الصدق التاريخي والصدق الفني في الرواية العراقية.. "مقامات اسماعيل الذبيح" انموذجاً
إن الدخول في عالم الرواية من خلال التاريخ، أو مساراته الخطية زمنيا، أو أن تكون قراءة جديدة للتاريخ، ليست لعبة ميتاسردية بقدر ما هي نوع من انواع تغير عالم السرد والتي تبناها الكثير من روائينا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كالروائي جرجي زيدان، والروائي نجيب محفوظ في أولى رواياته، وغيرهما الكثير. وعلى الرغم من أن الرواية تستند الى ما يمنحها الواقع من أحداث الحاضر والماضي، الا انها تبقى هي والتاريخ في علاقة مستمرة تتجلى بثلاث صور:
- مرة تأخذ هذه العلاقة صورة يظهر فيها التاريخ وهو يحتضن الرواية، ويلبسها ثوبه.
- واخرى بأن تسحبه الى عالمها بإستحياء، لان الرواية لا يمكنها الابتعاد عن الواقع مهما كان هذا الواقع متخيلا، والواقع كلما مضى عليه الزمن اصبح تاريخاً.
- وفي الصورة الثالثة تبتعد عنه لتشكل معه اطراف ضلعي زاوية 180 درجة. ففي الصورة الاولى تظهر لنا الرواية التاريخية، واغلب روايات جرجي زيدان منها. وفي الثانية تجد انها تأخذ شيئا منه وتترك اشياء ،ومنها روايات الكاتب عبد الخالق الركابي، وغيرها الكثير من الروايات. وفي الثالثة تبقى الرواية صافية نقية من التاريخ مثل رواية " اطراس الكلام " للركابي نفسه، والتي ذكر في اخرها ان المعلومات الطبية الواردة فيها هي مأخوذة من كتاب "جيف سيمونز " وهو مصدر لا يدخل ضمن المصادر التاريخية. او ان يبنيها على واقع متخيل لاحد شخوصه، كروايته " ما لم تمسسه النار " مثلا. في الصورة الثانية لتجليات التاريخ في الرواية عند عبد الخالق الركابي تظهر رواية " سابع ايام الخلق "، و رواية " الراووق " مثالا لها، حيث استطاع ان يجسد التاريخ تجسيدأ شبه مدرك يشعر به الدارس و المتلقي كواحد من اهم مصادر الروائي لكتابة هذه الرواية او تلك. والسؤال الذي يطرح على هذه السطور هو عن الكيفية التي عالج بها الروائي الركابي الصدق الذي يشعر به المتلقي عند قراءته لهذه الرواية، او تلك، بشقيه: التاريخي والفني، هذه الاشكالية القديمة الحديثة، حيث انها تظهر مع كل رواية تنهل من التاريخ المعاصر، او القديم، موضوعها او موضوعاتها. كتب الروائي كل رواياته التي يشم منها رائحة التاريخ لا لكي يكتب تاريخاً بصيغة الرواية كما كان يكتب جرجي زيدان مثلا، وبنفس الوقت لم يبتعد عن التاريخ ايضا في رواياته التي نتحدث عنها ،بل كان صادقا عندما ذكر مصادره التاريخية، فهل كان صادقا فيما ذهب اليه من تاريخ، اي كان صادقا صدق التاريخ و الواقع في ذلك التاريخ، اي جعل مصادره التاريخية تتحرك وتنطق امام ناظريه ؟ ام كان فيما ذهب اليه صادقاً صدقاً فنياً بحيث جعل مصادره التاريخية خلف ظهره بعد ان استل منها ما يمكن ان نسميه "رؤوس اقلام "، او كالمثابات التي تعينه فيما يكتب من احداث يريد ان يكون عند المتلقي صادقا؟ وكما ذكر في اغلب رواياته المصادر التي اعتمد عليها، كرواية "سابع ايام الخلق"، ورواية "ليل علي بابا الحزين" مثلا، فقد ذكر قائمة بالمصادر التي اعتمدها في كتابة هذه الرواية لنعرف مدى ما عاناه الروائي في الاطلاع عليها. ذكر الركابي في مقدمة الرواية، وتحت عنوان "تنبيه" الى انه استفاد كثيرا من بعض المصادر التي ذكرها بالاسم، من كتب عن التاريخ الحديث للمنطقة وبعض المجلات، مثل: اعمدة الحكمة السبعة، وكتاب جهاد شعب فلسطبن، وكتاب كنوز القدس، وكتابي الرحلة الثامنة والبئر الاولى، و كتاب لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، وكتاب بغداد في العشرينات، وكتاب الزورخانات البغدادية، وكتاب حكايات سياسية من تاريخ العراق الحديث، وكتاب ذاكرة المغلوبين، وكتاب المعدان او عرب الاهوار، وكتاب العودة الى الاهوار، وكتاب خمسون عاما على ملحمة دير ياسين، وكتاب مجزرة صبرا وشاتيلا، وكتاب مشاهدات في القدس والناصرة، ودراسات اخرى نشرت في المجلات. لنتساءل: هل كان الكاتب صادقا تاريخياً واهمل الصدق الفني في كتابة روايته "مقامات اسماعيل الذبيح"، وهل هذا هو المطلوب منه لكي يكون روائياً حاذقاً ومقتدرا؟ ولكي نعرف ابعاد الصدق الفني في رواية الركابي علينا التأكيد على ان الصدق الذي ننشده ليس هو الذي يقابل الكذب الاخلاقي، اذ ان مفهوم الصدق والكذب هنا يرتبطان بسلوكية الانسان في المجتمع، اما الذي نعنيه هو مدى التأثر بما يقدمه الروائي من تجربة انسانية، واسعة او ضيقة، ومدى التحسس، والانفعال بها، ويكون كل ذلك تحت سلطة وهيمنة المخيال الفني للكاتب، وهذا ما يسمى بالصدق في التعبير، وعن هذا يقول أنور المعداوي: ( أما الصدق الفني فميدانه التعبير، التعبير عن دوافع هذا الإحساس، بحيث يستطيع الفنان أن يلبس تجاربه ذلك الثوب الملائم من فنية التعبير، أو يسكن مضامينه ذلك البناء المناسب من إيحائية الصور)، انها حذاقة الروائي ومقدرته لاختيار التعبير المناسب لفنه. وقد عبر الشاعرحسان بن ثابت عن هذا الصدق بقوله : وإنَّ أحسَنَ بيتٍ أَنتَ قـــــــــــائِلُهُ / بيتٌ يُقـــــــــــــــــــالُ إذا أنشدتَهُ صَدَقا ويمكن ان نضع البيت في صيغة اخرى وهو يتحدث عن الرواية، فنقول : وإنَّ أحسَنَ رواية هو قـــــــــــائِلُهُا / رواية تقــــــــالُ إذا رواها صدق والصدق التاريخي، هو ان يسير العمل مع التاريخ، او يترك التاريخ يقود العمل الروائي، فيصبح عند ذاك هذا العمل تاريخا وليس عملا روائيا، الا ان مثل هذه الروايات تحتاج الى بعض الجرعات من التشويق، وطراوة في ادوات التعبير، والا اصبحت الرواية مثل كتاب ابن عساكر "تاريخ دمشق "، او كتاب " تاريخ الامم والملوك " للطبري، او غيرها من الكتب التاريخية القديمة. ان الركابي غير معني بالسياقات التاريخية، او بتسلسل الاحداث كما جرت، لانه معني بالفن الروائي، والتعبير عن تلك الاحداث والوقائع تعبيرا فنيا خالصا، مما يدفع الكاتب وبسبب ضغط ادواة التعبير على ذائقته السردية – اذا صحت التسمية – الى تجاوز الكثير من الحوادث ،او تعديلها، او تبديلها. يقول الركابي : (( هذه الطبعة (...) هي الطبعة المعتمدة وذلك ليس لكونها طبعة منقحة فحسب، بل لما جرت عليها من تعديلات جوهرية شملت حذف مقاطع كانت تثقل النص باستطرادات لا مسوغ لها، فضلا عن اضافة مقاطع كان لابد من اضافتها لتزيد الرواية تماسكا ووضوحا ودلالة )). و قد اجريت في هذه الطبعة ( طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر ) بعض " التعديلات الجوهرية "، وهذا ما كنا نؤكده من ان التاريخ عندما يصبح عملا فنيا، رواية مثلا، فالواجب على الكاتب ان يجري الكثير من التعديلات الجوهرية على الحوادث والاحداث ،وكذلك الشخوص، لكي تتوافق وما تتطلبه ادواة التعبير الفنية لنوع " الرواية " من امور، واعتذر جدا لعدم حصولي على الطبعة الاولى لكي اعرف ما فعله الركابي من تعديلات جوهرية عليها، الا اني متأكد ان ما قام به يخدم العملية الابداعية، والادوات التي استخدمها للتعبير عن هذه العملية الابداعية. اذن، فالتاريخ يأخذ مكانه في روايات الركابي على انه مجموعة من الثوى والمثابات التي تنير السرد عن شخص، او واقعة، او مكان او زمان، وتوثقه. ومن خلال ربط التاريخ بمساراته الخطية مع المسارات غير الخطية للتعبير الروائي، تبرز لنا في هذه الرواية ما يمكن ان نسميه المدخل النصي، او العتبة النصية، التي تصرخ امامنا لتشير الى شيء ما في الرواية، ومن هذه المداخل النصية التي يمكن تبيان وظيفتها في هذه الدراسة هو الآية القرآنية المذكورة في المقدمة، و كذلك عنوان الرواية، و عناوين الفصول، وكلها لها امتداد تاريخي واضح وبيّن. ان الآية القرآنية التي ثبتها الروائي في مدخل روايته تشير الى شيء ما داخل متن الرواية وله ارتباط وثيق مع عنوانها، فاذا كان العنوان يشير الى " مقامات " تحرك وانتقال بطلها، فأن اسماعيل الذبيح في الآية هو الاخر تحرك في احوال ومقامات متعددة، كميلاده بعد كبر والديه، والهجرة القسرية له ولامه، ومحاولة ابيه لذبحه، وغير ذلك من الاحوال والمقامات التي مر بها كما تذكر المصادر المحايثة للقرآن. اما عنوان الرواية فهو عنوان تاريخي حدث في زمن مضى من ازمان عالمنا المعاش، والماضي بشقيه الماضي القريب والماضي السحيق، هذا العنوان يؤكد على اننا سنطلع على " مقامات اسماعيل الذبيح " اي على سيرة حياة شخصية ما تدعى اسماعيل، ان كان يلقب بالذبيح الكنية التي اطلقها عليه " كامل الاطرش " في دمشق ص 221، ام لا ، وقد وردت المقامات بالمعنى الصوفي للكلمة، و حتماً هي من تأثير القراءات الصوفية على الروائي، وهذه اللفظة هي تمثل اول احتكاك للروائي بالماضي، اي بالتاريخ، فيكون عند ذاك الروائي صادقاً صدقاً تاريخياً، الا ان ما نطلع عليه في الرواية يفشل هذا الاعتقاد، لان الروائي اطلق لفظة " مقامات " على غير ما استعملت عليه عند الصوفية في القديم، اي الحال الذي يصله الصوفي في اقترابه من الحضرة الالهية، اما الروائي فاستعملها لتشير الى تاريخ الشخص اثناء حقبة زمنية معينة، فأتخذت في الرواية اسماء مثل : المقامة العثمانية، والمقامة العربية، والمقامة الدمشقية، والمقامة الحجازية، حيث انها تشير الى حقب زمنية. وعنونة الفصول لعبة اجادها الركابي في اغلب رواياته، كرواية " اطراس الكلام " ورواية " سابع ايام الخلق " على سبيل المثال، وهذه العناوين هي عناوين صوفية، ففي رواية " سابع ايام الخلق " وزع حروف لفظة " الرحمن " على عناوين فصول روايته، وفي رواية " اطراس الكلام " وزع حروف لفظة " طرس " على عناوين فصول روايته، اما في هذه الرواية فقد سمى فصول روايته " مقامات " لتبدل حال الشخصية المركزية في هذه الرواية جغرافياً. في بداية الرواية يثبت الروائي آية قرآنية تبين ما عاناه اسماعيل في القصة القرآنية، فسمي بالذبيح فيما بعد، اذ سماه النبي ذلك عندما قال في حديثه ( انا ابن الذبيحين )، والذبيحان هما اسماعيل ابن ابراهيم، وعبد الله ابو النبي. يحصل تناص خفي بين قصة اسماعيل في القرآن وقصته في الرواية، وهي قضية تاريخية. و يحمل عنوان الرواية امرين تاريخيين، هما لفظة " المقام " وهي من التعبيرات الصوفية، و حكاية اسماعيل ابن ابراهيم الذي حلم والده بانه يقوم بذبحه. وعلى الرغم من كل هذه التناصات، ظل الركابي وفيا لفنه الروائي، فلم يحفل كثيرا فيما اذا كانت روايته تحمل صدقها التاريخي، ام لا ؟ لانه ببساطة تجاوز الكثير من الاحداث والحوادث والشخوص التي ذكرت في مصادره التاريخية، وراح مهتما بالصدق الفني الذي تحمله روايته للاحداث التي ذكرتها تلك المصادر بما له علاقة بشخصية " اسماعيل الذبيح ". بقول الراوي : (( حين استعيد معرفتي بإسماعيل الذبيح – وانا بصدد كتابة روايتي عنه – اجابه بهذه الازدواجية ... الخ )). ص15 فهي معرفة خاصة بالراوي ولا علاقة لها بالمصادر التاريخية التي ذكرها في بداية الرواية، و هو لم يركض خلفها لاهثا، وانما أخذ منها بعض المثابات، او رؤوس اقلام له ليكتب روايته. وضع الروائي تلك المصادر وراء ظهره وراح ينحت روايته من صلب مخياله المتسلح بظلال تلك المصادر، فظهرت رواية " مقامات اسماعيل الذبيح " صادقة صدقاً فنياً، وفي نفس الوقت غير كاذبة تاريخيا، لانه كلما كان الصدق الفني في الرواية هو الغالب على الصدق التاريخي تكون تلك الرواية اكثر اخلاصا لفن السرد الروائي، وهذا ما بدا على " مقامات اسماعيل الذبيح " للروائي القدير عبد الخالق الركابي.
الرواية نت
0 تعليقات