نجيب كيَّالي

تغوص هذه الرواية – وهي العمل الروائي الرابع للكاتبة- في وجدان الفلسطيني (يوسف) الذي فقدَ دارَهُ في بلدة (عين كارم) بفلسطين، ومع الدار فقدَ عالَماً كاملاً من المحبَّة وروابط الألفة، فهو أمام جرحين وضياعين، كلاهما يؤجج الآخر.

تؤسس الروايةُ منذ البداية خطَّها في الاتجاه إلى داخل المأساة الفلسطينية، وتنصرف عما بات يعرفه الجميع من ظروفها الخارجية وتداعياتها، بل إنها تهتمُّ بانعكاسها على الذات الفردية، وتتخذ من يوسف وسيلةً لذلك، فهو منذ يفاعه متعلقٌ بجبل العقود حيث تتمثل له المرأة/ الحلم في خزامى الراعية، ومع الطرد من فلسطين يزداد تشبثاً بالصورة الحلمية للمرأة رغم زواجه من (جميلة)، وكلما صدمته الحياةُ بخيباتها، وضاقتْ مساحتها أمام عينيه فتح له الحلمُ صدرَهُ الرحب.

إنَّ خزامى بما تحمله من إيماءين واضحين إلى رائحةِ المرأة، ورائحةِ الزهرة العربية الذائعةِ الصيت تُشكِّل في النص بؤرةً فائقةَ الأهمية، فهي في حياة يوسف تتناسل في نساء كثيرات، بعضُهن من الواقع، وبعضُهن منسوجاتٌ على نَوْل الحلم:( سارة، عائدة، أكيكو اليابانية، نارا ماتا الهندية، درية، نفيسة خانم)، والمرأة في الرواية تعني: (الحبَّ الذي يصل الأرضَ بالسماء)(1)، وهي مفتاح للأبعد، والأعمق، والأخفى، والألذ، والأغنى، وتتعدد في مدلولاتها بين المرأة/ الأنثى، والمرأة/ الأرض، والمرأة/ الخصب، والمرأة/الإبداع.

وفي رحلةِ بحثِ يوسف عن ذاته يتجاور خطَّا الضياع والهُدى، فيوسف تارةً في الأول: (الضياع)، وتارةً في الثاني: (الهُدى)، لكنه دوماً يفتش عن الألوان الناقصة في لوحة وجوده، هذه اللوحة لا تستطيع زوجته (جميلة) أن تسدَّ ما فيها من نقص، وكيف تسدُّه؟ والعلاقة بينهما فاترة، يرجع فتورها إلى رغبة يوسف في الانسلاخ عن الواقع المفروض عليه.. لقد أرغمته أمه على الزواج منها، وهي قريبته، لكنَّ روحه كانت طائراً يحلِّق في سماوات أخرى.

تنقسم الرواية إلى قسمين: في الأول منهما حديث عن نشأة يوسف، ومأساته، وكفاحه بعد الطرد من فلسطين، وبحثه عن ذاته وحلمه في الواقع. أما القسم الثاني المعنون بـ (مسرح الروح)، ففيه يموت يوسف في الكويت موتاً متخيَّلاً ليتابع رحلةَ البحث عن مبتغاه بعد الموت.. إنَّ القسم الثاني يمثِّل مِعراجاً خاصاً لبطل الرواية يطوفُ من خلاله في الأرض، ويتعرَّف نماذجَ من البشر، ويخالط أدياناً مختلفة، ويعايش عاداتٍ وتقاليد وأنماطاً حياتية متنوعة، لهذا نراه في اليابان، والهند، وتركيا، وحلب، ودمشق، هذا الحضور الواسع ليوسف بعد غيابه الجسدي يشفُّ عن توق الروح إلى الإخاء الإنساني والتعارف بالمفهوم الإيجابي أو القرآني.(2)

تنتهي الرواية برؤية يوسف لقبره رؤيةً روحية.. يراه في (عين كارم) التي طُرد منها وهو يرغب في العودة إليها، والقبر هنا مرقد رمزي، وختامُ عُمْرٍ دارَ بصاحبه، وانتهى حيث بدأ.

خصوصيَّة الرؤيا:

تمتاز رؤيا الكاتبة بانفتاح الأفق على مناهل شتى أهمها: التراث الديني الإسلامي، وتبدو استفادتها منه عصرية، إذ تنهل من قصة(يوسف بن يعقوب) القديمة المعروفة بقوة أثرها، ومن النظرة الصوفية للوجود لتتحدث عن ضياع الذات ليوسف الفلسطيني المطرود من عين كارم، إلى جانب هذا غذَّتْ رؤيتَها بمناهل أخرى دينية وغيرِ دينية كالبوذية، والمسيحية، والفلسفة المادية عند بلزاك، وانعكس ذلك كلُّه على جسد الرواية نضارةً وثراءً، كما أنها- بالإضافة إلى ما سبق- استندتْ إلى تفاصيل معرفية كثيرة تتعلق بخصائص الشعوب والأمكنة التي جرى فيها المِعراج اليوسفي الروحي، والرواية بهذه التفاصيل تذكِّرنا بالغنى المعرفي الذي تميز به أدبُ الرحلات الأوربي.

غير أنَّ الأبعاد الثقافية في الرواية تفقد كثيراً من وهجها إذا لم تكن موظفةً لمقاصد النص، وبمساءلة الرواية عن تلك المقاصد نجد ثلاثَ نقاط بارزة:

* تحمل الرؤيا في رواية المعراج دعوةً واضحة إلى تمازج الثقافات وتفاعل الديانات بدلاً من تصادمها.

* ترفع الحبَّ عالياً إلى ذروة القيم، وتجعله باباً للكشف والعثور على الذات الهائمة المتناثرة.

* تقدِّم رداً بالمعرفة الإنسانية المفتوحة الأطراف على الانغلاق العنصري الذي مثَّله غاصبُ فلسطين.

وقد يقول قائل والمرارة تملأ فمه: إنَّ انسياح يوسف روحياً في العالم بقدر ما هو رائع قد يكون مجردَ تعويض عن العودة إلى الأرض الحقيقية في فلسطين، ولا شك أن هذا القول يستحق التأمل.

في الخصوصيَّة الفنية:

تطرح صاحبة الرواية من خلال كتابها هذا نمطاً لرواية الوجدان حيث يبدو الواقع ظلاً، والحياة الساخنة الثرية في الداخل.. في القلب، هذا النوع من الكتابة يتطلب – كما أعتقد – حفراً معرفياً في بواطن الشخصيات، واستكناهاً لرؤاها وأحلامها، وفهماً لتأرجحاتها بين ما تحب وما تكره.. بين المتاح لها وغيرِ المتاح، وهو يتطلب أيضاً لغةً سردية تستطيع مع محمولاتها النفسية والمعرفية أن تدخل قلوبَ القراء على جسر من الرهافة والعبير والضوء.

إنَّ محاورة التكنيك الروائي لهذا النص تملؤنا بقدر كبير من الرضى، فنشعر أن الكاتبة قادتْ روايتها باقتدار، واستطاعت أن تفي بمتطلبات الرواية الوجدانية، ولتحقيق ذلك استعانتْ بعدد من التقنيات الفنية، منها:

1- سرد هادئ ذو طبيعة جوَّانية: وهو يتيح للقارئ فرصةَ التأمل فيما وراء الأحداث، والأوصاف، وأفعال الشخصيات، يغريه بالتماس الضوء البعيد الخافت لما قيل بين السطور، وما قيل إلماحاً، وما قيل مقطَّعاً، وينبغي جمعُه كحبات المسبحة في خيط واحد يجود به وعيُ القارئ اللبيب، كما أنَّ هذا السرد حينما يتعلق بالجغرافيا وطُرز الأبنية يثير فينا الرغبةَ لاكتشافها بنظرة جديدة تخترق مكوِّناتها الخارجية إلى كيانها الأعمق: (لم يعلِّق يوسف، كان يستكشف المكانَ بروحه قبل عينيه، وأحسَّ الأشياءَ قريبة جداً من نفسه، البيت من الخارج يبدو صغيراً وهزيلاً، فقد تعلَّم اليابانيون جعلَ منازلهم جزءاً من حدائقهم).(3)

2- عتبات شعرية: حرصت الكاتبة على افتتاح أكثر فصول روايتها بمقاطع شعرية أشرعت البابَ على العمق والسؤال والمغنطة الشعورية:

(يفاجئني الصباحُ بشمسه كتفاحة حمراء

لن يكون العمرُ قد تأخر

لأعودَ إليكِ

مترنماً بأناشيد البدو الرُّحَّل

ومبتهلاً للظلام

بكامل خفقاتِ القلب).(4)

لو جرَّبنا حذفَ هذه المقاطع لوجدنا أنَّ بنية الرواية أصيبتْ بعطبٍ كبير، فالكاتبة جعلتِ المقاطعَ المذكورة جزءاً من المعمار الروائي، والملاحظ أنها جميعاً من شعر النثر، أو الشعر المترجم، وأصحابها بعضهم من الشعراء العرب، وبعضهم الآخر من شعراء العالم، ولا شك أنَّ هذا يتضمن دليلاً إضافياً على اتساع الأفق الثقافي في الرواية الذي سبقتْ إليه الإشارة.

من الشعراء أصحاب المقاطع المومأ إليها: (السوري: شاهر خضرة، الفلسطيني: خالد الجبور، الإماراتي: خالد البدور، الهندي: طاغور، التركي: ناظم حكمت.. إلخ).

3- عتبات نثرية: مع العتبات الشعرية نجد في الرواية عتبتين نثريتين، أولاهما لـ(هيراقليطس) جاءت قبل قسمها الأول المعنون بـ(على تخوم النُّور)، والعتبة الثانية جاءت قبل القسم الثاني في الرواية: (مسرح الروح)، وهي مقطع لأبي حيان التوحيدي من كتابه: (رسالة الحياة)، كلا العتبتين تُشكِّلان مفتاحاً لما أتى بعدهما، ولا سيما مقطع التوحيدي الذي يميز فيه بين الحياة الدائمة والمنقطعة، بين الدهر والزمان، وقد كان في هذا تنبيه لوعي القارئ إلى انعطاف الرواية إلى مسار مختلف عن مسار القسم الأول.

4- نصف الكأس المملوء: أعني أنَّ الروائية كانت تقول شيئاً، وتترك للقارئ أن يتخيَّل أشياءَ أخرى، فهي قد حققتْ إلى درجة حسنة ما يُعرف نقدياً بـ(شراكة المؤلف والقارئ في إنتاج وعي النص)، وقد لا يروق هذا النمط الروائي للقراء التقليديين الذين اعتادوا حالةً من التلقي السلبي والأفكار الجاهزة، لكنهم لا يلبثون طويلاً حتى يكتشفوا عذوبةَ التفاعل والمشاركة، ولا سيما حينما يتعلق الأمر بالحب وهو فلك دارتْ حوله الرواية: (سمع شهقةَ امرأة كانت تصرخ، وهي تتقدم نحوه بلهفة، احتوتْ كفَّه بين يديها وقبَّلتها، تدحرجتْ دموعها لتغسل وجنتيها، أشاح بوجهه، ليست هي).(5)

إن عبارة: (ليست هي) تحرِّض المتلقي على التفكير في المرأة التي أراد صاحب العبارة أن تكون معه بدلاً من المرأة الماثلة أمامه.. أهي خزامى أم فاطمة أم فتنة؟ أم سواهن من النساء اللواتي عايشنه واقعاً أو حلماً؟

5- الترميز الدلالي للأسماء والأمكنة: أسهمَ في إغناءِ الرواية بالتقاطعات الفكرية، والتاريخية، والانزياحات، وزاد من درجة التفاعل عند القارئ – كما أظن - إذ حرَّضه على إقامة شبكة من التواصل بين الروامز ومرموزاتها، وملأه بفيوضات شتى انهمرتْ عليه من سُحب الترميز الغنية، من الروامز مثلاً:

* عنوان الرواية: (المِعراج)، وفيه إيماء إلى قصة المعراج الديني بما فيها من الجلال والتحليق وحرارة العاطفة.

* اسم بطل الرواية: (يوسف)، وهو يحيلنا إلى قصة يوسف الدينية الشهيرة الغنية درامياً وفجائعياً، حيث تآمر على يوسف إخوته من أبناء يعقوب.

* عين كارم: التي انطلق منها يوسف الفلسطيني، ولها صلة تاريخية بكل من النبيينِ: زكريا ويحيى، والسيدة: مريم العذراء.

6- ظل من الشاعريَّة، ظل من العامية: لا تخلو صفحة من صفحات الرواية من ظلال الشاعرية، لكنها ليست الشاعرية الإنشائية التي تعطِّل في النص حركته الدرامية، إنما هي شاعرية ساعدت الرواية على تحقيق هويتها الجوَّانية التي تحدثتُ عنها: (يراها خلف جفنيه تحمل بيدها شمعة تحترق بسرعة، يتساقط دمع الشمع على أناملها، لكنها تبتسم! تتحول الأصابع إلى تمثال صغير من الشمع، وهي تقترب، وترتمي على صدره).(6)

إلى جانب الشاعرية حضرت العامية في بعض الحوارات حرصاً على المصداقية في نقل المستوى اللغوي بحساسياته الواقعية ذات التأثير الخاص، كما ظهرت العامية أيضاً في الهناهين الشعبية التي لا يجوز زحزحتها عن عاميتها حرصاً على ما فيها من الحرارة والصدق والتلقائية: (نادولي هاالعريس لأقشع حلاته، وأقشع بياض عنقه مع جوز شاماته. ارفع عينيك واقشعها، وكل ما قالتك كلمة اسمعها، وكل المال اللي حطيتو ما بيسوى رووس أصابعها).(7) 

ملاحظات:

على الرغم من الصورة الزاهية للرواية إلا أنَّ ثمَّةَ ملاحظتين أسوقهما باختصار:

أ- وقعت الكاتبة في القسم الثاني من الرواية فيما يمكن أن أسميه: (تكرار القالب الدرامي)، فيوسف كان ينتقل دوماً من بلد إلى بلد، ويلتقي امرأة تشبه خزامى كثيراً أو قليلاً، ثمَّ لا يلبث أن يفقدها، صحيح أن حيثيات اللقاء مختلفة، لكنَّ (الكليشيه) واحدة.

ب- سار السرد بسرعة كبيرة في بعض مقاطع القسم الأول، وهو ما شعرتُ به عند حديث يوسف عن خالاته، وعند حديث أم هشام عن النكبة والنكسة، وكأنهما متجاورتان في الزمن!

خاتمة:

تبشِّرنا رواية (المِعراج) بدخول المرأة في بلدنا سورية إلى عالم الرواية الحقيقية المتطورة بعد أن كان الإنتاج الروائي النسوي سابقاً مقتصراً في معظمه على موضوعات ضيقة، فهاهي ابتسام التريسي تدخل هذا المضمار بجدارة، وتقدِّم في روايتها هذه طروحاتٍ غنيةً ضمن إطار من الترميز واللغة الراقية.

وإذا كانت قيادةُ العمل الروائي بما فيه من أحداثٍ متعددة وشخصياتٍ كثيرة تشبه قيادةَ شاحنة ثقيلة لها عشراتُ العجلات، ومع ذلك يُطالَب الروائي بأن يكون خفيفاً رشيقاً بحيث يُشعر القارئَ أنه يقود دراجةً هوائية، فإن صاحبة (المعراج) أشعرتنا بقدرٍ كبيرٍ من رشاقة القص، وسِحرِ الفن.

*   *   *

المِعراج – رواية ابتسام إبراهيم التريسي- 336 صفحة – دار العوام- دمشق – صادرة عام 2008.

الإشارات:

  • المِعراج – ص 151

        (2) التعارف الإيجابي: قائم على التفاعل، التعارف بالمفهوم القرآني: يبحث فيه البشر المختلفون ثقافةً وأعراقاً عن بعضهم ليتكاملوا: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) الحجرات - 13

(3) المِعراج – ص143

(4) المِعراج - ص 107+ 108

  • المصدر السابق – ص 111
  • المصدر نفسه – ص110
  • المصدر نفسه – ص 99
  • نجيب كيّالي:

* مواليد: سورية- إدلب 1953

* شهادة جامعية في الأدب العربي من جامعة حلب 1980

* قاص يعشق أدب الأطفال، فيكتب لهم القصصَ والقصائد، وللكبار يكتب القصة القصيرة، والقصيرة جداً، والشِّعر، كما أنَّ له مساهماتٍ في المقالة، والمتابعات النقدية.

* حاصل على عدد من الجوائز العربية في مجال أدب الطفل، آخرها: جائزة ناجي نعمان- لبنان 2019

له خمسةٌ وعشرون كتاباً، المطبوع منها تسعة فقط، آخر منشوراته: الحكايات المخبأة في الأصابع- قصص قصيرة- دار فضاءات الأردن 2019 .

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم