منذ عدة أيام والمواقع الإعلامية والأدبية تتهافت على الإشادة برواية سيدات القمر للكاتبة العمانية جوخة الحارثي لفوزها بجائزة مان بوكر العالمية من بين ستة أعمال أخرى وكأن الرواية لم تكن صادرة قبل تسع سنوات، أو كأن معرفتنا بإبداعنا العربي مرهون بفوزه بالجوائز، وتركّز التعريف بالرواية على أنها عمل مبدع يتناول حياة المجتمع العُماني وتحولاته من خلال ثلاث فتيات ولكن الحقيقة أنّ الرواية أعمق بكثير من هذا.

سيدات القمر رواية تحلق بالقارئ منطلقة من مكونات اجتماعية تاريخية راسخة، لترصد اثر هذه والمكونات في صراعات أجيال متتالية

فالرواية تتخذ من المكون الاجتماعي موضوعاً لها، من خلال سكان بلدة تسمى "العوافي"، في عُمان في حقبة تمتد من بداية القرن العشرين وحتى نهايته، فتصورهم بدءاً من تفاصيل ذاكرتهم بحقائقها وأساطيرها، وطبقاتهم من سادة وتجار وفقراءَ وعبيد، والعلاقات التي بينها، كما تتغلغل في تفاصيل حياتهم اليومية من مأكل ومشرب وملبس، وعلاقات أسرية، وعادات وأعراف، ومراسم أفراح وأتراح وما يحكمها من آداب اجتماعية ومعتقدات دينية وخرافية.

ومن هذا تكون الرواية خير شاهد على ما ذهب إليه منظرو المذهب التاريخي والاجتماعي (لوسيان كولدمان وجورج لوكاتش ومدام دوستال) في رؤيتهم للنص الأدبي بأنه انعكاس لحالة المجتمع، وعاداته وتقاليده وبنياته العقلية التي تُشكُّل بنيةَ وعي جَمعي ينتمي إليه الكاتب، ويُجسّده في عالم تخييليّ، وبهذا يكون المبدع الحقيقي لسيدات القمر هو المجتمع العُمَاني، وبطل الروايةِ ليس ثلاث فتيات كما رُوّج لها، بعد فوزها بالجائزة، بل هو ذات المجتمع الذي تستنطقه الرواية على لسان أكثرَ من أربعين شخصية قلّما يمكن الاستغناء عن واحدة منها؛ لأنها تتداخل وتترابط وتتكامل لتقديم صورة تلك الحياة التي تبدو مائجة من خلال صراع وتداخل أجياله وطبقاته،

ويمكن تلخيصها فيما يأتي:

طبقة العبيد: وهم غرباء اقتنصوا من بلدانهم البعيدة وتداولتهم أسواق الرقيق إلى أن استقروا في بلدة العوافي وأصبحوا جزءاً من نسيجها الاجتماعي، لا يُستغنى عنه، ومرجعاً استقت منه الرواية ثقافة ذلك المجتمع وذهنيته، وخاصة من خلال شخصية العبدة ظريفة.

ومن أقدمهم جدُّ ظريفة سنجور الذي لم يكن يكمل العشرين من عمره في قريته الإفريقية حين وقع في شباك صيد العبيد وشحن على مركب فيه 277 عبداً إلى زنجبار وخلال ثلاثة أيام دون طعام أو شراب مات منهم 66 عبداً، وبيع لأحد شيوخ العوافي وتزوج إحدى إمائه ثم مات مسلولاً في الأربعين، وقد خلف بنتين ماتتا بالسل، وصبياً تزوج وأنجب صبياناً وبنتاً، واحدة لُقّبتْ عنكبوته، نشأت وحيدة في بيت الشيخ سعيد بعد أن بيع أخوتها، ثم زُوّجت وأنجبت ظريفة التي اشتراها التاجر سلمان، وبعد أن ملّها زوجها لحبيب.

وحبيب عبد متمرد، سُرق من طفولته في مكران مع أمه وأخوته الأطفال الأربعة الذين ضيعتهم قوارب تجار الرقيق، وأصبح من عبيد التاجر سليمان.

ومسعودة زوجة زيد؛ عبدة أخرى قضت عمرها محنيةً في جمع الحطب لمواقد الشيوخ إلى أن تقوس ظهرُها وفقدت عقلها، فسُجنت في غرفة مربوطةً إلى عمود.

ومن خلال قصص هؤلاء العبيد نرى أن الرواية تصور أكثر من بعد لأعماق مأساة الرقيق ومنها تشريدهم من بلادهم، وتفريقهم حتى الرضيع عن صدر أمه. وتحويلهم إلى أدوات مطلوب منها القيام بكل الأعباء داخل البيت وخارجه والانصياع لرغبات السادة، وأولادهم حتى الجنسيّة. وهم مسلوبون حتى من حق اختيار أسمائهم أو أزواجهم ممنوعون من الإحساس والمشاعر، فعنكبوتة يزوجها سيّدها لرجل لم تكن لتتقبله، ولم يكن يتمكّن منها إلا مقيّدة، ومحظوظة وهي الأكثر حظاً أذ أصبحت للتاجر سليمان عبدةً وسريةً وحبيبةً يأتيها متى شاء، لكنه حين غضب منها مرة عاقبها بالزواج من عبده الشقي حبيب، فأنجبت منه ولدها سنجر الذي كان أكثرَ إشقاءً لها من أبيه، وقد تركها الاثنان وهربا.

كما نكتشف جانباً إنسانياً في تلك الطبقة وخاصة من خلال شخصية ظريفة التي كانت أماً لعبد لله بعد أمه التي ماتت إثر ولادته، وكان صدرها الملاذ الذي غمره بالحنان والرعاية.. إضافة إلى أنها كانت تمثل ذاكرة لكل موروث ذلك المجتمع من أمثال وحكايات، ووصفات سحرية وطبيّة شعبيّة، ومُشارِكاً أساسياً في كافة طقوسه من أعراس ومآتم وولادات، وهي التي رفضت التخلي عن عبوديتها إكراماً لسادتها واتهمت ابنها بالعقوق لمن أنعم عليه حين رحل، وهي ترى وجودَها معهم إحسانا منهم إليها، ولذلك رفضت السفر مع زوجها ومن بعده مع ابنها الذي هاجر إلى الكويت وكنتها (الافعى) كما تسميها، فظريفة وغيرها كثر من النوع الذي أدمن عبوديته واستلذّها.

الشّيوخ والتجار السادة:

وفي مرآة هذه الطبقة ينعكس جانباً من وجه السادة المتجبرين، ولا تكتفي به الرواية بل تقدمهم أيضاً من خلال علاقتهم فيما بينهم، وتنازعهم على السيادة، واختلاف ولاءاتهم ما بين الإنكليز والسلطان والأئمة، وقسوتهم أحيانا حتى على ذويهم، فبعد موت الشيخ مسعود ترك في عهدة أخيه الشيخ الجديد سعيد ولده معاذ وابنته سالمة، أما معاذ فقد أجبرته خشونةُ عمّه على الهروب والالتحاق بمجاهدي الجبل الأخضر الذين يواجهون الإنكليز بقيادة الإمام هانئ الغالبي، ومات هناك، ورفض عمه التعزية فيه، وأما سالمة فقد حرمها من أمها بحجة أنه لا يقبل أن تعيش ابنتهم في بيت خالها الذي لجأت إليه الأم الأرملة، وأجبرها على الإقامة تحت رحمة زوجته لتتذوق إضافةً إلى اليُتم الذلَّ والجوع، ولتحسد صبيان العبيد على حريتهم في اللعب أينما ومتى يشاؤون، وبعد أن سمح لها أن تلحق بأمها أرسل لها عريساً، وحين رفضته أرسل رجاله ليأتوا بها عُنوة إلى بيت زوجها الذي اختاره لها، وهو عزان الذي أنجبت منه بناتها الثلاث ميا وأسماء وخولة. وأحمد الذي مات طفلاً لأن عمّها لم يسمح لهم بنقله في سيارته الوحيدة بالبلدة إلى الطبيب البعيد.

كما تعرضت الرواية إلى مصادر الثراء غير المشروع أحياناً لتلك الطبقة،

فسليمان هو ابن التاجر هلال الذي تحول بعد تراجع تجارة التمور إلى تجارة السلاح، مستفيداً من قرار منع تصدير العمانيين للأسلحة إلى ميناء جوادر، فعمل مع رفاقه على تهريب السلاح الذي كان مطلوبا للقبائل البلوشية والأفغانية في حروبهم، وفي 1908 كان قد اصبح ثرياً .. فاصهر إلى شيخ من العوافي وأنجب ابنه سليمان الذي عاد إلى تجارة التمور ظاهراً، لكن ثراءه الحقيقي من تجارة الرقيق الممنوعة دولياً.

المتأرجحون:   

وتلي طبقة الشيوخ والتجار المتجبرة والمتعصبة لماضيها طبقة وسيطة تتأرجح بينهم وبين الجيل الجديد، فهي ليست منعتقة تماماً ولا متقمصة من سبقها كلياً، ومنهم ميا التي قبلت بصمتٍ زواجَها، رغم أنها كانت تنتظر حبيباً غائباً في لندن ولأجله أسمت ابنتها لندن، وهي ذاتُها حين علمت أن لندن تكلم شاباً في الموبايل كسرته لها، وكذلك جدتها سالمة التي زوجت قسراً من عزّان تتهددها بالذبح إن تزوجته، أما عزان المغرم بالشعر والقراءة فكان أقلَّ حدّة، وأكثرَ مرونةً مع بناته، فقد وافق ابنته خولة على عدم قبولها ابن المهاجر عريساً لأنها تنتظر ابن عمها، ولكنه كان مُتأرجِحاً بين حياته العائلية وعشيقته البدوية نجيّة  التي قدمت نفسها له دون قيد أو شرط يكبلها به فكانت مساحة انعتاق روحه.

ومن هذا الجيل أسماء التي قبلت الزواج من ابن المهاجر ليس حباً به بل لرغبتها في الأمومة والإنجاب، وعبد الله الذي تزوج أختَها ميا، كان محباً للدراسة لا للتجارة التي يهيئه لها أبوه لكنّه ورثها مرغماً ثم نراه يكرّر شخصيّة أبيه، فيرفع يده ليضرب ولده سالم عقوبةً على تأخره عن البيت كما فعل أبوه معه من قبل.

المُتمرّدون:

أما الجيل الجديد فيبدأ بتمرد بعض العبيد الذين تسلحوا بقانون منع الرق وغادروا العوافي كحبيب وسنجر وزجته، ومنه خولة التي رفضت ابن المهاجر، وأبناء الفقراء كزايد ابن منين المسكين الذي أصبح ضابطاً ولم يجد من يحترمه في بلدته، فغادرها ولم يعد، وخالد الرسام الذي تمرد على آراء أبيه الثورية ورأى وجوده وحريته في عالم الرسم.

وأخيراً في شخصية لندن ابنة ميا التي فسخت عقد زواجها قبل أن يدخل بها، وقبلت أن تكون مُطلّقة.

ومن خلال الشخصيات السابقة تصل الرواية إلى التصريح عن جيل بدأ قطيعة مع أحلام سابقيه به.

الواقعية السحرية:

وعلى الرغم من عدم وجود حدث محوري واحد ينظم الرواية أو بطل فردي يتابع القارئ مغامرته إلا أن أجواء الواقعية السحرية في النص كفيلة بالإمساك بالقارئ من أول الرواية حتى آخرها.

فهي تمزج الواقعي بالأسطوري بالسريالي.

فالواقعي يظهر من خلال تلك العلاقات وما تتضمنه من عادات وأعراف ومراسم أما الأسطوري فيتجلى في الحكايات والاساطير التي تعشش في تلك الأعراف والعادات من جن يتحكمون بمصير البشر، وتظهر السريالية من خلال تداعيات السرد، والتذكر الذي تظهر فيه صور منتزعة من العقل الباطن والأحلام للرواة وهم يسترجعون ذكرياتهم أو يعيشون انتكاساتهم

وأخيراً: إذا كانت إيزابيل ليندي وغابريل غارسيا ماركز قد وصلوا إلى نوبل من خلال مقدرتهم على التغلغل في محليتهم ونقلهم لذاكرة وواقع أمريكا الجنوبية وخفايا حكايات كهوف جبال الإنديز المعششة في ذاكرة سكانها وتحولاتهم فان هذا العمل لا يقل أهمية عنهم.

 

وخلاصة القول: رواية سيدات القمر بطلُها ليس فرداً، بل هو مجتمعٌ يضيقُ بما فيه من موروثٍ وقيود تطمسُ حقيقتَه، ويتململُ بإلحاح للتّخلص منها وجعلها، من الماضي الذي لا يسكنه أو يسيّره.

وعلى الرغم من عدم وجود حَدثٍ مِحوري واحد ينظم الرواية، أو بروز بطل فردي يمسك بحكايته القارئَ، إلا أنّ أجواءَ الواقعيّة السحريّة واللغة الشعريّة الموحية في الرواية كانت أصابعَ فنية ساحرةٍ قادرة على الإمساك بالقارئ من أول الرواية حتى آخرها.

 

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم