902 - 1975، أي منذ بدايات ثورة النفط.

ما هي دلالة «مدن الملح» كعنوان، وما إسقاط هذه الدلالة على الرواية نفسها؟

أقتبس إجابة هذا السؤال من عبد الرحمن منيف في حوار معه: قصدتُ بمدن الملح المدنَ التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي، بمعنى أنها لم تظهر نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، وإنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة النفطية أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد.

ومن هنا أخص بحديثي الجزء الأول: «التيه» الذي اشتبكت معه، وإن سمحت ظروف اشتباكي بقراءة باقي الأجزاء، فثمة أقوال وأضواء أخرى في حينها.

الأضمومة تحمل ملامح العمل الملحمي طويل النَفَس بامتدادها لحوالي 2500 صفحة، حظي منها جزؤها الأول بأكثر من 600 صفحة. وما يمثل السمة البارزة لهذه الملحمة هو تخلي الكاتب عن الصورة النمطية المعتادة في كتابة الرواية، تلك الصورة التي يُلقى فيها الضوء على بطل رئيس تتمحور حول شخصيته الأحداث. فالبطل في مدن الملح هي المدن نفسها، ولا يتعدى دور الشخصيات كونها انعكاسات لعلاقتها بالمكان.

الرواية تستغرق في تفاصيل المكان، وتسهب في دقائقه، ثم تستغرق في وصف التغيرات التي اعترته على الصعيد الاجتماعي والسياسي والنفسي الجمعي، تربطك الرواية بقرية وادي العيون وصحرائها وعيون مائها ونخلها وخيامها والطرق المؤدية إليها وقوافل التجار والسابلة التي لا تنقطع عنها. وتربطك بحران، فتصفها منذ أن كانت قرية صغيرة على البحر لا يعبأ بها أحد، إلى أن صارت ميناءً كبيرًا تمتد إليه أنابيب النفط، فيأخذك السرد عبر مراحل نمو معمارها كمًا وكيفًا بتفاصيل مهمَلة سرديًا في أية رواية قرأتها من قبل، فتجد نفسك كأنك شاخص إلى وليد تتابع نموه يومًا بعد يوم، وبهذا الفيض من التفاصيل تتشكل أيقونة المكان الذي هو لب الرواية وغرض الكاتب.

ما يثير الدهشة والإعجاب في آنٍ واحد هو مقدرة عبد الرحمن منيف على الإمساك بخيوط شخصيات كثيرة جدًا، تدخل إلى الرواية وبعد أن تحتل مساحة عريضة في مسرح الحدث، ينقطع الكلام عنها لتدخل شخصيات غيرها، وهكذا تستمر الرواية في تجديد شخصياتها مع ثبوت المكان الذي يتجدد بنموه فقط، لهجرة طلاب الرزق والمغامرين إليه من كل فج في هيئة أمواج بشرية، فالعرب يفدون إلى حران من جهة البر، والأمريكان يفدون إليها من جهة البحر، حتى صار أهل القرية كالنقطة في الورقة البيضاء، وكل هذا يصف الهجرة أو الحج إلى النفط، الذي لولاه لما صارت القرية مدينة بين ليلة وضحاها، وهي التي كان يلعنها أهلها قبل زوارها - على ندرتهم - لنأيها عن الداخل الصحراوي واعتصامها بشاطئ البحر، ثم لجوها الساخن الرطب الذي يخنق الأنفاس، هذه هي حران التي أصبحت مقر الشركة الأمريكية وميناءها الرئيس!

لنعد إلى البداية التي كان مسرحها وادي العيون، قام الكاتب بصنع أيقونة تحمل عناصر الأعراف العربية بكل بداوتها وجنوحها الذي غذته طبيعة الصحراء، وهي شخصية متعب الهذال التي استلهمها الكاتب من شخصية واقعية لشيخ مشائخ قبيلة عنزة التي ينتمي إليها أمراء آل سعود، والذي كرمه عبد العزيز بن سعود في مطلع القرن العشرين بوسام من الطبقة الأولى. في الحقيقة إن اقتباس الكاتب لشخصية الهذال أصح من استلهامه منها، فالاسم المتخيّل الروائي هو نفس الاسم الواقعي، نجد الهذال حليفًا للأمراء في الواقع، ولكنه مغاضب لهم في الرواية؛ مما يفسح للتأمل قنص هذه المفارقة بين المتخيّل والواقعي، ودلالاتها النقدية للواقع الذي هدمت بناياته البدوية الأصيلة زلزلة اكتشاف النفط، كأن الكاتب يعيد تطويع الهذال الحقيقي أو لأقل بطريقة أخرى أن الكاتب أفرغ في الخيالي الدور الذي كان يود أن يقوم به الهذال الواقعي!

ثم يتواصل السرد حتى صيرورة القرى إلى مدن ملح قامت بسرعة على أسس سكانية هجينة مختلفة لا رابط بينها غير النفط، وما صاحب ذلك من اختلال للوضع البدوي وبروز هيئة جديدة له لا تمت للمكان بصلة. فالملح تذيبه قطرات الماء فما بالك لو كانت دعائم المدن من الملح، هو استشراف لمستقبل يحمل في طياته انهيارها.

وبالعودة لمتعب الهذال فإن القارئ يظن أنه بطل الرواية؛ لأن الكاتب يستغرق في تفاصيل كثيرة توحي بذلك في عتبة الرواية. ما يغير طبيعة وادي العيون الساكنة، ويعكر على متعب صفو حياته كان حضور الأمريكان للتنقيب في القرية، ويلعب متعب دور النذير الذي لا يكل من تحذير الأهالي واستنهاضهم لطرد الأمريكان، وهو يوزع شتائمه في كل آنٍ وأين، ولكن خابت مساعيه عندما قصد أمير المنطقة مع وفد الأهالي، بل كانت صدمته قاسية حين هدده الأمير بالسيف، إن لم يتأقلم مع الوضع الجديد. المشهد الأخير لمتعب وهو يغادر وادي العيون على ناقته العمانية متأبطًا بندقيته وخالي الوفاض إلا من قربة ماء، موغلًا في عمق الصحراء تعبيرًا عن رفضه لجرف الأمريكان نخيل القرية بآلياتهم الثقيلة، ومع غياب متعب الهذال الثوري الرافض والمصادم، صار أيقونة يتذكرها الناس كلما ضاقوا بالأمريكان الذين استوطنوا وكثرت أعدادهم منذ عهد الهذال.

هنا استرعى انتباهي نجاح الكاتب في إزاحة شخصيات مؤثرة ليراهن على رفد الرواية بشخصيات أخرى تحل محلها، وما أن يتحقق من أن رابط الشخصيات الجديدة بالرواية قد صار متينًا ومشبعًا بالتفاصيل، حتى ينبذها من بين يديه ليسعى إلى القارئ بشخصيات أخرى. هو رهان مثير للقارئ ومرهق للكاتب في نفس الوقت، راهن الكاتب من ناحية أخرى على أن يظل رابط القارئ بالمكان متينًا حتى النهاية، هذه العبقرية الروائية كسبت كل ما راهنت عليه!

بعد غياب الهذال، قامت السلطات بترحيل أهالي وادي العيون، ووجه الكاتب نقده لها لعدم تعويضها الأهالي بتعويض مناسب يجبر فقدهم لمراتع الطفولة ومرابع الصبا حسبما وعدتهم، فلجأوا إلى قرية أخرى، وهنا انتهى دور القرية في الرواية، فقد كانت المدخل لسرد بدايات اكتشاف النفط، ابتداءً من حضور بعثات الأمريكان التي لم تتعد بضعة أفراد لإجراء الدراسات الأولية، في بداية الأمر كانوا يأتون ويذهبون إلى داخل الصحراء، ثم يأتون ويذهبون وهكذا، إلى أن أحضروا معهم عددًا أكبر وبمعية آليات التنقيب ليستوطنوا أخيرًا في وادي العيون.

ينتقل المسرح إلى حران بذهاب فوزان بن متعب الهذال وقريبه صويلح إليها لطلب الرزق بالعمالة لدى الأمريكان في ميناء النفط الجديد، ومن وادي العيون يذهب ابن الراشد أيضًا إلى حران ليلعب دور التاجر الجشع الذي يطوف ليجمع البدو من الصحراء، ويذهب بكل مجموعة منهم إلى الأمريكان لتسخيرهم في أعمال الميناء، من بناء وتحميل الأغراض من البواخر الوافدة وما إليه مما يطلبه الأمريكان منهم، وكان له الفضل في تشغيل كل العمال بمن فيهم فوزان وصويلح، شخصية ابن الراشد بما تمثله من تفضيل للمصالح الشخصية وتنصل من الأعراف لأجل المادة هي أيضًا تتعرض للإزاحة من قبل الكاتب بعد أن نمت مع نمو حران، فابن الراشد توسعت أعماله التجارية مع نمو المدينة وزيادة الوافدين في كل يوم، وصار يشيد في الأراضي التي اشتراها من أهل حران المتاجر والمخازن والمخابز والدور.

يستعرض الكاتب دهشة الناس في حران، عندما استمعوا للمذياع أول مرة، وعندما رأوا أول باخرة، وسيارة، ومصباح يدوي، ومنظار مقرب، وطريق أسفلت، ومجلة في حياتهم، يغوص بك في قلب حالات الذهول، ويرسم الملامح والنظرات التي ترتسم على الوجوه، ويستعرض تفسيرات الناس الماورائية لكيفية عمل الآلة التي تديرها الشياطين والجن في إحالات لما يدور في أذهانهم!

ولا أجد وصفًا أدق للحالة التي تتلبس القارئ مما قرأته في كتاب «الحلم والهزيمة في روايات منيف» للناقدة نجوى القسنطيني، حيث تقول: «إن اهتمامنا بروايات منيف تحليلًا ونقدًا هو نتيجة حتمية لقراءتنا لها، فإن لها قدرة خاصة على توريط القارئ في وقائعها وأجوائها». وما حدث لي وأنا اشتبك مع رواية التيه هو التوريط بعينه! مع أحداثها الشائقة في المرة الأولى، وفي كتابة رؤيتي وتذوقي لها في المرة الثانية!

التيه كعنوان لهذا الجزء لا ذكر له في الرواية، ومدن الملح لا ذكر لها أيضًا وقد سبق أن ذكرت تفسير منيف لها ، أما التيه فهو عنوان يغلفه غموض لذيذ تركه الكاتب لمخيال القارئ، ليحفر في الرواية، ويستخرج منها مساقط دلالة العنوان بما يرتاح له من تفسير بعد تكهن وإعمال حدس. هل هو تيه البدو الذين فقدوا أصالتهم مع مرور الوقت، ولم يصلوا لمستوى حضارة الأمريكان، فصاروا في منزلة بين المنزلتين؟ هل هو تيه المكان الذي صار هجينًا يجمع الخيمة بجانب دار الطوب بجانب مباني الأمريكان ذات الطراز الغربي بجانب «بركسات» العمال، فتاه المكان نفسه؟ هل هو تيه أهالي وادي العيون وحران؟ هل هو تيه الملامح المكانية الذي تجلى في تحوّل وادي العيون إلى حقل نفط وحران إلى ميناء تصدير؟ أم هو كل ذلك مجتمعًا؟

أميل إلى أن التيه حالة خاصة بمتعب الهذال، فهو مقاتلٌ سليل أسرة حاربت الترك، غادر بعد أن ذهبت صرخاته وتحذيراته أدراج الرياح، لكنه ظل ساكنًا في أذهان الناس، لأنه الحامل الحقيقي للمبادئ والأخلاقيات العربية التي فقدوها شيئًا فشيئًا في مدن الملح، وبما أن الكاتب ترك الباب مفتوحًا بعدم جزمه بموت متعب أو حياته، فأظن أن الهذال ضرب كبد ناقته نحو الصحراء مختارًا أن يكون التيه بيده لا بيد عمرو! هذا والله أعلم، ثم منيف!

  • كاتب سودانيّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم