في حواره الذي أجراه الكاتب السعودي مع لجنة جائزة بوكر لسنة 2018، سعى عزيز محمد إلى نفي "الإيتيكيت" الذي رأى أنّه ألصِقَ به منذ وصول روايته الأولى "الحالة الحرجة للمدعوك" إلى اللائحة القصيرة للجائزة، ومفاده أن الرواية تتسم بتأثر كبير بمؤلفات الكاتب التشيكي الشهير "فرانز كافكا"، خاصة وأن شخصية "ك" المذكورة في العنوان هي الشخصيّة الرئيسيّة في روايتيْ كافكا الأساسيّتيْن، ونتحدّث عن "القصر" و"المحاكمة".

السؤال هنا سيكون بالضّرورة: ما مدى تأثّر مضمون الرّواية بالكافكاويّة، وهل كانت هذه "التّهمة" ستوجد لولا عنوان العمل الذي يشير صراحة إلى ذلك؟ لطالما أثبتت لنا الحركة الأدبّية في العالم العربي والعالم، أنّ التّأثر بكُبريات الآثار الأدبيّة قد يكون بطريقة معلنة وصريحة، بحيث يكون بإمكان القارئ البسيط أن يرصدها، أوقد يكون ذلك من خلال تفاعلات باطنية ورسوبات لا واعية لعوالم تلك الأعمال في ذات الرّوائي المبدعة، قد لا يكون هونفسه واعيا بحجمها.

وبالحديث عن آثار كافكا، سنجد في عالمنا العربي العديد من التّجارب الروائية التي تأثّرت منذ جيل السّتينات صراحةً وضمنيّا بالكافكاويّة، من بينها نذكر رواية "اللّجنة" التي استعار فيها صنع الله إبراهيم معظم عناصر "المحاكمة" لكافكا، ورواية "المنفى" لكاتبها جورج سالم، التي يظهر فيها التأثّر كبيرا ب"القصر" و"المحاكمة" معًا حتّى يصل أحيانا حدّ التطابق. كذلك كتب جبرا إبراهيم جبرا رواية "الغرف الأخرى" التي كانت عمله الوحيد الذي حاد به عمّا كتب قبله وبعده من أعمال تصنّف بواقعيّتها البلزاكيّة، وكأنّه أراد من خلالها أن يحقق رغبة شخصيّة مُلحّة في أن يكتب "مرثيّة" لكافكا.

في قراءتنا هذه للحالة الحرجة للمدعوك، سنحاول تسليط الضّوء على بعض الجوانب والثيمات في الرّواية، التي نثبت من خلالها التأثّر الضّمني، وغير الواعي ربما لكاتبها بأعمال فرانز كافكا، وسنبوّب تلك الجوانب كما يلي:

اغتراب الفرد واستلاب هوّيته:

منذ الصفحات الأولى لرواية الحالة الحرجة للمدعوك، بإمكان القارئ أن يلمس القدر الكبير من إحساس الاغتراب وعدم الانتماء عند بطل العمل، بالإضافة إلى حالة انعدام تامة لأي نوع من العلاقة بينه وبين الأشخاص والأشياء وحتّى الأفكار.

يعيش البطل في عائلة من الطبقة الوسطى متكوّنة من الأم والأخ الأكبر، بالإضافة إلى الأخت المتزوّجة التي تتردّد عليهم باستمرار، والجدّ العجوز الذي يجد نفسه مرغما على زيارته نزولا عند إلحاح الأم المتكرّر.

خارج البيت ليس للبطل أي علاقات أوأماكن يقصدها سوى العمل، وهويعمل موظفا في إحدى الشركات، ويمثّل جزءا من أسطول موظّفي إعلاميّة، عملهم اليومي متمثّل في مطاردة الفايروسات التي تستهدف نظام الشركة ومعطياتها، ما يضاعف عنده الإحساس بلا فردانيّته وباستلاب شخصيّته داخل جمع الموظفين المُتماهين.

داخل العائلة الصّغيرة، يتّسم وجود البطل ودوره بالسّلبية المطلقة، فباستثناء راتبه الشهري الذي يستفيد البيت بقسط منه، لا نجد أي مساهمة أوأدنى اهتمام من جهته بما يحصل من حوله: زواج الأخت، زواج الأخ، جهود الأم من أجل الإبقاء على صلة الرّحم مع الأقرباء، حتّى نيتها بيع البيت والانتقال للعيش مع الأخ بعد الزواج ما سيجعل البطل بلا بيت يأويه، لم يجعله يحرّك ساكنا ليبدي موقفا، إيجابيّا كان أم سلبيا.

كلّ ما ينشده بطل عزيز محمّد هوأن يُترك وشأنه، وأن يكون باستطاعته التقوقع في عالمه الصّغير، والغوص في غرفته التي اختارها بنفسه لتكون في ركن معزول من البيت، بعيدة عن تطفّل الأم والأخت، وأن يقرأ الأدب كلّما تسنّى له لذلك.

في القصّة الطّويلة "المسخ" لكافكا يقول بطلها "غريغور سامسا" : "أعيش في أسرتي غريبا، أكثر من غريب. ينقصني كل حسّ للمشاركة في الحياة مع الأسرة".

هذه السلبية وعدم الاكتراث الذين نجدهما عند بطل الرّواية كما عند أبطال كافكا، لا تنمّ عن نظرة متعالية وإحساس بالعظمة وبتفاهة المحيط الأسري، بقدر ما تدلّ على خللٍ عميق داخل التكوين النفسي عند البطل، يدفعه دائما إلى اختيار الوحدة والانعزال عن الآخرين، مصدره إحساس دفين بالدّونيّة من جهة، وبعدم الثقة والتوجّس الدائم من نوايا الآخرين ودوافعهم من جهة أخرى، وهي صفات عرُف أنّ كافكا قد عانى منها في حياته، حيث كان دائما يشعر بالغربة عمّن حوله، إذ كان يهوديا تشيكيا، لكنّه كان يتكلّم الألمانية، كما أنّه كان ابن احد كبار التّجار، ما جعله يشعر كذلك بعدم الانتماء للأهالي البسطاء. حتّى داخل العائلة نفسها، كان لشخصية والده القاسية والمتحكّمة بإفراط دور أساسي في نفوره وهروبه من محيطه.

في علاقته بالوسط المهني، يواصل بطل الحالة الحرجة انتهاج الطريقة نفسها في عزل نفسه عمّن وعمّا حوله. فجميع تصّرفات زملاؤه الموظفين، ملاحظاتهم، نظراتهم، طريقتهم في اللّباس وحتّى طموحاتهم المهنيّة تثير لديه الغثيان. وتمتدّ فكرة الغثيان على كامل أقسام الرّواية، حتّى قبل اكتشاف البطل إصابته بمرض السّرطان، بل تعود إلى أيام طفولته، وهوما يؤكّد لنا حالة عدم الانسجام وصعوبة التأقلم لديه، والنفور من إرساء أي علاقات له صلب العالم الذي يعيش فيه.

وبالمرور للحديث عن استلاب هويّة الفرد في الرواية، سيكون أوّل ما سيجلب انتباهنا في هذا الاتجاه هوالغياب الكلّي لأيّ أسماء سواء بالنسبة للأشخاص أوللأماكن أوغيرها، وهوما يمثّل كذلك تقنية أدبيّة كافكاويّة بامتياز. فباستثناء وقوع أحداث معظم أعماله في أماكن لا نعرف عنها شيئا، أوفي "اللامكان"، فإن وجود أسماء للأشخاص عند كافكا لا يحمل أيّ دلالة أورسالة واضحة، فالبعض منها يحمل أسماء وألقاب، والبعض الآخر لديه أسماء فقط، وآخرون ليس لهم أي أسماء، أوأسماءهم مجرّد حرف، مثل بطل القصر "ك"، وكأنه بذلك يقول أنّ لا فائدة ترجى من هذه التّسميات، وسيّان إن وُجدت أم أُهمِلت.

في الصفحة 16 يقول عزيز محمّد على لسان بطله الذي يكتب سيرته: " من الأفضل عدم ذكر أي أسماء أومواقع، فلا أدري أيّ متطفّل قد يقرأ يوما ما كتبت." هكذا يعلن صراحة عن خلوالعمل بصفة متعمّدة من أي أسماء، ويرجع ذلك الخيار في رأينا إلى عدّة أسباب، لعلّ أهمّها ما سنتحدّث عنه في الباب الثالث من هذه القراءة والذي يخصّ علاقة الفرد بالسّلطة.

أمّا عن التّقنيات البديلة التّي حاول من خلالها الكاتب التّعويض عن غياب الأسماء للأشخاص والأماكن، فإنّ أهمّها طريقة الإنمساخ. ففي مستهلّ التقديم الذي يقوم به لكلّ شخصيّة يقابلها، نجد البطل ينغمس في إجراء مسح شامل للمظهر الخارجي لهذه الشّخصيّة، ثمّ يمرّ إلى وصف تصرّفاتها وطريقتها في الكلام وفي تلقّي الأفكار، مع التّركيز دائما على الجّوانب الأكثر طرافة وكاريكاتوريّة في تلك التصرّفات. ما إن ينتهي من وصف الشخصية المعنيّة، حتّى يكون قد ابتدع لها كُنية أوتشبيها ملائما لها مستوحى أحيانا من سلوكها وأحيانا أخرى من مظهرها، وستلتصق تلك الكنية بها حتّى نهاية الرّواية، لتكون بمثابة ميثاق تعويض الهويّات بينه وبين القارئ عن غياب الهويات. ولكي نأخذ أمثلة عن ذلك من الرّواية سنذكر مثلا رئيسه في العمل الذي يصفه في البداية على أنّه رجل بدين ومفرط في الجدّية، له كتلة من الجلد المترهّل تحت ذقنه تشبه لدغ الدّيك عندما يحرّك رأسه، ثم لاحق في الرّواية سيكتفي بالإشارة له ب"اللدغ" . نفس الأسلوب يتكرّر مع زميله الموظف المثالي الذي يمقته، ومع الفتاة المصابة بسرطان الدّماغ التي التقاها في المصحّة، حيث يصبح اسم الأول "ربطة العنق" ويصير اسم الفتاة "البيضة"، لأنّها شبّهت له الورم الذي تحمله في دماغها بالبيضة.

في "المسخ" يعبّر كافكا أيضا عن حالة الاستلاب هذه من خلال تحوّل البطل "غريغور" في سريره إلى حشرة ضخمة، ما يجعله يدخل في صراع مع عائلته ومع نفسه، يبدأ في إثرها بمحاسبة نفسه والتّشكيك في قناعاته عن الوجود وعن الأسرة وعن كل شيء.

نقد المنظومة الأخلاقيّة:

من المواضيع اللافتة أيضا في الحالة الحرجة للمدعوك، الإخضاع المستمر للمنظومة الأخلاقيّة عند الأفراد والمجتمع للنقد والتشكيك والمحاكمة، حيث برع عزيز محمّد في النفاذ إلى أصول الأشياء، من خلال تعرية الكثير من المسلّمات وزعزعة عديد الثّوابت في ما يتعلّق بحقيقة العلاقات الاجتماعية والصّلات الأسريّة. فبطله الذي اكتشف حديثا إصابته بالسرطان، يستغلّ موقعه الجديد كانسان يستجلب الاستعطاف والشفقة والمعاملة الجيّدة في البيت والعمل والشارع، لينخرط في عمليّة مضنية في تحليل تصرّفات الناس تجاهه، ومحاولة استنتاج دوافعهم الحقيقية غير المعلنة، وهوما أدّى به في أغلب الحالات إلى استخلاص أحكام سلبيّة على أصحاب هذه التّصرفات مهما كانت تلقائية وخالية من كل نفعيّة. وكنتيجة لهذه السّلبية في الحكم على الآخرين، ورفضه لكلّ أشكال الشفقة ومعاملة النّاس السّاذجة له كشخص في طريقه للموت، يكشّر البطل في المقابل عن أنيابه ويبدأ في التعامل مع هذا الوضع الجديد إمّا بخبث واستغلاليّة، كما فعل في الطّائرة لمّا أجبر المضيفة على السّماح له باستعمال حمامات الدّرجة الأولى إذ صاح في وجهها أمام بقيّة الرّكاب أنّه مصاب بالسرطان، أومن خلال إظهار قدر كبير من العدائية والاستفزاز المجّانيين تجاه من يرى أنّهم يولونه اهتماما وتعاطفا زائفين، ولعل أحسن مثال على ذلك المونولوج الدّاخلي الذي ورد في الصفحة 190 عن زميله الذي يمقته يوم جاء لزيارته في البيت، فعمد البطل على استفزازه بكلّ الوسائل، ويقول:

"كان فورانه هذا هوطريقته في إيضاح أن عدم ارتياحه للزيارة يعود لأسباب أخلاقيّة. فقد ثبت له أنّي، وبسبب شناعة أفكاري هذه بالتحديد، لم أكن بريئا تماما أمام الموت، وإن كنت قد وقعتُ ضحيّة المرض فربما لأنني أستحق. وبهذا كان يمهّد للخطوة التالية: أن يغادر ولا يعود مرة أخرى، لأنّ مواساة شخص مثلي أمر يفوق قدرته على الاحتمال. سيكون هذا رائعا لوحدث، فكّرت، ورحت أتعمّد إثارة حفيظته على نحو أشد."

داخل العائلة، يتعمّق البطل أكثر في تعرية حقيقة مبادئ من يعيشون معه وأخلاقيّاتهم، وهوما يشير إليه أكثر من مرّة من خلال طريقة تعامل شقيقه الأكبر مع مرضه الذي اكتشفوه قبل وقت قصير من زفافه، وكيف أنّه من خلال تفاصيل صغيرة أحسّ أنّه ينغّص على العائلة فرحة ذلك الزواج الذي يحرصون على إتمامه، خاصّة وأنّهم سيصاهرون عائلة ثريّة وذات نسب.

أمّا المثال الأكبر على هذه الثيمة الكافكاويّة (أي التشكيك في المنظومة الأخلاقيّ) فتأتي في صفحات متقدّمة من الرّواية، حين يصف لنا البطل معاناته المستمرّة مع تصرّفات والدته وعنايتها الزّائدة التي لا نفع منها، بالإضافة إلى اتسامها بالتطفّل وهوس التّحكم في كل التفاصيل، وهوما ينسفه الكاتب دفعة واحدة عندما يقصّ علينا حادثة وقعت عندما كان البطل يتظاهر بالنوم في المصحّة، بينما أمّه تصلّي ركعات بجواره، ثمّ تبدأ في الدّعاء له بالشّفاء، لتختم صلاتها بالدّعاء لله إذا لم يشفيه أن يأخذه عنده. ويذكّرنا هذا المشهد بما حدث مع بطل "المسخ" حين سمع من وراء باب غرفته، أخته التي كان يضنّها الوحيدة التي ترأف لحاله وتهتم لأمره، وهي تطلب من والدها أن يتخلّصوا منه في أقرب وقت بعد أن طفح الكيل بها في العناية به منذ أن حلّت به لعنة الإنمساخ.

علاقة الفرد بالسّلطة:

"أنت كاميرا المراقبة الأولى والأهمّ. يجب أن نتعاون جميعا، ونكشف ما يدور باستمرار، لتعرف الإدارة كل صغيرة وكبيرة، فهدفها في النهاية حمايتك. وماذا قد نفعل بأسرارك، إذا لم تكن عميلا ؟ وما الذي يدفعك للتوجّس إن كنت لا ملك ما تخفيه ؟ الخصوصية ؟ ماذا تعني ؟ لا تفرط في تقدير حياتك الخاصّة. المزيد من الرقابة تعني المزيد من الأمن، لا تكن الحلقة الأضعف التي ينفذون خلالها إلينا، هل تفتقر للولاء ؟"

هذه الفقرة من الرّواية وإن تبدوللوهلة الأولى أورويليّة بامتياز، إلا أن رائحة الكافكاويّة تتفوح منها أيضا، فالكاتب وإن لم يضمّن هذا العمل أيّ مواجهة مباشرة مع السّلطة، وذلك طبعا ليس شرطا على العمل الإبداع الخوض فيه، إلا أنّه سعى إلى تجسيد صراع الفرد مع من هم فوقه، أي القوة التي تراقبه وتتحكّم في مصيره وتفكيره وتدسّ أنفها في أصغر تفاصيل حياته وتحاول التّأثير على تفكيره، بطريقة رمزيّة ذكيّة تُحسب له.

هذه السّلطة القاهرة تتجسّد في رأينا من خلال عنصرين أساسيين يتناوبان على اضطهاد البطل وانتهاك حرمة جسده وروحه، وهما شركة البيتروكيماويات في مرحلة أولى من الرواية، ثم مرض السّرطان الخبيث في مرحلة ثانية.

ينتهج عزيز محمد هذه الطّريقة الرّمزية في تصوير التواتر الأزلي للأنظمة والحكّام وتداولهم على اضطهاد الفرد دون أي فرق فيما بينها سوى التّسميات. ويمضي الكاتب في استخدام التّرميز ليلتقط لنا حتّى ما يشعر به الفرد المضطهد من أمل كاذب وخلاص وشيك لا يتمّ أبدا، وهوما يظهر جليّا في قسم من الرّواية حيث تتعكّر صحّة البطل كثيرا فيأذن له رئيسه بمغادرة الشركة والحصول على إجازة، ليعمَدَ وهويهمّ بمغادرة حاسوبه إلى فتح أحد الرّوابط التي تحتوي على فايروس من شأنه أن يلحق ضررا كبيرا بالمؤسّسة، ويشعر حيال فعلته تلك برضى تام عن نفسه وإحساس بالانتصار.

لكنّ حالته تتدهور كثيرا فيما بعد ليسقط جسدا وروحا بين فكّي المرض الخبيث، وإذا به ينهار ذات يوم بعد أن تسلل إلى جسده فايروس فتّاك بسبب مناعته الضعيفة، فما كان منه سوى الدّخول في حالة من الهستيريا والهذيان:

"يقترب أحدهم، يقيس حرارتي، يتحدث عن فايروس ما، فايروس تسلل لنظامك، هاجم مناعتك. هل التقطته من العمل؟ لماذا نزعت قناع الفم؟ لماذا صافحت المدير؟ لماذا فتحت الرّابط ؟"

ويمضي البطل بعد ذلك في سرد ووصف تفاصيل وحيثيات ومراحل أرهقته في رحلة علاج لا أمل فيه من مرض العصر، دون أيّ شعور بالحنين ل"السلطة" السّابقة، أي سلطة الشرِكة التي يعمل فيها، وكأنّ الأمور قد استوت عنده بعد أن أدرك أن مصير الإنسان الحتمي هوالشّقاء ولا شيء غيره، سواء كان مريضا أم معافى، ويظهر ذلك القنوط والتسليم فيما أورده الكاتب في الصفحة 174 : "لا يهم ما يفعلونه بي طالما يبدوأنهم يعرفون ما يقومون به، هذا ما توصلت إليه في النهاية. أُحقن كل يوم بالمزيد من الأكياس الشفافة، على الأرجح مغذيات، كل منها يحمل ملصقا عليه معلومات توضح ما يحتويه، في حال أراد المرء أن يعرف ما يدخل جسده."

يؤكد لنا الكاتب إذن من خلال ما استعرضناه، أنّ استخدام الرّمز والتّرميز للتطرّق لموضوع علاقة الفرد بالسّلطة، أيّ سلطة، لا يكون ضرورة بدافع تفادي المواجهة المباشرة معها، واللّعب على عناصر تضمن التّخفي اللازم للإفلات من تهمة معيّنة، كما فعل الكثير من المبدعين الذين عاشوا تحت أنظمة دكتاتوريّة، وإنّما ليبرهن أنّ التّرميز والاستعارات قد تكون أحيانا أقدر وأجدر من الخطاب المباشر، في إضاءة جوانب عميقة في علاقة الحاكم بالمحكوم، وهوما يذكّرنا كثيرا بالعمل الهام والطّريف لكافكا في قصّته "تحرّيات كلب" التي ضمّنها مادة دسمة من التّساؤلات الوجودية، في قالب رمزي وساخر بالأساس، استطاع من خلاله إنارة الكثير من الجوانب الخفيّة، واستخراج كنه الأمور وجوهر الأشياء، خاصّة في موضوعنا، علاقة الفرد المقموع بالسّلطة الجاثمة على صدره.

البيروقراطيّة:

يرى البعض أن كافكا كان أوّل من كتب عن داء البيروقراطيّة، حتّى قبل الفلاسفة وعلماء الاجتماع. ويظهر اكتشافه الرّائد ذاك خاصّة في رواتيْ "المحاكمة" و"القصر". ففي الأولى يفاجَأ البطل "ك" ذات صباح برجلين يدخلان عليه في بيته ويبلغانه أنّه مطلوب للعدالة، لكنّه لا يتمكّن من معرفة تهمته لا منهما ولا بعد جهود وإجراءات مضنية تكاد لا تنتهي، لا يعرف منها سبب إيقافه ولا الجهة التي تدينه. في الرواية الثانية كذلك، يتورّط "ك" في رحلة بيروقراطية مقيتة، ساعيا للوصول إلى القصر الذي تلقّى منه رسالة بتوظيفه كعامل مساحة فيه، لكنّ مساعيه في الوصول إلى من وظّفه لا ينال من ورائها سوى قبض ريح.

في الحالة الحرجة للمدعو "ك"، تتجلّى البيروقراطيّة منذ الصّفحات الأولى للرواية من خلال المعاناة اليومية التي يعيشها البطل داخل المبنى الكبير للشركة التي يعمل فيها، أين يلتهم المكان الكبير والعدد الكبير المتشابه من الموظفين شخصيّته، ويصهرها داخل القطيع الذي تتمّ برمجته مسبقا من أجل القيام بنفس النشاط الرّتيب كل يوم ولساعات إضافيّة على تلك المنصوص عليها.

تحت سلطة النظام الثّاني (سلطة المرض) لا تغيب البيروقراطيّة ولوقيد أنملة، فهي تطارد البطل في أروقة المستشفى وداخل غرف العلاج وحتّى في منامه، وهوما يعبّر عليه الكاتب خاصّة في الصّفحة 115 :

"أوراق وردية ثم صفراء ثم زرقاء، كلما وقّعت على إحداها يمدّ لي أخرى ... حين انتهت الأوراق كان لا يزال أمامنا بعض الإجراءات الإداريّة، وعلينا أن نمر على مكتب رئيس الأطبّاء ليمهرها بتوقيعه. إنه من المدهش أن تجد البيروقراطية طريقها لهذه المؤسسة أيضا. ولعلّ المرء لا يتحرّر أبدا أينما ذهب، فحتّى موتك لا يتمّ إلا بأوراق موقّع عليها تثبت وفاتك."

استحضار ذكريات الطفولة:

وهو يقبل على مغامرته المدوّخة للوصول إلى القصر، تقفز إلى ذهن "ك" ذكرى مغامرة صغيرة قام بها في طفولته، حيث كان الوحيد من بين عدد من الصّبية الذي استطاع أن يتسلّق أحد الجدران العالية ويثبّت فوقه عَلَما محقّقا نصرا لن ينساه، فيقول الراوي العليم في رواية القصر:

"ولكن "ك" كان قد وصل إلى أعلى، وثبت العلم ... لم يكن هناك إلى الآن من هوأكبر منه. وتصادف أن مرّ المدرّس فنظر إلى "ك" نظرة غاضبة أنزله بها من فوق الجدار العالي. وأصيب "ك" أثناء القفز بجرح في ركبته، ولم يصل إلى البيت إلا بشق الأنفس. ولكنه كان قد وقف فوق الجدار، وتصوّر "ك" في ذلك الوقت أن الإحساس بهذا النصر سيكون دعامة تستند عليها حياة طويلة، ولم يكن هذا الذي لاح له آنذاك من قبيل السخف، فها هوذا يعود إليه بعد سنوات طويلة، في ليلة الجليد .. فيمدّه بالعون."

في رواية الحالة الحرجة للمدعوك،يحضر التحليل النفسي بقوّة أيضا، وذلك من خلال استحضار متكرّر لذكريات من الماضي البعيد للشخصية الرئيسية بقيت راسبة في لا وعيه، ولعبت دورا كبيرا في نحت شخصيّته والأفكار التي يتبنّاها بالإضافة إلى إكسابه الكثير من العقد، والعادات منها الإيجابيّة ومنها السّلبية، لعلّ أهمّها الأحكام المسبقة والتّشكيك الدّائم في نوايا الآخرين، الذي تطرّقنا له في الجزء الأوّل من هذه القراءة.

ينبش البطل على امتداد صفحات الرواية في ماضيه وخاصّة ذكريات طفولته، ليقبض بين الفينة والأخرى عن ذكرى أوحادثة يستعملها في مواجهة أحداث الحاضر سواء ليبرر لنفسه أو للقارئ تصرّفا أو موقفا بدر منه، أو سعيا منه للانتقام من أحد أفراد عائلته أو ضدّ فئة معيّنة من الناس.

يظهر ذلك الحفر في الذاكرة خاصّة بعد اكتشاف البطل لمرضه، حيث أنّه يعود بالذاكرة إلى اليوم الذي أخذه فيه والده صغيرا إلى الطبيب، بعد أن اشتكى من الإعياء والغثيان والرّعاف، لكنّ الطبيب قال له أنه بخير وطلب منه أن يكون صلبا، وأضاف ساخرا من الصّبي الصّغير، بتواطؤ من الأب، أنّه لوأنّ كل طفل يشتكي من بعض التعب فسوف لن يجدوا ـ هم الأطباء ـ وقتا لمعالجة الحالات الخطيرة. يوم علم البطل بمرضه كان أوّل ما فكّر فيه هوأن يبحث عن ذلك الطّبيب ويرمي في وجهه نتائج الفحوصات ويصرخ فيه: ما رأيك الآن ؟ هل هذه حالة خطيرة أم لا ؟

كذلك فيما بعد، أثناء رحلة العلاج المضنية كان الجميع يأخذون عليه عدم اكتراثه واستهتاره بحالته الصّحية وقلّة انضباطه في تطبيق توصيات الأطباء، لكنّه دائما ما كان يرى أنّهم يبالغون، مرتكزا في ذلك على صفة، أو فلسفة إن صحّ تسميتها كذلك، كان قد ورثها عن والده، الذي كان يكره المبالغات، وكان يرى معظم تصرّفات أبنائه مليئة بالإدعاء والمبالغة، فكانت كلمته المفضّلة التي لا يتوانى في قذف أي أحد بها إن أحسّ أنه يحمّل الأمور أكثر مما تستحق من قيمة أومشاعر هي: "لا تبالغ ! "

هكذا صارت الحياة ككلّ في نظر الكاتب عبارة عن مبالغة كبرى وادّعاء متواصل لا يسع المرء حيالها سوى أن يتصرّف بلامبالاة متعالية عليها، وهوما أطنب فيه البطل طيلة فترة الصّراع مع مرض السّرطان وحتّى قبلها، متّخذا من العزلة والاكتفاء بالنّفس وبقراءة الكتب صَرحا، كان يبدوله منيعا، قبل أن تأتي نهاية الرّواية بالمفاجأة غير المتوقّعة التي ستنسف تلك النظرة الزّاهدة في الحياة، والتي نترك للقارئ أن يكتشفها من خلال قراءته لهذا العمل الممتع والفريد.

في نهاية هذه القراءة المتواضعة لحالة "ك" الحرجة، والتي حاولنا فيها بإيجاز أن نثبت "تهمة" الكافكاويّة على كاتبها عزيز محمد، حيث أن الرواية لا تزال تزخر بالثيمات التي يمكن أن نقول أنّها ناتجة عن تأثّر بأعمال كافكا، لكنّها لم ترقى إلى حجم تلك التي تناولناها، لعل من بينها الموقف من المجتمع الاستهلاكي الليبرالي والاحتكاري (المتمثل في شخصية الأخت وأصهارها، أو في أمركة المجتمع ونمط تفكيره المتجسّد في الموظّفين زملاء البطل). من هنا نعود لنؤكّد على الفكرة الذي استُهلّ بها مقالنا هذا، وهي أنّ الأعمال الخالدة التي يقرأها الكاتب عادة ما تتسلّل إلى لا وعيه، لتظهر في وقت لاحق في أعماله الإبداعيّة، وذلك لا يقلّل أبدا من قيمة هذه الأعمال القادمة، فالأدب كما كلّ الفنون، لا يكتسب إشعاعه وغناه إلا من تراكمه الطّبيعي الذي يؤثر فيه السّابق في اللاّحق، يكفي أن نتذكر أنّ "مدام بوفاري" لفلوبير ظلّت عظيمة رغم ما قيل عنها أنّها استنساخ لرواية "آنا كارنينا" لتولستوي، كما أنّ معلّمنا نجيب محفوظ ظلّ دائما قامة رغم تأثّره الكبير الذي لا ينكره بأسلوب بلزاك وغيره من الكتّاب.

وأختم هذه القراءة بأن أهنّئ عزيز محمد على هذا العمل الراّقي و المتكامل وأوجّه له نصيحة في شكل دعابة، أقتبِسُها عن بطله: "إنّ من شأن الإفراط في كافكا أن يصيبك بمختلف الأشياء."

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم