علي السياري

يعود الاستعمال الأوّل لمصطلح "الواقعية السحرية" في الأدب للروائي الكوبي أليخو كاربنتييه Alejo Carpentier (ت. 1980) الذي استخدمه في تقديمه لروايته "مملكة هذا العالم" Le Royaume de ce monde التي نشرها سنة 1949. وهو يسعى من خلال ذلك التقديم إلى تعريف القراء بمصطلح جديد أضحى يُطلق على تيّار جديد لم تعرفه الآداب العالمية من قبلُ. وهو تيار حامل لخصوصيّة البيئة التي ظهر فيها، وهي أمريكا اللاتينية التي ما تزال، آنذاك، فضاء مجهولا وغامضا، ناهيك عن كونه لا يؤسس عادة لطابع أدبي أو ثقافي خاص به. وهو مثل غيره من فضاءات العالم الثالث أو عالم الأطراف يستهلك ما تنتجه ثقافة المركز أي أوروبا أو الغرب عموما. ويرى كاربنتييه أنّ عالم السحر يتولّد نتيجة للاضطراب المفاجئ للواقع، ويكون ذلك على شكل معجزة، وتفترض رؤية السحر ضرورة الإيمان به (1).

ويعتبر كاربنتييه أنّ الواقعية السحرية تُمثّل التراث الثقافي والفني لأمريكا اللاتينية. فهي تصوّر بكارة المناظر الطبيعية والغابات العذراء، وصياغة الإنسان فيها من الناحية الكونية، وحضور العنصر الهندي الرهيب والعنصر الأسود الرهيب، وهي عناصر جعلت من تلك القارة المكتشفة حديثا منبعا يتدفق بالسحر والأساطير. وتُعدّ رواية كاربنتييه "مملكة هذا العالم" استجابة مباشرة لشواغل تيّار الواقعية السحرية.

ويُعرّف الناقد لويس ليل Louis Leal في كتابه "تاريخ الرواية الإسبانية- الأمريكية"، الواقعيةَ السحريةَ بأنها "تتفادى عالم ما وراء الطبيعة ولا تبرّر سلوك الإنسان بالتحليلات الاجتماعية، بل يتمثل هدفها الأساسي في التقاط الأسرار التي تختفي تحت مظاهر الواقع.. كما أن منطق الحكاية في الروايات التي تعتمد هذا النوع من الواقعية لا يخضع إلى الشّروح والتبريرات. ولا يحاول مؤلّفو هذه الروايات محاكاة الواقع أو نسجه بواسطتها كما يفعل عادة كُتّاب الأدب الواقعي، ولا أن يجرحوه كما يفعل السرياليون، ولكنّهم يلتقطون السرّ المبهم الكامن في أحشائه دون أن يجتهدوا في تبريره أو شرحه كما يفعل كُتّاب القصص الخيالية التي تحدث فيها العجائب طِبقا لتصور معقول مسبق (2). والحقّ أنّ هذا التعريف يضع الواقعية السحرية في سياقها الثقافي الذي ظهرت فيه، وهو يحدّد خصوصيتها والفروق بينها وبين بقية تيارات الواقعية أو تيارات العجائبي. ومعنى ذلك أنه علينا أن نتعامل مع الواقعية السحرية باعتبارها تيارا واقعيّا، فهي رؤية جديدة للواقعية في الأدب ومنظار يعكس الواقع. وهنا تحديدا تكمن المفارقة وخطورة التعامل مع الواقعية السحرية في دراسة الأدب العجائبي، فهل الواقعية السحرية تندرج فعلا ضمن الأدب الواقعي أم أنها تندرج ضمن الأدب العجائبي؟

للإجابة عن هذا السؤال يتعيّن علينا فهم الواقع في البيئة الأمريكية اللاتينية. وهو واقع قلنا إنه ذو خصوصية كبيرة، حيث يحتوي على كل ما هو عجيب وغريب وغير مألوف، وهو مليء بالسحر والشعوذة، وينبني على معتقدات غريبة ومخيال شعبي ذي بنية أسطورية دائرية ومغلقة، أيْ أنّه إذا وصف أحد الكُتّاب الواقعَ أو عبّر عنه في الأدب، فإنّه سيصفه ببعده العجيب والغريب، وسيتحدث عن السحر والمعتقدات والأساطير المكونة لجزء هام منه، فهو، إذن، سوف "يلتقط السرّ المبهم الكامن في أحشاء الواقع" مثلما قال لويس ليل. وهذا، تحديدا، ما فعله أدباء أمريكا اللاتينية منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم. فهؤلاء لم يقدّموا واقعا مخالفا لواقعهم، ولم يختلقوا واقعا جديدا كي يظهروه في أدبهم.

وبناء على ذلك، فإنّ العجائبي الذي يطغى على نصوص الأدباء الأمريكيين اللاتينيّين لم يختلقه هؤلاء ولم يبتدعوه من فراغ. ولذلك، هم لا يفسّرونه للقارئ، ولا يحاولون تبريره مثلما يفعل عادة كًتّاب العجائبي، لأنّه "عجائبي واقعي" (3)، موجود في الواقع وفي ثناياه الأشدّ غموضا، ولكنّه يستدعي فهما كبيرا للواقع حتى يصبح من الممكن التقاطه. ومن هذا المنطلق، فإنّ تسمية هذا التيار بالواقعية السحرية لم يكن اعتباطا، فالواقع والسحر متجاوران وكلاهما يتلبّس الآخر، إنهما يتعايشان جنبا إلى جنب، فلا الواقع يلغي السحر، ولا السحر ينسف الواقع. وتلك هي طبيعة البيئة الأمريكية اللاتينية، حيث المألوف يجاور اللامألوف وحيث المعقول يتداخل مع اللامعقول، فظواهر مثل عودة الموتى أو العيش مع أطياف دون أن تثير الرعب في قلوب الأحياء أو الاختفاء الفجئي للأشخاص أو الأشجار وغيرها هي ظواهر من صميم الواقع في أمريكا اللاتينية (4). وهي ظواهر نجح روائيو هذه القارة في توظيفها في أعمالهم ورسموا بها مسارا جديدا للواقعية في الأدب ومسلكا جديدا للعجائبي أيضا.

ويبدو أنّه حين اختار أدباء أمريكا اللاتينية التعبير عن واقعهم (لا واقع غيرهم)، وطرح مشكلاتهم الثقافية والحضارية لم يجدوا في كل القوالب الفنية والأدبية التي ابتدعها الغرب الذي يمثل حينها الهيمنة الإمبريالية الثقافية (أو المركزية الثقافية العالمية)، وعاء فنّيا قادرا على التعبير عن همومهم ومشكلاتهم المحلّية. ومن هذا المنطلق، رفضوا أسلوب الواقعية في الأدب والفن، وهو الأسلوب الذي كان رائجا آنذاك في أوروبا. ولقد "كفّ أدباء أمريكا اللاتينية، منذ البداية، عن مشاركة الواقعيين افتراضاتهم اليقينية بقدرة الإنسان على فهم العالم وتوصيفه" (5). كما أنهم رفضوا أسلوب تيارات اللامعقول وتحديدا السريالية التي اتخذوا تجاهها موقفا معاديا رغم قبولهم لها في البداية، لأنهم كانوا يدركون أنّ لهم "لامعقولهم" الخاص بهم والذي يتجاور جنبا إلى جنب مع المعقول والواقع. وهو ما يعني أنهم لم يكونوا بحاجة إلى اختلاق اللامعقول أو العجائبي وإجرائه مجرى الأدب للتعبير عن فساد الواقع وعبثيته مثلما فعل ذلك أدباء المركز (أي أوروبا والغرب عموما).

وبناء على ذلك يمكن اعتبار الواقعية السحرية نوعا من المقاومة (Resistance)، وهي مقاومة ذات بعد ثقافي، انتهجتها أمريكا اللاتينية لمواجهة سطوة الإمبريالية الثقافية التي كانت تمارسها أوروبا ضدّ ثقافات العالم الثالث لتهميشها وطمسها، ولتعويضها بثقافة المركز في إطار ما يعرف في الدراسات الثقافيّة بالاستعمار الجديد.

ولقد استطاع أدباء أمريكا اللاتينية احتواء تأثيرات ثقافة المركز كي ينهضوا بثقافتهم الخاصة وصوتهم الأدبي الأصيل، وأسهموا إسهاما أصيلا في الأدب العالمي رغم أنهم كانوا "محاصرين" بالتيّارات الأدبية والفنّية الوافدة عليهم من أوروبا مثل السريالية والواقعية الاشتراكية والتعبيرية والوجودية والرواية الجديدة التي ظهرت بفرنسا انطلاقا من الستينات. وقد تحقق لهم ذلك بفضل نضجهم الثقافي والسياسي ووعيهم وأصالتهم الثقافية وإيمانهم بالقدرة على مقارعة ثقافة المركز (أوروبا) وقلب الخارطة الثقافية العالمية من أجل تحرير ثقافات العالم الثالث المهمّشة. ولا غرابة في ذلك فالرواية الأمريكية اللاتينية "تعارِض السيطرة، أو المركزية الأوروبية، بالتعبير عن تجربة العالم الثالث، وتصوير تقاليده الثقافية الخاصة المحلية" (6). كما أن الواقعية السحرية باعتبارها إنجازا ثقافيا لاتينيّا خاصا وأصيلا تقدّم رؤية جديدة للواقع، وهي تسعى إلى معالجة واقعها الخاص وثقافتها الخاصة التي ما تزال منشدّة إلى فكر أسطوري ذي بنية مخصوصة، وهي ثقافة لم تشهد بعدُ الاختراعات العلمية والتقدم الصناعي، بل إنها لا تقوم، إلى حدود تلك الفترة، على فكرة "التقدم" التي يؤمن بها الغرب، وترسّخت عنده.

ويعني ذلك أنّ الواقعية السحرية كانت في بدايتها تنتقد التقليد الثقافي الغربي، وتصوّر اغتراب الإنسان في المجتمعات الصناعية، وهي تسخر من فكرة التقدم وروح التفاؤل التي سادت العصر الصناعي. ويعدّ الأرجنتيني خوليو كورتاثار الكاتب الأكثر وضوحا في انتقاده للتقليد الثقافي الغربي المبني على المادية وعلى فكرة التقدم وعلى أخلاق البرجوازية وهو ما جسّده في روايته "لعبة الحجلة". وقد كان كورتاثار من أكثر مثقفي العالم الثالث دفاعا عن الثقافات المهمشة، وأشدّهم مقاومة لثقافة المركز وفضحا لها، و"لا يكْمن وراء هذا التحيّز للثقافة الشعبية انتماء للجموع المقهورة فحسب، بل هناك كذلك شعور بأنّ واقع أمريكا اللاتينية مختلف تمام الاختلاف عن واقع الغرب الصناعي المتقدم، وكذلك شعور بضرورة البحث عن هوية خاصة جذورها مغروسة في أرض تلك القارة" (7). وكان كورتاثار يعمل وفق أشكال نضالية ثقافية وسياسية متعددة من أجل توحيد أصوات مثقفي العالم الثالث ضدّ الوصاية الثقافية التي فرضتها الإمبريالية الغربية وبالتالي تحرير الثقافات الوطنية لشعوب دول الأطراف والنهوض بأعبائها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وقد ألقى كورتاثار محاضرة شهيرة عام 1968 بالعاصمة الكوبية هافانا بعنوان "المثقف ونضالات تحرير شعوب العالم الثالث"، دعا فيها إلى الوقوف ضدّ الهيمنة الثقافية الغربية وطالب بضرورة الاعتراف بالتنوع الثقافي وتحرير ثقافات الشعوب الضعيفة وآدابها وفنونها (8).

وتميل الواقعية السحرية، باعتبارها خطابا ما بعد كولونيالي يحمل خصوصية ثقافية لشعوب أمريكا اللاتينية، إلى إدراج الواقعي جنبا إلى جنب مع الخيالي والأسطوري والتاريخي والتسجيلي والسياسي والثقافي، وهي بذلك تدمج الواقع مع العجائبي للحصول على خطاب متحرّر من قيود الأعراف الفنية والأدبية التي رسمتها الإمبريالية الثقافية الغربية خلال فترة سيطرتها الطويلة على الثقافة العالمية. ومن هذا المنطلق، يستدعي التعامل مع العجائبي في رواية الواقعية السحرية "لونا جديدا من القراءة وضربا جديدا من القرّاء الذين يتحولون إلى منتجين فعّالين لدلالة السرد ذاته، ومشاركين إيجابيين (غير سلبيين أو استهلاكيين) للفعل القصصي والإنساني" (9). كما أنّ تأسيس تيّار الواقعيّة السحريّة في الفنّ والأدب هو تحدّ لأعراف تيار الواقعية في الأدب الذي رسمت ملامحه الثقافة الغربية بناء على تصوّرها للواقع وتشييدها الثقافي له. وبناء على ذلك، يحقّ القول إنّ تيار الواقعية السحرية هو خطاب ما بعد كولونيالي ظهر في البداية في أمريكا اللاتينية ثم انتشر في كل أنحاء العالم الثالث (أو دول الأطراف)، وقد نجح في اختراق الإمبريالية الثقافية داخل فضائها ومجالها، ونقل إليها ثقافات الأطراف معلنا عن رسم جديد للخارطة الثقافية العالمية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والإحالات:
1- صلاح فضل، منهج الواقعية في الإبداع الأدبي، دار عالم المعرفة، القاهرة،ط1، 1992، ص. 302
2- ورد ضمن كتاب صلاح فضل، منهج الواقعية في الإبداع الأدبي، ص. 300
3- هذه العبارة الاصطلاحيّة التي اعتمدناها لوصف العجائبي في أدب أمريكا اللاتينيّة هي من اقتراحنا ووضعنا، حيث لم نعثر على مصطلح نقدي دقيق يعبّر عن خصوصيّة العجائبي في تيار الواقعية السحريّة.
4- ما نقصده بقولنا "هي من صميم الواقع" هو أن تلك الظواهر يؤمن بها الفكر الأسطوري الذي يسم مجتمعات أمريكا اللاتينيّة خاصّة في القديم. فالذاكرة الأمريكية اللاتينيّة تحفظ جيّدا العادات والتقاليد والإيمان بالظواهر الخارقة والخرافات والمعتقدات والمعجزات. وفضلا عن ذلك فإنّ الأجيال تتناقل كمّا هائلا من الخرافات والحكايات الشعبية التي نجح أدباء أمريكا اللاتينيّة في الاستفادة منها وتوظيفها.
5- إدموند سميث، الاتجاهات الجديدة في رواية أمريكا اللاتينية، ترجمة: سيد عبد الخالق، مجلة فصول، م12، ع2، صيف1993، ص. 116
6- المرجع نفسه، ص. 123
7- المرجع نفسه، ص. 124
8- أرمان ماتلار، التنوع الثقافي والعولمة، ترجمة: خليل أحمد خليل، دار الفارابي، ط1، 2008، ص. 107
9- فاضل ثامر، المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي، دار المدى، سوريا، ط1، 2004، ص. 99

باحث من تونس

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم