1- عتبات النص: تعتبر رواية "القوس والفراشة" للكاتب المغربي محمد الأشعري، الحاصلة على جائزة البوكر العربية لعام 2011 مناصفة مع "طوق الحمام" للسعودية رجاء عالم، أهم عمل روائي لهذا الروائي الذي كانت محاولاته الأولى في الشعر قبل أن ينتقل إلى الصناعة الروائية النثرية. والرواية تشكل تتمة في أحداثها على الأقل لروايته الأولى "جنوب الروح" الصادرة سنة 1996. تقع رواية "القوس والفراشة" في 335 صفحة من الحجم المتوسط، وأصدرت طبعتها الأولى سنة 2010 عن المركز الثقافي العربي. العنوان: إن عنوان الرواية يخلق لدى القارئ غموضا معينا لأن العلاقة التي تربط بين الكلمتين غير واضحة ومبهمة، بعد قراءة الرواية سيتبين أن الكاتب اختارهما للتعبير عن الحلم الذي كان يسكن" ياسين الفرسيوي" وهو ربط مدينة الرباط وسلا بقوس. فرغم ما يحمله القوس من دلالات، إلا أنه رغم ذلك يعبر عن دلالة خاصة أرادها الكاتب دون غيرها. أما الفراشة فهي اسم العمارة التي بناها في مراكش "إبراهيم الخياطي" المناضل اليساري القديم و صديق بطل الرواية، الفراشة رمز لبنية معينة ترمز للجمال كما قد ترمز للهشاشة في نفس الوقت. والربط بين القوس الذي يعبر عن الأمل والفراشة التي تجسد حضور هذا الأمل أو غيابه، يمثل جمعا بين المتناقضات ورغبة معينة في التعبير عن "كل" الرواية، أي عن الهاجس الأكبر الذي دفع الكاتب لكتابة عمله. 2 - المتن الحكائي: تتحدث الرواية عن قصة رجل ريفي "محمد الفرسيوي" قدم إلى زرهون وهي مدينة تاريخية شمال المغرب، وهو تاجر راكم ثروة كبيرة بعد عودته من ألمانيا وزواجه من فتاة ألمانية تدعى "ديوتيما" التي أنجب منها ولدا هو "يوسف الفرسيوي" وهو الشخصية الرئيسية في الرواية. وتصور الرواية حياة آل الفرسيوي، من خلال ثلاثة أجيال متلاحقة تتقاسم نفس الإسم لكنها تختلف في التصورات والأفكار. فالفرسيوي الابن يشتغل في الصحافة وهو مناضل يساري وتقدمي، بينما إبنه"ياسين"، ينتمي إلى الجيل الجديد، أرسل إلى فرنسا ليدرس الهندسة في فرنسا لكنه سيموت بطريقة مأساوية بعد أن التحق بجماعة إرهابية إسلامية. وهو الخبر الذي سيؤطر متن الرواية منذ البداية، حيث سيتلقى الفرسيوي رسالة من مجهول تخبره بوفاة إبنه وهو ما لم يلق له يوسف الفرسيوي بالا. لكن زوجته شكل لها الحادث أزمة نفسية وجعلها فقدان إبنها الوحيد تطلب من يوسف أن ينجبا طفلا يعوضان به ياسين، لكن أمام رفضه سيحدث شرخ في علاقتهما وهو ما سيعجل بفراقهما في النهاية. كما تحضر في الرواية -التي تشكل مجموعة قصص منفصلة في الظاهر لكنها في العمق مرتبطة بعضها ببعض- قصة الفرسيوي الأب التي تشكل حياته امتدادا وجدانيا في حياة إبنه يوسف خاصة بعدما فقد زوجته الألمانية وثروته التي جمعها كما سيفقد بصره كذلك وسيتحول إلى مرشد سياحي للسياح الذين يزورون مدينة وليلي الأثرية. وكل ماتبقى له هو فندقه الذي شيده بزرهون والذي سيشكل محط طمع الكثير من السماسرة الذين سينجحون في دفع الفرسيوي لبيعه في النهاية. ويشكل حادث انتحار "ديوتيما" الألمانية فجيعة ستصيب الفرسيوي الأب، رغم أن يوسف ظلت تساوره الشكوك حول علاقة الفرسيوي بوفاة أمه. وقد شكلت مدينة وليلي الرومانية فضاء مكانيا مهما هيمن على جزء كبير من مستويات السرد وتزامن الحدث الروائي، خاصة اختفاء تمثال "باخوس "الذي سيشكل البحث عنه هاجسا يسكن هاجس السلطات والصحافة وسكان المنطقة كذلك، الذين تعرضوا لمختلف أشكال التعذيب والذين سيصابون بمرض معد سيقضي على جزء كبير منهم. وتمتد أحداث الرواية منتقلة في مستوياتها من الوضعية البدئية وهي تلقي الرسالة التي تفيد وفاة ياسين إلى الطلاق الذي سينهي تلك العلاقة ثم الارتباط مرة أخرى بليلى وهي الصديقة الجديدة للفرسيوي. ثم في الأخير سيشكل وفاة يوسف الفرسيوي على يد عصام ابن إبراهيم الخياطي بالتبني الذي قام بعملية إرهابية، الوضعية الختامية التي ستنهي فصول الرواية. 3- المستويات الدلالية والتيمات: إن قارئ الرواية البسيط لن ينتبه إلى بعض الدوافع التي دفعت الكاتب في بعض الأحيان إلى توجيه السرد في مستوى من المستويات، وتشكل في نظري تيمة الإرهاب والفساد والذاكرة والوجدان أهم العناصر التي تشكل هيكل النص، لأنها تحضر متقاطعة ومنسجمة ومتداخلة وهي الطريقة التي حاول من خلالها الكاتب بسط ثلاثة أزمنة مختلفة وثلاثة أجيال مختلفة: جيل محمد الفرسيوي الأب: وهو الذي يشكل نواة العائلة والمحافظ على انتمائها الريفي والذي حقق ثروة طائلة ومد جسورا متباعدة بين أصوله المغربية وأصول زوجته الألمانية، وكذا الأبعاد الرومانية الأخرى نظرا لما تمثله وليلي كمدينة أثرية من رمزية حضارية. جيل يوسف الفرسيوي الابن: وهو جيل تربى في أزمنة القمع ومارس السياسة، إنه جيل يساري آمن بالثورة في وقت معين، لكنه تخلى عن مبادئه وبدأ يتعلق بأهداب رجال السلطة. إن يوسف مازال فيما يبدو محتفظا بمبادئه من خلال نضاله على جبهات أخرى وهي الصحافة التي يفجر فيها قضايا الفساد العقاري وغيرها من القضايا الأخرى. جيل ياسين الفرسيوي الحفيد: وهو جيل الزمن المعاصر الذي تختلف أوضاعه عن أوضاع سابقيه، فياسين ولد في أسرة ميسورة نسبيا وفرت له تعليما جيدا وأرسلته إلى لفرنسا لإتمام دراسته، لكن رغم ذلك تلقفه الفكر الظلامي، الذي سيرسله إلى الجحيم في للحظة "ثورة" مباركة. كما أن هذا الجيل ترمز إليه المجموعات الموسيقية الشبابية التي تتعاطى الألوان الموسيقية الغربية وتعبر عن تصوراتها الخاصة مثل عبادة الشيطان مثلا. إنها تحولات قيمية ووجدانية عميقة تعبرعنها هذه الأشكال من التعبير. إن مستويات الزمن السردي في النص تتقاطع في ثلاثة مستويات: مستوى الماضي: حيث تشير إليه كل الأحداث السابقة التي تعبر عن حياة آل الفرسيوي، خاصة محمد الفرسيوي الذي يتم الحديث عنه وعن قصة نجاحه المادي وعلاقته بديوتيما وبحثه عن تمثال باخوس وكذا أثناء استحضار الفرسيوي الابن لذكرى إبنه، بمعية زوجته، خاصة أثناء حديثهما عن حلم ابنهما بناء القوس الذي سيمكن من ربط مدينة الرباط بمدينة سلا. كما يحضر الزمن الماضي أثناء حديث يوسف الفرسيوي عن علاقته السابقة بزوجته وماضيه النضالي. ويتم الانتقال إلى الماضي من خلال "الاستحضار" وهو تعبير عن تيمة "الذاكرة" التي اعتبرناها أهم المواضيع التي تخترق جسد النص. مستوى الحاضر: وهو اللحظة التي يتم فيها بناء الأحداث، إنه تسلسل للأحداث في لحظة معينة ويشكل في الغالب لحظة قلق واضطراب تسكن كل الشخصيات، إنها لحظة مضطربة مسكونة إما بالخوف ( لقاءه مع الإرهابي) أو الحب (علاقاته الغرامية المختلفة)، أو الانفعال (علاقته المتوترة بزوجته). إن الحاضر إذن هو لحظة لا تظل سجينة الحدث الآني فقط بل إنها تستحضر الماضي وتتعامل معه كحاضر، وهي التقنية السردية التي نجح الكاتب في اتقانها وخلق مستويات سردية لا تجعل الحدث ينساب برتابة قد تفقد النص جماليته وابداعه. مستوى المستقبل: وهو الزمن المرتقب الذي يظل القارئ مشدودا إليه على طول الرواية لأنه يريد ان يكتشف "حل العقدة"، مثلا كاختفاء تمثال"باخوس"، الذي شكل البحث عنه هاجس كل الأطراف سواء الشخصيات وحتى القارئ نفسه، هذا التمثال الذي سيظهر فجأة (منزل المستثمر الفرنسي)، وسيختفي من جديد ليظل بؤرة الارتقاب الأبدية. كذلك اختفاء عصام الذي سيشكل البحث عنه هاجسا يسكن الجميع حتى النهاية. لكن لا يجب بناء على ما سبق فهم أن مستويات السرد تختلف وتنفصل، بل إنها تتقاطع كما قلنا لتشكل بذلك في النهاية نسيجا من العلاقات والعواطف والآمال والمخاوف والصراعات، التي تضفي على الرواية حبكة متقنة تمنح القارئ ليس فقط الاستمتاع بالأحداث وتتبعها بل كذلك المشاركة في صناعتها وتركيب نسيجها. المكان: إن الرواية تعج بالأمكنة، أمكنة رئيسية (الرباط، مراكش،الدارالبيضاء،وليلي...) وأمكنة ثانوية (دوسلدورف، أفغانستان، إسبانيا) وأمكنة أخرى خاصة( الحانة، المنزل، المقهى، الطريق، الشارع...). إن هذه الأمكنة تشكل الإطار المكاني الذي تتحرك فيه الأحداث وتتشكل، خاصة مدينة وليلي وهي مقر محمد الفرسيوي وهو يشكل ذاكرة الأب وأصل العائلة وفيه تحضر الأحداث المعبرة عن الماضي. والرباط وهي مكان إقامة يوسف الفرسيوي، وهو المكان الرئيسي في الرواية لأنه المكان الذي ينطلق منه السرد ويتم فيه الاستحضار كما أن علاقات الفرسيوي تتم داخل هذا الإطار الذي يشمل الأمكنة الأخرى ( الشارع، المكتب، المنزل.) كما تحضر مدينة مراكش وهي مدينة المتناقضات، فهي مدينة البهجة واللذة والترفيه وفي نفس لوقت مدينة الفساد المستشري، فساد المضاربين العقاريين والإداريين. كما أنها تشكل فضاء الموت والمأساة حيث ستنتهي فيها حياة البطل. خاتمة: إن رواية "القوس والفراشة" نموذج معبرعن الأدب الروائي المغربي المعاصر، فمن حيث مبناها تتضمن عدة عناصر صناعية فنية كالسرد والوصف وتسلسل الأحداث والأزمنة وغيرها، وتشكل في ترابطها وانسجامها جسد الرواية ومتنها السردي. أما في معناها أي في مستوياتها الدلالية فإنها تتضمن أربعة تيمات أساسية هي : الإرهاب والفساد والذاكرة والوجدان. وكلها تتقاطع في التيمة الأخيرة لأن الوجدان والعاطفة هو العنصر الأساس في كل عمل روائي. وبالتالي فإن "القوس والفراشة" تعبر عن الزمن المغربي المعاصر بكل تناقضاته وتحولاته.

ــــــــــــــــــــــــــــ *باحث من المغرب

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم