نشرت دار (فضاءات للنشر والتوزيع) في عمان، الأردن رواية (سالمين) للكاتب والروائي عمار باطويل، وجاءت الرواية في (113) صفحة من القطع المتوسط، وتتناول هذه الرواية قضية الانتماءات قضية مركبة ومعقدة فهي لا تمضي بطريقة رياضية واضحة مثلما يمضي الخط المستقيم الذي يختصر المسافة بين نقطتين، فالإنسان يحمل ذاكرة تشكلها حركة التاريخ المحمل بالمآسي والمهازل العجيبة وهو لا يكون في الخط المستقيم الذي يتحرك غير مبال بقضية الانتماءات المذهبية والمكانية، فالمرء يولد وهو يحمل عناصر من الانتماءات الطبيعية التي لا دخل له فيها، مثل الانتماء العرقي والأثني المعروف باللون الاسود ولا يعني اللون الاسود الرفع من قيمة الهوية أو الحط من شأنها بطريقة مطلقة، إذ أن بعض الأفارقة السود في القارة السوداء يستعبدون جماعة تشترك معهم في اللون الاسود، بل بالمكانة الاجتماعية والقبلية لهذه الجماعة وحيازتها للنفوذ والقوة فمن يملك القوة هو الذي يمارس العبودية فالمسألة هنا نسبية، ولكن مشكلة العبودية في عقلية أغلب الحضارمة ارتبطت باللون الأسود ومشكلة اللون الذي حمله سالمين مشكلة حاضرة بقوة في الرواية إذ أن هوية سالمين اختزلت في اللون الأسود، اذ تحول اللون إلى عقدة تمكنت منه، ولم يستطع أن يتحرر منها حتى بعد أن نال حريته، إذ أن احساسه الدائم بهويته المنقوصة ظل يطارده إلى درجة فقد معها التوازن وهيمن عليه الشعور بالضياع، ولم يحل الثراء الفاحش مشكلة غموض الانتماء عنده، إذ إن هويته ظلت ممزقة ومضطربة، وإذا كانت مشكلة الانتماء مشكلة مؤرقة وعصية لسالمين فإن الحضارمة الذين هاجروا الى السعودية تعاملوا مع هذه المشكلة دون عقد، إذ أن البعض منهم لم يجد حرجا في استبدال اسم عائلته باسم آخر يحسب على العائلات المكاوية في جدة، ويبدو أن الحاجة إلى الاندماج السريع في المجتمع المحلي هي من دفع بعض الحضارمة إلى أن يسلكوا هذا المسلك الذي لا يرضى من يولون أهمية قصوى لبقاء الأسماء، ومعنى ذلك أن عناصر الانتماءات المكونة للهوية ليست ثابتة بل متغيرة، إذ إن حركة التاريخ تجعل جماعة معينة من هوية أو أخرى تعيد النظر في ترتيب أولوية الانتماءات، فتقدم انتماء على آخر وتستبدل انتماء بآخر بحسب التأثيرات الاقتصادية والسياسية والايديولوجية، فالحضارمة أنفسهم وبخاصة الرعيل الأول منهم، والذين هاجروا الى السعودية والمؤهلين للخدمة في البيوت بحكم سنهم عملوا صبياناً عند الأسر الميسورة الحال، ولم يسلم أبناء القبائل من العمل في البيوت وانطبقت عليهم صفة الصبيان، وهذه المهنة تعد مهنة حقيرة في المجتمع المحلي الحضرمي، وينظر إلى من يعمل فيها بكثير من الدونية والاحتقار، لقد فرضت الحاجة إلى أن يمر أبناء القبائل بمهنة الصبي قبل أن يفتح الله عليهم بوفرة الرزق ورغد العيش، والحضارمة أنفسهم حينما وجدوا مصلحتهم تقتضي حمل الجواز الشمالي المحسوب على الجمهورية العربية اليمنية فحملوا الجواز الشمالي إذ إن الحامل للجواز الشمالي في السعودية له مزايا مفضلة على حامل جواز جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وهذا التفضيل اعتمد على اعتبارات سياسية وايديولوجية، وسقط هذا التفضيل بعد قيام الجمهورية اليمنية لأن أسباب التفضيل زالت . إن الرواية قد تضمنت تقويمات للنظام المحسوب على الجنوب، ومن ضمن هذه التقويمات أنه نظام شيوعي ملحد ارتكب خطيئة التأميم وأخذ أراضي ومساكن الناس وضيّع أموالهم، والناس قد ينسون من جهة قتل أقاربهم، ولكنهم لا ينسون من أخذ أموالهم عنوة وقوة، إن البشر والحضارمة من ضمنهم حاولوا أن يتكيفوا مع اللحظة التاريخية الحرجة سياسياً حتى يعيشوا وتمضي بهم الحياة بسلام. إن قضية الهوية وعناصرها المكونة من مجموعة انتماءات تكثف كل تعقيدها في شخصية سالمين الذي حمل عنوان الرواية اسمه، وأمدته الرواية بحق التقويم وإصدار الأحكام على الآخرين فهو ينكر على الحضارمة تنكرهم لأصلهم الحضرمي ويسخر منهم على الرغم من أنه استعبد من الحضارمة، واللافت أن القارئ لايرى أي ردة فعل تجعله ينادي بالسحق للحضارمة، بل يستغرب القارىء تمجيده للحضارمة، وكيف أنهم مثلوا مدرسة في الصبر والعمل الدؤوب والنجاح الباهر، ولكن هذه المدرسة تناستها الأجيال اللاحقة، والمفارقة أن سالمين الذي يحمل لعنة اللون لا يعرف مكان ميلاده، ويجهل أصله الأسري، فهو لا يعرف اسم أبوه وأمه، وهذه الحقيقة ظلت تؤرق سالمين، ومعنى هذا أن سالمين العبد ليست له هوية معروفة، ولكن هويته صنعت له، وربما أُعطي اسماً ليس اسمه ونسباً ليس نسبه ووطناً ليس وطنه واثنيةً ليست اثنيته وديناً ليس دينه فهو لا يعرف له أصلاً فهويته تغيرت تماماً. إن سالمين أُلبس عبأة الحضرمة وباسم الحضرمة، مارس انتقامه الشخصي على الحضارمة، إذ حاول أن يتتبع عيوبهم ويتلقط سقطاتهم، فزوجة سيده ( حمد ) سوسن يكشف خيانتها لـ(حمد ) بعد وفاته، إذ سرعان ما أصبح لها عشيقاً ولم تصبر على حياة الترمل، وحسن ابن ( حمد ) قدم عنه صورة في غاية السوء فهو متغطرس ولم يتنكر لحضرميته حسب بل يكره كل من يذكره بحضرموت ويتندر على كل من يذكر حضرموت ويحاول بقدر ما يستطيع أن يقطع صلته بالحضارمة، ويُعلي من شأن أصله الجديد، وكل ما يصدر عن حسن يعد قبيحاً. وبعد فإن القراءة لن تكتفي بهذا التقديم لقضية تغير الانتماء للحضارمة بل ستذهب إلى تدعيم ماتزعمه بشواهد من داخل الرواية، وستبدأ القراءة بالشواهد على تغير النسب الحضرمي واستبداله بالنسب المكاوي . 1- التغيير في انتماء النسب على الرغم من حساسية النسب والحرص الشديد على التمسك والتفاخر إلا أن الهجرة إلى أرض الآخر، به فضلاً عن حاجة الحضارمة للاندماج بسلاسة في الوطن المهاجر إليه دفع بعض الأسر الحضرمية إلى إن تترك انتماء نسبها الأصلي وتحمل اسماً جديداً يتيح لها الحركة وتسهيل أمورها حتى تضمن لنفسها الحصول على الجنسية وهذا ما حصل لبعض الحضارمة في جدة إذ يصرح حمد بحسب المعلومة التي تلقفها من ابن خاله (سعيد) الذي يعمل صبياً عند أسرة مكاوية أن (( البعض من الحضارم من لقّب نفسه باللقب الأخير من الأسر المكاوية للحصول على الجنسية السعودية )) ص58 إن الراوي حمد بعد أن عاش طويلا في جده واختبر الحياة فيها، تيقن من بعض الحقائق التي تشاع عن الحضارمة بشأن التخلي عن أسماء أسرهم الحضرمية وحملت أسماء أسر مكاوية، إذ تبددت الحيرة من قلبه فيقول (( كنت أستغرب من هؤلاء الذين حولوا أسماء عوائلهم الحضرمية إلى أسماء مكاوية، وكل هذا من أجل الجنسية، فكنت أشك في هذه الحكاية التي قالها لي قريبي سعيد، ولكن بعد مرور سنوات طويلة في جدة تزوجت من فتاة حضرمية تحمل اسم عائلة مكاوية )) ص59 واتضحت عند حمد حقيقة الأسر الحضرمية التي حملت اسم عائلات مكاوية بوساطة العلاقات الغرامية التي ربطت سوسن بحمد نفسه إذ قالت محبوبته سوسن (( تحبني يا حمد ؟ قلت أنا أحبك وأحب كل من يحبك، قالت : اطلب يدي من أهلي ولا عليك وأنت حضرمي مثلنا وحيوافقون أهلي ))ص59 إن سوسن التي شاءت الأقدار أن يتزوجها حمد فيما بعد هي من ضمن الأسر التي حملت اسم عائلة مكاوية، حتى تتدبر أمورها بيسر في المجتمع المهاجر إليه فضلاً على حصولها على الجنسية وما يترتيب عليها من منافع اجتماعية واقتصادية وهذه العوامل تقلل من الاحساس بالغربة مع المكاويين ويبدو أن هناك نفسية تتكون لدى المهاجرين في الوطن الغريب تجعلهم يتشبهون بالسكان المحليين في طريقة الكلام وفي الزي وأخذ عاداتهم في الأكل واللبس ومراسيم الزواج، كل هذا بغرض الاندغام في المجتمع المحلي، وحتى لا ينظر إليهم السكان المحليون بأنهم مختلفين عنهم، ولذا نرى حمد وهو من الشخصيات الرئيسة في الرواية يصف حالة ابن خاله سعيد وطريقة كلامه الذي يحاول فيها تقليد الكلام المكاوي إذ ((كان يقلد أهل مكة أثناء حديثه، أشاهده يمط مشافره ويعوج فمه، يحاول تقليد كلامهم وكنت أنظر إليه باستغراب وأضحك))ص57.

ومثلت شخصية حسن النموذج الصارخ إذ سعت الى أن تتجاوز حد التنكر لأصلها الحضرمي، وتذهب إلى مقت كل ماله صلة بحضرموت وفي الصفحات الآتية سنتناول هذه الشخصية . 2- الإصرار على التنكر للأصل الحضرمي مثلت شخصية حسن النموذج الصارخ المتنكر لأصله الحضرمي، فهي تعلن أن لا مكان لحضرموت في خارطة العالم، إذ صرخت في وجة سالمين بهذه الحقيقة واختارت اللهجة العامية وقالت (( أين هي حضرموت، خلوني أشوفها على خريطة العالم)) ص93، يعلق الراوي سالمين على هذا التنكر الجارح للحضارمة وحضرموت على النحو الآتي : فماذا يعني كلام الشيخ حسن ((خلوني أشوف حضرموت على الخريطة ))ص93 كلمات تنم عن الاستهتار والكبرياء والغرور وهو لا يعرف أو يتجاهل جهود جده ونضاله في جاوه، وكذلك والده عندما كان جمالاً بالإبل في حضرموت ....الشيخ حسن بدأ يعادي كل من له صلة بحضرموت، وخاصة بني جلدته الحضارم ويكن لهم كل السوء، ولا يرغب في مشاهدتهم في مجلسه)) ص94.

إن شخصية حسن الحاملة للجنسية الجديدة تحسب على الجيل الثالث فهو لم يعرف حضرموت، إذ أن كل حياته أمضاها في جدة، ويصر أن ينقي نفسه من الماضي البعيد والقريب الذي يربطه بحضرموت . إن هذه الشخصية التي تعيش حياتها بالطول والعرض مهووسة ومولعة بالشهرة وحب الظهور، فهي تحب أن تكون دائما في دائرة الضوء، وتدفع بسخاء لكل من يساهم في اشباع رغبتها الدائمة في الظهور . إن حياة حسن الجديدة لها بريقها ولمعانها وربما كانت الأجواء التي لا تخلو من المظهرية والتطلع إلى مزيد من الوجاهة والمكانة الاجتماعية هي التي أسهمت في خلق شخصية مثل حسن، فضلاً عن المال الفائض عن الحاجة الذي لم يتعب حسن في جمعه جعله يصرفه في مثل هذه المظهرية الزائفة. إن القارئ يشعر وهو يتابع الراوي سالمين بأن سالمين يروي بتحيز عن حسن وبسخرية منقطعة النظير ثم إن العلاقة بينهما مشحونة بالتوتر والكره الشديد فحسن وأمه سوسن يمثلان ذاكرة عارفة بحياة سالمين في أدق تفاصيلها، فسالمين كان عبداً من عبيدهم وهذا يستثير الذكريات الأليمة عن عبوديته في دوعن، ثم إن حسن يُذكر سالمين بهذه العبودية بل وصل به الأمر إلى أن ينتهك شرف سالمين بعضو اللسان لا بعضو الجنس إذ ناداه بالآتي (( يا واد يا واد يا سالمين يا مخنث ))ص96 ويبدو أن سالمين الذي يروي عن حسن انتقم منه بطريقته الخاصة، فهو يعرف أن حسن شخصية تعج بالعيوب وشهرتها زائفة مدفوعة الثمن ولم تصنع بالجهد والعرق حتى أم حسن هي الأخرى شملها العيب والعار إذ اشترت بمالها عشيقا يشبع رغبتها الجنسية . إن حسن الذي يقذف سالمين بالقول الفاحش، لايدري أن أمه ترتكب الفاحشة الحقيقة وهو شخص في غاية السوء في الرواية ويصل القارئ الى أن هذه الشخصية في نظر الراوي شخصية هشة مزيفة وعليه فإن كل ما يصدر عنها من قول لا يعتد به . إن الراوي سالمين يكره حسن إذ يقول (( لم تعجبني تصرفات الشيخ حسن وكنت أحمل له الكرة حيثما ذهبت فلم يصادف عمل خير فعله هذا الرجل، وزاد من كرهي له عندما نهرني ذات يوم )) ص94 وفي أثناء الحوار الذي جرى بين سالمين وزميله في العبودية مبروك، تتكشف شخصية حسن المليئة بالدعاوى الزائفة والفضائح . - مبروك : يقولون يا سالمين إن الشيخ حسن شاعر كبير ويغني له الفنانون الكبار - سالمين : هذا شاعر الغفلة ولولا الفلوس التي ورثها من سيدي حمد لم يكن شاعراً ولا نصف شاعر، فقط يلعب بالفلوس (يجيب) له شعراء يشعرون له وهو بدوره يكتبها باسمه وتأتي القصيدة جاهزة وملحنة باسمه ))ص94 واللافت أن شخصية حسن لم تمكنها الرواية من التعبير عن نفسها بصوتها الخاص، بل تركت للآخر أن يعبر عنها وبخاصة سالمين فضلا عن الراوي الذي يتدخل في حياة حسن ويعمق منطقة السوء في حياته إذ اتى الحديث السيء على لسان الراوي على النحو الآتي (( كان الشيخ حسن يتظاهر بالطيبة أمام الآخرين، ولكن أفعاله وخاصة المقربين منه يعرفون أنها لا تسر، فكان يتظاهر بالثقافة واهتمامه بالشعر، ولكن من يعرفه جيدا سيعرف بانه لاينتمي الى الثقافة بصلة، فقط يريد أن يشتري الناس بفلوسه، يتحكم في أحاسيسهم، يجعلهم يتنازلون عن قصائدهم وأفكارهم مقابل حفنة من الريالات ))ص95

إن حياة حسن حياة زائفة لا شيء فيها يمت بصلة وآخر ما فكرت فيه هذه الشخصية حتى ترفع درجة رصيدها في بنك الزيف هو أن تضيف الى صفاتها الكاذبة التي تضمنت صفة المشيخة والشاعرية صفة الكاتب الصحفي، إذ يقول عوض عن حسن موجهاً حديثه الى سالمين (( اسكت ياسالمين، الشيخ حسن يفكر أن يكتب في الجرائد وفكرة الجرائد دخلت دماغه، وقال لي ابحث عن كاتب أو كتاب يكتبون لي كل ما أريده ))ص95 إن الراوي الثاوي في صوته صوت المؤلف غالباً ما يعرف الصورة السيئة عن حسن وأمه سوسن التي رفضت أن تقدم قلبها وجسدها لسالمين ولو حتى بالحلال بل (( تحولت سوسن المكاوية إلى عاشقة وتحول ابنها حسن إلى كل جنسيات الإبداع من شاعر إلى كاتب الى أُديب، هي شهوة الحياة وعقدتها ومرضها التي تجعل الكثيرين يريدون أن يصبحوا شخصيات كبيرة ومعروفة وهم في الحقيقة لا شيء ... الشيخ حسن أخذ من طباع أمه المكاوية، ولا غرابة أنه لا يشبه أباه، ومن يشابه أمه فقد ظلم))ص99 إن الراوي الذي لا يحمل اسماً في الرواية يقرر حقائق بيولوجية على مستوى الطباع، تنتقل من الأم السيئة الى الأبن الذي ينقل إليه السوء، وكأن هذه الحقائق مقدرة لا مفر من حدوثها، والحقيقة أن ارادة الراوي هي التي قدرتها . إن شخصية حسن قدر لها في هذه الرواية أن ينال منها سالمين وعوض ومبروك، وتضامن معهم الراوي الذي لا يحمل اسماً يتوارى لكنه يظهر لينال من شخصية حسن وبحسب زعم الراوي عوض أن حسن فرض على كل من يعمل معه أن ينادوه بكل ألقاب الشهرة التي حازها بماله إذ قال لعوض (( ياعوض من اليوم ورايح قل لأصحابك ان لا ينادونني بالشيخ حسن، فالشيخ وحدها لا تليق بي فأنا شاعر وكاتب وعليهم أن يدعونني الأديب الشيخ حسن ))ص96 ولعل القارئ الذي يتطلع إلى معرفة شخصية حسن من الداخل ربما تمنى على الرواية أن تمنح حسن حق التعبير عن نفسه بصوته الخاص، لا صوت الراوي وربما يتيح ذلك التعبير التعمق في كشف من يتعاملون مع حسن وكيف يرضون أن يبيعوا نتاجاتهم بمقابل حفنة من الريالات، إن هؤلاء يشتركون مع حسن في الفساد، بما في ذلك الصحافة التي تنشر كتابات لا تنسب إلى أصحابها بل تنسب إلى حسن – لقد أضاعت الرواية على القارئ التعرف على هذا العالم المثخن بالفساد، وسوف تكتفي القراءة بهذا القدر من العرض عن حسن، وستنتقل إلى شخصية سالمين الذي تمسك بالهوية الحضرمية على الرغم من أن أصله غير حضرمي، ولم يكن باستطاعته أن يختار هوية أخرى غير الهوية الحضرمية، ولقد قدّر له أن يكون في وطن غير محسوب على حضرموت لاختار هوية هذا الوطن، ولعل هذا الذي جرى لسالمين على مستوى الهوية، يدفع القارئ إلى التساؤل والتشكيك في ذلك القول الذي يزعم أن مجموعة الانتماءات المكونة للهوية لجماعة معينة تظل ثابتة لا يمسها التغيير والتبدل . سالمين ومشكلة الهوية الممزقة : إن شخصية سالمين حملت في داخلها مشكلة الهوية، بوصفها مشكلة معقدة ومركبة وليست مسألة بسيطة، إذ إن مجموعة الانتماءات المكونة للهوية التي تشكل هوية الفرد لا تبقى على حالة ثابتة وتستمر الى الأبد بل تتغير هذه الانتماءات، وهذا ما أنطبق على العبد سالمين الذي تم شراؤه من سوق ( بضة في دوعن ) قبل أن يهاجر الى السعودية مع سيده ( حمد )، ويكشف السرد أن سالمين لا يعرف شيئا عن أصله ولامكان ميلاده، بل لا يعرف اسم أمه وأبيه فهويته صنعت له من أسياده، ومن المحسوب للقبائل الحضرمية أنها تمنح عبيدها اسم قبيلتها ولا ينطبق هذا الأمر على كل القبائل، بل على بعضها وقد لاحظ الرحالة الأجانب الذين طافوا بحضرموت المعاملة التي يعامل بها العبيد، فقد كان أطفال العبيد يلعبون مع اطفال الأسياد ولا يتحرج الأسياد من الجلوس مع العبيد، بل ويتحلقون معهم في مائدة طعام مشتركة، وقد ذكر الرحالة الهولندي ( فان دار مولين ) الذي زار حضرموت أكثر من مرة هذه الحقائق، ولكن هذه المشاهد التي سجلها الرحالة لا تعني الغاء الفوارق والتراتبية في المجتمع المحلي، بل إن ثقافة التمييز حاضرة بقوة وجاهزة للعمل في أي لحظة، فالعبيد لا يتصدرون المجالس ويسمون بأسماء خاصة بعيد عن محاكاة أسماء أسيادهم، ثم أن العبيد يمكن أن يباعوا في أي وقت، ولا يستطيع العبد أن يهرب لأن هناك تؤاطؤ بين القبائل على ضرورة عودة العبد الهارب إلى سيده، وهذا ما حدث لسالمين فقد تعرض للبيع عندما غضب عليه ( سيده ) في السوق نفسه الذي اشتراه منه . إن سالمين لا يعرف من أين أتى ؟ فماضيه مجهول، ورغم المعاملة اللاإنسانية التي عومل بها إلا أنه حسب نفسه من ضمن جغرافيا الحضارمة بل ويفتخر بالانتماء إليهم ولا يخجل من التصريح بهذا الانتماءعلى الرغم أنه في وضع يسمح له بالتبري من هذا الانتماء (( أنا لا أستحي من حضرميتي برغم أنني أسود وأرفع رأسي في جده عندما يسألونني من (فين ) أقول من حضرموت، لست كما البعض من أبناء المهجنين يقول لك بلا خجل ( يابويا أنا مش حضرمي أنا سعووووودي ))ص70 الطريف أن الرواية لم تجد من بين الشخصيات التي اختارتها سوى سالمين ليكون المدافع بقوة عن المدرسة الحضرمية في أرض المهجر، إذ وجه سالمين كلماته المشحونة بالدفاع عن الحضارمة إلى كل من تنكر لأصله الحضرمي إذ يقول لهم (( أنتم تنظرون للحياة بنظرة الرفاهية، بعدما كان أباؤكم وأجدادكم صبياناً في بيوت أهل الحجاز، وبعدما كانوا قماشين لا يغادرون محلاتهم، صبروا على الحياة وحققوا لكم مستقبلاً لا تحلمون به، وأنتم تريدون دفن الماضي ودفن أرض أجدادكم ومحوها من ذاكرتكم بهذه الأعمال الشنيعة تتنكرون من المجد الذي صنعه أجدادكم وأيضا تجهلون المدرسة الحضرمية التي أنجبت هؤلاء الأساتذة في الصبر والعمل بلا كلل ولا ملل كان أجدادكم أساتذة، والمدرسة كانت ومازالت هي حضرموت، وأنتم لن ولم تكونوا أساتذة مثل أجدادكم إلا عندما تلتحقون بالمدرسة الأم حضرموت ))ص71 ورغم هذا التفوه التمجيدي للحضارمة ومدرستهم، إلا أن شخصيته تحمل طبيعة متناقضة، ولأنها طبيعة بشرية فإنها لا تخلو من الشر، فهو على حبه الجارف للحضارمة، إلا أن هذا الحب ظل على مستوى الأقوال، ولم يذهب بحبه إلى مستوى الأفعال، فإذا كان الحضارمة المهاجرون الميسورون قد بنوا السدود والمساجد في حضرموت، فسالمين لم يمد يده ولو بسنتٍ واحد في أعمال الخير لافي حضرموت ولا في خارج حضرموت إذ (( تحول إلى تاجر يملك الملايين، وبدلاً من أن يفعل الخير وبناء السدود أو المساجد كما هي عادة البعض من أهل حضرموت، إلا أن سالمين أراد أن يسوق النساء كلما سنحت له الفرصة ))ص66 وسالمين يسوق النساء إلى فراش المتعة من أجل إشباغ رغباته الجنسية ولا يرضى بالمعاشرة من غير البيض من النساء حتى أصبح معروفا بين الحضارم بهذا الجموح نحو النساء البيض إذ يقدم لهن الأموال والهدايا وخاصة الجنس المعاكس للونه... يتفاخر باصطيادهن بسهولة. كان يستمتع بهذا التحول عندما يخلط الاسود بالابيض ))ص66 أن مشاعر سالمين في غاية الرقة فهو يتحسس ويتفاعل مع آلام الأخرين وبخاصة أولئك الذين يعتمدون في أكلهم على صناديق القمامة في جدة، لكنه لا يفعل شيئا مع هؤلاء سوى التعاطف حسب. ثم إن المشاعر الانسانية الفياضة التي يحملها سالمين تسمح بتأخير (( راتب العامل البنغالي الذي يعمل عنده )) فضلاً عن تصرف سالمين السلبي إزاء صديقه مبروك صديق عمره وشريكه في العبودية، فلم يفكر في تحسين حاله، أو مد يد العون إليه ولو بحفنه من مالِه الكثير . إن عواطف سالمين تجاه الأخرين لا تتجاوز حدود فمه وسالمين نفسه المحب للحضارمة استخدم نفوذه ضدهم، إذ كان يعرقل تسيير كفالتهم بحجة مناداة البعض له بالعبد، وسالمين نفسه أجبر الحضارمة على أن ينعتوه بالشيخ سالمين على الرغم من أنه يستنكر المشيخة على حسن، ثم إن نبرة الاستعلاء على الآخرين وجدت طريقها إلى قلب سالمين وعبر عنها بالآتي (( جعلتهم ينادونني بالشيخ سالمين، بدلاً من كلمة العبد، فكلمة العبد أرهقت أذني خلال سنوات طويلة، أصررت عليهم أن ينادونني بالشيخ سالمين ))ص79 إن هذه التغييرات التي حدثت لسالمين لم تخمد عنده الاحساس بثقل العبودية، إذ ظل هذا الإحساس يطارده وينغص عليه حياته والطريف أن هذا الإحساس لم يكن بالقوة نفسها قبل أن يغادر من دوعن إلى جدة، ففي جدة تنامى لديه الإحساس بالعبودية.

إن سالمين لم يتذوق بحق التناغم والتصالح مع هويته، فهو محسوب على الحضارمة، لكنه يبدو في حقيقة الأمر ليس منهم، لأن هذا الانتماء العرقي لم يرفع من داخله الإحساس بالعبودية . إن الثراء الفاحش الذي حققه ونيله على حريته في جده لم ينقله إلى عالم التحرر من العبودية إطلاقا، والحضارمة ظلوا ينالون منه ويتفوهون بعبوديته وعمقوا جرح الإحساس بها. إن هوية سالمين هوية مضطربة وممزقة فهو لم يتذوق طعم الانتماء للأسرة، ولا طعم الانتماء للمكان الذي استقر فيه . ففي دوعن كان عبداً، وفي جدة أصبح حراً، ولكن البشر لم يقروا له بالحرية بسبب لونه الأسود، اختزلت انسانيته في لونه الأسود، فالبشر في شوارع جدة ينظرون إليه بوصفه عبداً، وليس سالمين الذي أصبح ثرياً وحراً، والقادر على استباحه أجساد النساء البيض بماله ليحصل على المتعة البيضاء . إن اللون الأسود تحول إلى عقدة تضخمت في ذاكرة سالمين وحولتها إلى ذاكرة أليمة، ودفعته إلى أن يهجن نسله بقدر ما يستطيع حتى يمحي اللون الأسود من أحفاده، ويجنبهم لعنة السواد التي ظلت تلاحقه في شوارع جده، وأصبحت جده مكانا يشعل فتيل الألم في داخله وبتعبير سالمين لم يعد (( ذلك الحلم الذي انتظرته، أحلام تحققت في جدة، إلا حلم وجود أمي، وعدم منع الناس بمناداتي بالعبد، شكلي ولون بشرتي تجعل البعض يناديني بالعبد، سمعت أكثر من واحد يزاحمني في الطريق، ويريدني أن أبعد سيارتي من الطريق المزدحم وأنا أحاول الابتعاد منه، يقول لي انقلع يا عبد أو روح يا خول أو يا خال . كنت أظن أن كبر سني يمنع الناس من مناداتي يا عبد، ولن أسمع هذه الكلمة مرة أخرى ولكن العنصرية مازالت تحملها المدن العربية وقلوب البشر التي تسكن تلك المدن ))ص106 وعلى الرغم من أن هذا المنطوق محسوب على سالمين، والذي كشف عن الحمولة الثقيلة من الاحساس بالعبودية في مدينة جدة، إلا أن القارئ يشم رائحة المؤلف في هذا المنطوق – إذ أن وعي سالمين لا يمكن أن يصل إلى مستوى يدين فيه كل المدن العربية التي تمارس ثقافة العبودية . إن العبودية التي عاشها سالمين وتأذى منها جسدياً ونفسياً لم تعد تؤرقه في حياته الواقعية المباشرة بل اقتحمت أحلامه مرات عديدة إذ يقول: ((حلمت أكثر من مرة بمحمد سالم يجوب بي شوارع كبيرة ليست كمنطقة بضة في دوعن، مدينة كبيرة وهو يقول بصوت متقطع أكثر وحشية من قبل ( عبد للبيع، عبد للبيع، من يشتري ياناس ؟ هذا سالمين العبد للبيع بسعر مغرٍ) ص106 إن حلم العبودية الذي يراوده في المنام باستمرار يشعره بأنه على حافة العبودية، ومهدد بالسقوط في هاويتها البشعة، فيعرض للبيع في أي لحظة مثلما بيع في الماضي البائس وقدم المشتري في مقابل ثمنه ثوراً من الثيران . إن سالمين فقد الاحساس بالتباين بين الحلم والواقع بسبب تنامي الاحساس بالعبودية في أعماقه النفسية السحيقة . فلم يعد يدري أتحرر من العبودية، أم لم يزل عبداً أسوداً؟ إذ يقول (( أُحدّث نفسي في الحلم كيف أنني عبد وأنا تاجر في جدة، أنا سالمين يا ناس، أنا صاحب الفنادق الضخمة والمحلات الكبيرة في جدة ... ينقطع الحلم أستيقظ من نومي ))ص106 إن مرور نصف قرن على مرور تحرر سالمين من العبودية لم يغير من درجة الأحساس بالعبودية، بل تفاقم هذا الإحساس وأصبحت الحياة في نظرة شقية ومحيرة فيتساءل على هذا النحو (( لماذا الحلم يلاحقني يذكرني بالماضي بعد مرور أكثر من نصف قرن على محاولة بيعي .. يتكرر الحلم أكثر من مرة ( عبد للبيع، عبد للبيع ) وأنا أصيح في الحلم، أنا سالمين ياناس، أنا تاجر وأحفادي بيض هجنتهم وهم مش عبيد ( فكيف تحكمون علي بأني عبد ؟ خلاص بدفع لكم فلوس كم تبغون، أنا مش عبد، أنا رجل أعمال كبير في جدة أتركوني في سبيلي أريد أن أتحرر أريد أن أعيش، بكرامتي، لا تحركوا مشاعري أرجوكم يا محمد سالم، الله يخليك لا تبعني، أنا سالمين أنا تاجر، أفيق من نومي ))ص107 والرواية تعمدت أن تنهي سطورها الأخيرة باستمرار حلم العبودية الذي لا ينقطع في حياة سالمين فهذا الحلم يقتحم عالمه الذي يدوي فيه صوت (محمد سالم)، الذي أصر على بيعه في (سوق بضه) وأصبح يرى في الأصوات الصادرة من أفواه البشر في جدة، صوت محمد سالم نفسه ظل يلاحقه ليس في حضرموت حسب بل في شوارع جدة بصوت الاشخاص الذين ينادونني يا عبد)) إن هوية سالمين هوية ممزقة، إذ ظل الصراع بداخله يتصاعد ولم ينعم بالحرية التي قدمت له، لأن المحيط الاجتماعي قاوم هذه الحرية ونال منها ولعل هذا يفسر لنا لماذا تعاطف سالمين في الرواية مع سالمين الرئيس على الرغم من الطريقة الخجولة لهذا التعاطف والسبب تشابه اسمه مع اسم سالمين ( رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية قبل قيام الجمهوية اليمنية . إن ثقافة العبودية وهي صورة حادة من صورة التراتبية لا يمكن أن تزول بسهولة إذ إن هذ الثقافة ستظل مادامت أسبابها قائمة وبخاصة في مجتمعات لم تعرف المدنية بمعناها العميق ومجتمعنا من ضمن هذه المجتمعات، إذ أن الثورة التي حدثت في تاريخه لم تحدث انقلابا عميقا في بنية الثقافة وبددت طاقاتها في الصراعات واستهلكتها الشعارات الثورية التي عجزت عن إزالة هذه الثقافة التي ظلت ثاوية في عقول الناس، ولأنها ثاوية نشطت بعد قيام الجمهورية اليمينة بقوة، وسعت هذه الجمهورية في الرفع من شأن هذه الثقافة والترويج لها لأغراض سياسية ومنفعية وبدت قيادة هذه الجمهورية في الظاهر ناعمة ومتسامحة إلا أنها في الحقيقة متوحشة تريد أن تحول البشر إلى خدم وعبيد تفعل بهم ما تشاء . إن سالمين الذي سحقته هذه الثقافة وتأذى منها نفسياً لم يستطع مواجهة هذه الثقافة لأنها أكبر منه وأقوى منه ولأنها ثقافة متجذرة في المجتمع والخلاص منها لا يمكن أن يكون فردياً بحسب منطق سالمين الساذج بل إن الخلاص لا يمكن أن يتحقق إلا بانقلاب في البنية الاقتصادية والاجتماعية ويكون الفعل اجتماعياً شمولياً، فضلاً عن ضرورة قيام مؤسسات مدنية فاعلة وحقيقية وليست مؤسسات مدنية أجيرة للنظام، ولرغبات شخصية ومذهبية، وفوق هذا كله يجب أن تكون هناك مؤسسات حقوقية وقانونية تمتلك الصلاحيات النافذة من أجل حماية ثقافة الحريات والكف عن انتاج ثقافة العبودية والترويج لها، وعلى كل من يتوق ويتطلع الى الحرية ومعهم سالمين أن ينتظروا طويلاً حتى تتحقق هذه الشروط التي ستسُهم في زحزحة هذه الثقافة الاستبدادية، ثم إن إزالة هذه الثقافة مسألة ليست هينة، ولا علاقة لها بالرغبات الشخصية، ومن ضمنها رغبة سالمين الذي يحمل وعياً بسيطاً وساذجاً. إن مشكلة سالمين وأشباهه ستظل مشكلة قائمة وسالمين عندما أعتقد أن المال سوف يضمن له الحرية والكف عن مناداة الناس له بالعبد كان يتوهم، إذ أن ثقافة العبودية عميقة في الزمن، وليست وليدة لحظة عابرة، إنها بنية متكاملة من القيم والأمثال والمأثورات الشعبية المسنودة بمرجعيات اجتماعية ومذهبية، ثم إن المجتمع المحلي يستحلى هذه الثقافة ولا يتردد في استخدامها على مستوى الوعي الشعبي في حين أن الثقافة المناهضة مازالت ضعيفة وتحتاج الى زمن حتى يتصلب عودها وتقوى . إن سالمين تملكه اليأس من البحث عن أصله الصغير إذ لا يعرف له أماً و لا أباً ( أي والله ) لم يتذوق سالمين حنان الأسرة وحنان الأم والأب إنه أول انتماء في الهوية، ولا يستهان بتأثير هذا في الانتماء على الانتماءات اللاحقة وعبر سالمين عن هذا الحرمان من هذا الانتماء الآتي (( أيقنت أن البحث سيطول عن أمي، وربما لن أجدها، ولن أعرف اسمها، ولا حتى ملامحها ولا مصيرها ولا أرضها، ربما جلبتي أيادي الشر من أفريقيا إلى حضرموت وربما أتيت من السماء على أجنحة أحد الملائكة، واستعبدتني أيادي البشر وحولتي إلى عبد أسود حقير، بعدما كنت ملاكاً في نظر الكثيرين ممن يعرفوني، لا أذكر شيئا من هذا القبيل أذكر أني حضرمي وعشت في حضرموت وعشقتها رغم بيعي فيها))ص104 وسوف تكتفي القراءة بهذا القدر عن مشكلة الهوية عند سالمين، وستنتقل منها إلى قضية تمس الانتماء وهي قضية تفضيل الجنوبيين ومنهم الحضارمة حمل الجواز المحسوب على الجمهورية العربية اليمنية على الجواز الجنوبي المحسوب على جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية . تفضيل المواطن الجنوبي حمل الجواز الشمالي : من المستحيل اختزال الهوية أو الوطنية في مجموعة أوراق رسمية تسمى الجواز، ولاعتبارات سياسية يضطر مواطن أن لا يحمل جواز وطنه ويحمل جواز وطن آخر؛ وهذا ما حصل للجنوبيين والحضارمة من ضمنهم ولا يعني ذلك سقوط الوطنية عن هؤلاء الذين دفعتهم الحاجة الاقتصادية إلى أن يحملوا الجواز الشمالي حتى يستطيعوا أن يدخلوا الى أراضي المملكة العربية السعودية بطريقة رسمية، وهكذا يرى المتأمل في التاريخ أن حياة الأفراد والمجتمعات والدول لا تمضي بطريقة واحدة وبحسب ماهو متعارف عليه بل إن المكايدات السياسية تؤثر في العلاقة بين الدول وعلى الأفراد وعلى التاريخ السياسي بين الدول لا تخلو من التناقض والمفارقات، والمتأمل في تاريخ العلاقات السياسية بين الدول يلمس هذا التناقض بوضوح وحركة تام، ولاعتبارات سياسية وأيديولوجية كانت المملكة العربية السعودية تقيم وزنا لحامل جواز الجمهورية العربية اليمنية وتمنح حامله امتيازات لا يحصل عليها حامل الجواز الجنوبي المحسوب على جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والرواية أتت على سبب التفضيل لمسألة حاملي الجوازات الشمالية بحسب نقل الراوي سالمين لرواية سيده حمد اذ يقول (( أحمد ربك، إنك أفضل من غيرك في جدة طالع في الحضارم كل واحد عنده إقامة وكفيل، أما أنت جبنا لك جنسية ( وخليناك ) أدمي تمشي رافع راسك، ( شوف أبناء الشمال يمشون في هذه الارض دون كفيل وبدون إقامة، لأن حكومتهم فيها خير، ليست مثل حكومة الجنوب الملحدة، هذا جزاء من يتبع حكومة لا تتبع دستور القرآن )ص77 إن هذه المعاملة المفضلة لأبناء الشمال جعلت أبناء الجنوب يتطلعون للحصول على الجواز الشمالي – إذ كانوا (( قبل ذهابهم إلى السعودية يحاولون أن يحصلوا على جوازات شمالية، لكي يعاملوا مثل أبناء الجمهورية العربية اليمنية، والبعض منهم يتم كشفهم في مطار جدة، ويعرفون أنهم جنوبيون فيتم ارجاعهم إلى وطنهم )) ثم إن السفر إلى السعودية كان حافزاً للشباب والحضارمة من ضمنهم، من أجل تحسين حياتهم وتحقيق أحلامهم التي تتبدد في وطنهم الأم حضرموت، وبحسب زعم الراوي الذي يتماهى مع المؤلف كان يرى أن (( الوصول إلى السعودية يعني تحقيق حلم التجارة والغناء بسرعة، الوجوه تتدفق إلى السعودية ... فالجيل الذي أعقبنا وخاصة بعد حكومة الجنوب كانت هجرته بسبب قلة العمل، والدولة أممت البيوت، والأشخاص الموظفين عند الدولة أجورهم زهيدة، وبسبب آخر هو الخدمة العسكرية التي ينفر منها بعض الشباب ولا يريدون تأديتها فيضطرون إلى الهجرة، أما بجواز شمالي أو عن طريق التهريب، وفيما بعد تصرف لهم إقامات ))78 إن مرحلة السبعينيات وما بعدها شهدت الحياة في الجنوب اندفاع الشباب إلى الهجرة لأن الأوضاع كانت تتردى، ولا تشجع على البقاء في الوطن الأم، ولم تستطع حكومة الثورة أن تقنع الشباب بالبقاء، ولم تنفع شعاراتها الحماسية الواعدة بمستقبل الاشتراكية الباهر أن تثنيهم عن الهجرة بوصفها البديل الممكن للخروج من هذه المآزق . إن مسألة الهجرة في ذلك الزمن الثوري لم تكن مسألة هينة، فحكومة الثورة حرّمت من السفر، واضطر الشباب التواق للهجرة إلى وسيلة الهروب وبتواطؤ مع جماعات التهريب التي وجدت في هذه المهنة مكاسب مغرية، وحتى الوصول إلى الجمهورية العربية اليمنية لم يكن هيناً إذ يعد الوصول مغامرة لا تخلو من المخاطر، وتحمل الشباب ومن ضمنهم الحضارمة هذه المخاطر من أجل الفوز بالجواز الشمالي الذي يمنح صاحبه مزايا يفتقدها حامل الجواز الجنوبي، ولعل القارئ الحصيف يمكن أن يدرك الآن أن عناصر الهوية التي يحملها الانسان لا تصنع مرة واحدة وإلى الأبد فالسياق التاريخي بما يعتمل فيه من حركة سياسية واجتماعية، وحركة مصالح الدول يؤثر على الانتماءات الممثلة للهوية، إذ ليس هناك من حرج على هؤلاء الشباب الذين حملوا الجواز الشمالي من أجل تخطي الحاجة الاقتصادية وتحسين حياتهم المعيشية، ولا يعني ذلك أن نظام الجمهورية العربية اليمنية كان يمنح جوازات السفر مجاناً وأن الأمور تمضي بأريحية وفي الحقيقة أن الأمور لم تكن كذلك، إذ أن بعض الجنوبيين يتم التدقيق معهم وابتزازهم مالياً، بل ويطلب من البعض منهم أن يجند أميناً، فالمسألة لا تخلو من مضايقات نفسية وأمنية ولا علاقة لهذه المسألة بحقوق الإنسان، ولا تعطى الجوازات من أجل خاطر العروبة والإسلام، بل نكاية بالنظام الجنوبي، ولا يعني ذلك أن النظام بالمقابل في الجنوب كان يتصرف تصرفاً بريئاً في مسألة صرف الجوازات، بل إن هذا النظام قد صرف جوازات لأفراد محسوبين على فصيل دون آخر، تحت عنوان تقدمية هذا الفصيل ورجعية الفصيل الآخر على الرغم أن كلا الفصيلين محسوب على منظمة التحرير الفلسطينية . إن المرء لا تمضي حياته في بعض الأحيان في خط ثابت لا يتغير في مسألة الانتماءات، بل يحدث تغير في الانتماء بصورة معينة أو بأخرى، وهذا ما حدث للحضارمة عندما هاجروا إلى خارج وطنهم مثلما سردته لنا رواية سالمين *أستاذ جامعي بجامعة حضرموت

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم