خلال قرون من تاريخ الرواية و فن القص عموما، برزت الروايات المكتوبة على طريقة الرسائل ( (Epistolary Novelفي كثير من المحطات، حتى أنها مثلت في أوقات معينة موضة أدبية دارجة بين كتّاب الرواية في حقبات زمنية معينة. وإنه من الواجب التنويه أوّلا أننا نخص بالحديث هنا الأعمال السردية المتخيّلة (Fiction) التي يختار فيها الكاتب أن يورد أفكار وأقواله وأحداث الحكاية على لسان شخصياته، حيث تقوم بكتابته في شكل رسائل بريد تتبادلها فيما بينها، مما يمكّنه، أي الكاتب، من الانسحاب كلّيا أو جزئيا من القيام بدور الراوي المُبئِر أو العليم كما جرى عليه الاصطلاح. فلا يذهبنّ الضن بالقارئ أننا بصدد الحديث عما يعرف بأدب الرسائل، أي تلك المراسلات التي اشتهر أنها دارت بين أعلام و مشاهير الأدب و الفن و الساسة، مثل مراسلات كافكا و ميلينا، و ألبير كامو و ماريا كاساريس، أو رسائل فرناندو بيسوا إلى عائلته، أو غسان كنفاني و غادة السمان، و غيرها، و التي قام الناس بتجميعها بعد وفاة هؤلاء المشاهير لتصبح بذلك جنسا أدبيا مقروءا على نطاق واسع.

فالحديث سيكون إذن عن الروايات التي كُتبت بأسلوب سلسلة المحاورات التراسلية، و التي لا يكاد يحظر فيها الراوي إلا لماما من أجل التوجيه أو التوضيح أو التنويه. و نستحضر في هذا الصدد التعريف المبسط للشاعر و الناقد الأمريكي روبرت آدم داي: "يمكن أن يُعتبر رواية رسائلية كل نصّ نثري، طويل أو قصير، متخيّل بصفة كليّة كانت أم جزئية، حيث يتم استخدام رسائل متخيّلة أو غير مخيّلة، حيث تساهم هذه الرسائل في التمشي السردي للرواية و تلعب دورا هامّا في وقوع الأحداث ."

1ـ تقاليد الرواية الرسائلية

إن هذا النوع من الروايات عريق وذو تقاليد راسخة تعود بدايتها إلى حقبة مهد الرواية نفسها، و حتى إلى تاريخ ما قبل الرواية الحديثة في شكلها الحالي، و يعتبرها البعض امتدادا لمخطوطات الميسكيليانى التي كانت معتمدة في فترة ما قبل القرن الثامن عشر، وهي عبارة عن مجموعات من أوراق الشعر والرسائل والنثر والنصوص القانونية وغيرها من الوثائق، التي كانت ذات صبغة نخبوية و تتداول بين زمرة من القوم ولا تسعى إلى الانتشار أو كسب الشهرة.

و إذ تحسب أول رواية أوروبية حديثة على الأدب الاسباني، و نعني هنا رواية دون كيشوته لدي سيرفانتس، فإن أول الروايات التي كتبت في شكل رسائل جاءت كذلك من اسبانيا قبلها بعدة قرون، و هي "سجن الحب" Càrcel De Amor سنة 1485 لكاتب يدعى "دييغو دي سان بيدرو"، بينما جاءت أول روايات هذا الجنس باللغة الانجليزية متأخرة بحوالي قرنين من الزمن، تحديدا سنة 1645 بقلم جيمس هويل حين كتب و هو في السجن عمله "رسائل حميمة" Familliar Letters.

من بين الروايات الرسائلية التي ذاع صيتها أيضا نذكر ثلاثية صاموئيل ريتشاردسون : باميلا و كلاريسا و تاريخ السير غرانديسون، و هي روايات أثارت جدلا كبيرا في الأوساط الأدبية حتى أن الكنيسة صنفتها من الكتب المحرمة على الكاثوليكيين قراءتها.

نذكر كذلك رواية "العلاقات الخطرة" Les Liaisons dangereuses الشهيرة للكاتب الفرنسي دي لاكلوس. و من ألمانيا كتب لنا الأديب الخالد جوهان خوته رائعته آلام فيرتير سنة 1774.

ثم مع الزمن استطاع هذا النوع من الروايات أن يحافظ على جدته وطرافته، حيث نجح من كتبوه في مواكبة تطور مواضيع الرواية و تقنياتها فكتب لنا العديد من الروائيين اللامعين أعمالا تستحق الثناء لعل من أبرزها رواية دوستويفسكي الأولى "المساكين" 1946 التي تتكون من مجموعة رسائل بين شخصيتين ترزحان تحت وطأة الفقر و الخصاصة و تعانيان الأمرّين في علاقتهما بالمجتمع و بالطبقة الأرستقراطية في روسيا ما قبل الثورة، و قد اعتبرها النقاد الذين عاصروها أول رواية اجتماعية.

ثم تواصل عطاء الرواية الرسائلية بأقلام العديد من أيقونات الأدب العالمي أمثال فرجينيا وولف و ستيفن كينغ و حتى كارلوس فوينتس.

2 ـ ما لا يمكن سوى للرسائل قوله

في حديثه عن "العلاقات الخطرة" لدو لاكلوس يقول الروائي و المؤرخ الأدبي ميلان كونديرا الآتي : " الطريقة التي كتبت بها العلاقات الخطرة في شكل سلسلة مراسلات، ليست محض طريقة تقنية يمكن استبدالها بأخرى بسهولة. الشكل هنا إذن هو ناطق عن نفسه، و يخبرنا أن كل ما تعيشه الشخصيات، إنما تعيشه من أجل أن تتحدث عنه و تنقله و تعترف به وتكتبه. في عالم كهذا، حيث يقال كل شيء، يصبح السلاح الأكثر توفرا في المتناول والأكثر فتكا هو الإفصاح."

هذا الرأي إن دل على شيء فهو يدل على أن الرواية الرسائلي (الجيّدة) يجب أن يكون تنزّلها في هذا الثوب (أي مجموعة من الرسائل أو الوثائق) خيارا أساسيا نابعا من روح الرواية و صلب الحكاية، لا أن يتم اختياره بصفة مسقطة قسرا (Parachuté) كشكل من أشكال الألعاب التجريبية التي و إن بدت لكاتبها لا تخلو من عبقرية، إلا أنها لا تصل للقارئ عادة بالصفة المقنعة التي يتصوّرها (أو يتوهّمها).

من المعروف عن الرسائل، حتى بمعزل عن الأدب، أنها فضاء لمن يكتبها (سواء كان ينوي المضيّ في خطوات الإرسال حتى تكون رسالته بين يدي المتلقي، أو أنه سيقطع هذا الخط و يبتر عملية التواصل تلك ) يضع فيه المرسل على الورق أكثر الأفكار صدقا و أشد العواطف حميميّة و يروي فيها أكثر المواقف و الأحاسيس إحراجا، حتى أنها تكون في أغلب الأحيان غير قابلة للبوح وجها لوجه دون هذه الواسطة السحرية، التي من شأنها أن تكسر كل أنواع الإحراج و التكلف و العنجهية و عزة النفس و الحياء و غيرها من معيقات التواصل البشري.

إذن فالاستنجاد بهذا الجنس الروائي يكون في غالبه كتلبية لما يمكن أن نعتبره تخمة وكبتا تعبيريا تعاني منه الشخصيات المعنيّة، وهي تروم بذلك أن تطلق العنان لنفوسها الحبلى بالأحاسيس الفياضة والاعترافات الحارقة وغيرها من الأمور التي يصعب عليها التعبير عنها في حضرة المتلقي سواء كان حبيبا أو قريبا أو حتى عدوا.

من مازال يكتب الرسائل؟

لعل أول سؤال سيتبادر إلى ذهن أحدنا في أيامنا هذه لو أنه فتح صندوق بريده ليجد ظرفا يحتوي رسالة من شخص ما، بخلاف فواتير الاستهلاك و إشعارات الخلاص وكاتالوغات الدعاية هو: "من هذا الأبله الذي ما يزال يكتب الرسائل في أيامنا هذه"؟

إن الاندثار شبه الكلّي للرسالة بمفهومها الكلاسيكي و تقلّص عدد المهتمّين بكتابتها، إضافة إلى انتفاء ذلك الألق الرومانسي الذي كانت تتمتّع به كتابتها و لذة انتظار وفودها، لصالح غيرها من وسائل الاتصال الحديثة، الأكثر سرعة وبراغماتية إنما ينعكس بطريقة مباشرة على حضور هذه الوسيلة التواصلية التعبيرية في النص الأدبي، فإن كان المتلقي في عهد الدولة العباسية قادرا على قراءة رسالة الغفران للمعرّي المتكوّنة من مجلّدات، فإنه في عهد الإرساليات القصيرة و الماسنجر و الواتساب، و بتقلّص القدرة على البقاء في حالة تركيز أو ما يعرف عند علماء النفس بال Attention span ، فإن من ينوي كتابة رواية رسائلية في أيامنا هذه سيجد نفسه حتما أمام خيارين لا ثالث لهما:

إما أن يأخذ هذا الأسلوب و يعود به إلى عصور خلت كان فيها للرسالة ما أسلفنا ذكره من أهمية و سحر و دور تواصلي كبير، فيخلق بذلك عوالم متخيّلة أو سيريّة تحتمل أن ترد في شكل رسائل تقليدية، مثل ما ذهب إليه على سبيل المثال الروائي واسيني الأعرج في أحد أعماله الأخيرة "مي ـ ليالي إيزيس كوبيا" حيث عمل على تقصّي أثر مخطوطات و رسائل و مذكرات ضائعة للأديبة اللبنانية تسرد مي زيادة تسرد فيها تفاصيل مثيرة عن حياتها و علاقاتها و عن ولعها بالأدب و عن معناتها بين جدران المصحة العقلية التي زجت داخلها قسرا، أو أن يقوم الروائي بتحديث مفهوم الرسالة و نفخ روح العصر فيها حتى تتمكن إذا أقحِمت في غمار المخاض الروائي من التعبير بشكل صادق عن الهم الذي تسعى الشخوص إلى إيصاله و القضايا التي تروم البوح بها، و هو ما نجح فيه على سبيل المثال الروائي التونسي شفيق الطارقي في عمله "باربرا" الصادرة سنة 2018، حيث تحتوي الرواية على فصول هي عبارة عن إرساليات، أو محادثات فايسبوكية بين الشخصيات، و إن لم يكن الطارقي أول من خطرت له هذه الفكرة، إلا أنه برع إلى حد كبير في تجاوز مخاطر أن يسقط عمله في الابتذال و السطحية و الابتعاد عن مجال الأدب الجاد والمقنع، وذلك من خلال لغة متمكنة و قصة متينة و أساليب أخرى أصيلة يطول الكلام عنها في هذا العمل الفريد.

بريد الليل: رواية على مقاس البوكر؟

عن دار الآداب اللبنانية صدرت رواية بريد الليل للكاتبة هدى بركات سنة 2018 لتصل إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "بوكر" لسنة 2019.

اعتمدت هدى بركات في روايتها هذه شكل الرواية الرسائلية كما يوحي لنا العنوان، الذي يدل بدوره أن الرسائل التي يتكون منها العمل ستكون من النوع الذي لا يمكن لأصحابها سوى أن يكتبوها في حلكة الليل. و بالفعل كان العنوان وفيا بما وعد به من سوداوية و فيض من المعاناة و الصراع مع الذات و مع العالم الخارجي.

خمس شخصيات تكتب رسائل تطفح بالألم والندم والمناجاة، إلى أشخاص قريبين منهم، أو هكذا كانوا، بين ابن يراسل والدته التي تركها في بلده الأم ليهرب من أقدار وأهوال ما انفكت تلاحقه أنما حل، و بين امرأة خمسينية تسعى لاستعادة قصة حب ضاربة في القدم، و بين ابن مثلي الميول يستغيث طالبا يد العون و الصفح من والده المستبدّ، و غيرها من حكايات المعذبين في الأرض و المنبوذين من السماء، لا قاسم مشترك بينهم سوى الغربة و الاغتراب عن الوطن و عن الانتماء.

ليس من الجديد على الكاتبة هدى بركات تصوير حياة المهمشين والمنبوذين و الغوص في عوالمهم بحرفية عالية و بدرجة كبيرة من الحياد تطمح من خلاله إلى طرد الكليشيهات و الأحكام المسبقة عن فئات و أفراد تعاني من نظرة المجتمع الدونية لهم، فلا المجرم القاتل عندها شيطان خالص، و لا العاشق الولهان هو ملاك كما نحاول عادة إقناع أنفسنا. هذه النسبية في تناول القضايا تمثل أحد أعمدة مشروع هدى بركات الروائي منذ روايتها الأولى حجر الضحك التي نالت العديد من الجوائز وترجمت إلى لغات كثيرة، لجرأتها في تناول مواضيع حساسة في الحرب الأهلية اللبنانية، بالإضافة إلى كون بطلها كان مثلي الجنس.

لكن وإن كانت كاتبتنا قد وفّقت في روايتها الأخيرة بريد الليل في انتقاء مواضيع حساسة وراهنة مثل الهجرة والتهجير واضطهاد الأقليات وويلات الحرب والمتاجرة بالبشر، إلا أن الشكل الذي تنزلت فيه هذه الحكايات ـ وهو ما يهمّنا أكثر من أي شيء آخر في هذه القراءة ـ كان أقل إقناعا من الناحية الفنّية، ما جعله يبدو كما لو كان قادما من خارج الرواية لا نابعا من كيانها وعالمها الداخلي.

الرواية تنقسم إلى ثلاث أقسام:

القسم الأول بعنوان خلف النافذة وهو القسم الأكبر الذي يحتوي على الرسائل الخمس الزاخرة بالهموم والاعترافات و المشاعر المحمومة، ثم القسم الثاني "في المطار" الذي يصف لنا الوجه الآخر للحقيقة من وجهة نظر الشخصيات المرسل إليها في القسم الأول، أما القسم الأخير وهو أقصرها وعنوانه "موت البوسطجي"، وهو قسم رمزي يحيلنا إلى أزمة التواصل واستحالة وصول الرسائل في زمن الخراب والتشتت.

ما يمكن أن نعيبه إذن على هذا العمل هو غياب ما يمكن تسميته الحكمة التي تفرض استعمال شكل روائي دون الآخر، أي أن الحكايات التي وردت في الرواية كان من الممكن أن تكون حكايات بضمير المتكلّم مستقلة بعضها عن بعض، فيما يشبه القصة القصيرة دون أن ترد في شكل رسائليّ، و أكبر دليل على ذلك الحضور المكثف لعامل الصدفة (والصدفة هي نقيض للحكمة بشكل ما) في العلاقة السببية، التي نرى أنّها هشّة، بين حكاية/ رسالة و أخرى، حيث أن لا سبب يجعل المتكلم يكتب الرسالة الثانية سوى الصدفة التي جعلته يعثر على رسالة المتكلم الأول، ثمّ صدفة كذلك تعثر الشخصية الثالثة على الرسالة التي كتبتها الشخصية الثانية فتلهما قراءتها لها أن تكتب هي الأخرى رسالة إلى شخص ما، كما لا تتوانى هذه الشخصيات عن البوح للمرسل إليه أنها تكتب له بعد أن قرأت رسالة لشخص غريب، و هكذا دواليك.

من خلال هذا التمشّي المتّبع، كان من اليسير للقارئ أن يلمس ضربا من التحامل أو التصنّع لدى كل شخصية في استهلالها للرسالة التي تكتبها، فهي و إن بدى أنها تخبر المرسل إليه أن عثورها على رسالة شخص غريب هي التي شجعتها على كتابة رسالتها الخاصة، فإنها في حقيقة الأمر تخبر القارئ أكثر من أي شخص آخر بذلك، في مناورة لا تفتقر للذكاء، لكنها لا تخفي كذلك كون الشكل المتبع في الرواية ـ أي الشكل الرسائلي ـ قد طرأ كشيء دخيل في مرحلة متأخرة من كتابتها، و هو ما اعترفت به الكاتبة ضمنيا في إحدى الحوارات التي أجريت معها حين قالت أنها أعادت صياغة رواية بريد الليل أكثر من مرة إل أن وصلت إلى هذه "الشكل النهائي".

هكذا قامت الكاتبة في هذه الرواية بتحميل هذا الشكل من الرواية ما لا يتحمله ربما، أو أنه كان ليتحمله لو أنها تحلت بمزيد من الصبر والبحث في سبيل إضفاء المزيد من الاقناع على الشكل الروائي، من خلال إيجاد منطق لتسلسل الرسائل الواردة أكثر متانة من منطق الصدفة، بنفس القدر من الجدية التي أولتها للمواضيع الحارقة التي ضمنتها هذا العمل.

فالواقع العربي اليوم بكل ما فيه من بشاعة وغياب للمنطق، فهو يمثل مادة دسمة للإبداع الفني عموما، و للإبداع السردي خاصة، قد يحسدنا عليه مبدعو أمم لا جديد فيها و لا تحدّيات، و هو ما يجعل المسألة الشكليّة أو التجريبية تعود من جديد بقوّة لتكون عاملا أساسيا وفيصلا في مدى جودة ما ننتج و نكتب.

الرواية نت – خاص

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم