بسام المسلّم

مع كلّ جرعاتها من الجنس والمخدّرات، وقتامة عزلتها الرومانسية المدنية وهجومها الوحشيّ على الحياة البرجوازية، لم يكن مفاجئاً أن تحظى رواية هرمان هيسه العاشرة بقراءات متباينة عند صدورها في 1927 – أو أن تصبح من كلاسيكيات مواجهة- الثقافة خلال الستينات.
شخصية الرواية الرئيسة، هاري هاللر، 47 عاماً، تعيش حياةً شديدة الشبه بالموت. فبعد أن كان مفكراً معروفاً، ينسحب هاري باشمئزاز من الثقافة الأوروبية المعاصرة، ليعيش عزلةً ذئبية، خاسراً وظيفته وعائلته وبيته، مكتئباً بالنهار، ومترددًا على الحانات ليلاً. تتعارك بداخله روحان: وحشٌ متعطش للوحشية والعزلة، وإنسانٌ يسعى إلى الثقافة والمجتمع والحبّ. يتوق هاري لقتل نفسه، لكنّه يتشبث معانداً بأيامه العصيبة من الخواء واليأس الداخلييّن.
مثل "سدهارتا"، رواية أخرى من أكثر كتب هيسه شهرةً، تدور "ذئب البراري" حول رحلة المرء الروحية نحو معرفة الذات، وفيها يستقي هيسه من أزمته الروحانية الخاصة بأنصاف عشرينيات القرن العشرين، بعد تركه زوجته، حيث عاش حياة انعزال في بازل السويسرية، مدركاً أعماقاً انتحاريةً من اليأس، والتي ربما لم يطابقها إلاّ "الظلام المرئي" للأميركي ويليام ستيرون.
لكنّ هرمان هيسه، في ستينيات القرن، قال إن رواية "ذئب البراري" هي "الأكثر تعرضاً لسوء الفهم وبعنف أشدّ من أي كتابٍ آخر". فقد شعر هيسه أن كثيراً من القراء قد استولى عليهم تمرّد هاري ويأسه، لكنهم تغاضوا عن رحلته عائداً من تلك النقطة، والتي تبدأ عندما يلقى الشابة الجميلة هرمينه، التي تُريهِ أنه يحوي في صدره أكثر من مجرّد روحين وأن عليه السماح لكلّ واحدة منها بالإزهار.
 يبني هيسه عالماً يمثّل مستويي اللاوعي والوعي في عقل هاري ليصبح رمزاً لكلّ إنسان يعاني نوعاً معيناً من العصاب، "لا يهاجم بأي حالٍ من الأحوال الضعفاء والتافهين فقط وإنما بالأحرى أولئك الأقوى في الروح والأغنى في المواهب"
(33). يتضمن هذا العصاب: شعوراً باليأس والفوضى، والعجز عن العثور على معنى الحياة وعن حلّ لغز قدر الإنسان، وعدم القدرة على التوفيق بين مختلف المتناقضات، الشهوانية مقابل الروحانية، الزمن مقابل الأبدية، البشري مقابل الإلهي، قبول الذات مقابل الشعور بالذنب.
ترسم الرواية خريطة بحث ذئب البراري، هاري، عن المعنى، والتوفيق بين المتضادّات وبالتالي، الخلاص. بعد كثير ٍمن التوجّع والتبصّر، يعثر هاري أخيراً على الحلّ، ويصبح الخلاص ممكناً. مع ذلك، لا يبدأ هذا الخلاص إلا عندما يلتقي بهرمينه، وتتأتى له منها بصيرة نافذة إلى شخصيته. ظنّ هاري في البداية أنه نصف شرير، ونصف قدسيّ، سلّم بــ "التقسيم الواضح ظاهرياً لكينونته إلى عالمين، يعادي أحدهما الآخر" (75). ولكونه نصف ذئب، ونصف إنسان، كان الإنسان يحتقر الذئب في داخله، ويتوق إلى تدميره واقتلاعه من كيانه؛ كان هاري يحتقر الوحش الذي فيه.
في الآن ذاته كان ذلك الوحش يزدري جميع النشاطات الإنسانية باعتبارها "سخيفةً إلى أقصى حدّ، وفي غير موضعها، وحمقاء ولا طائل من ورائها" (56). لاحقاً، يكتشف هاري أن شخصيته أكثر تعقيداً من ذلك ومتعدّدة بشكل هائل: "إذ ليس هناك كائن بشري واحد أو حتى زنجيّ بدائي أو حتى أبله، يتصف بالبساطة الكافية وهو ما يسمح بتفسير كيانه وكأنه مقدار من عنصرين أساسيين أو ثلاثة. إن تفسير إنسان على قدر كبير من التعقيد. وما تقسيم هاري بسذاجة إلى ذئب وإنسان إلا محاولة حمقاء إلى أبعد حدّ. إن هاري يتألف من مئة أو ألف ذات، وليس فقط اثنتين. وحياته تتأرجح، كحياة أي إنسان، ليس فقط بين قطبين، كالجسد والروح، والقديس والآثم، بل بين آلاف الأقطاب، أقطاب لا حصر لها." (75) كثيرٌ من شخصيات الرواية تبرز وتعود لتخبو، كـ هرمينه، وماريا، وبابلو، وموتسارت، وغوته، وغوستاف، وجميعها ترمز إلى جوانب مختلفة من شخصية هاري هاللر. وبالإضافة إلى الخلاص عن طريق تبصّره في شخصيته، يدرك هاري أنه يجب أن يكون راغباً بقبول مسؤولية تشكيل وإضفاء المعنى على شخصيته والحياة. ويتعلم ذلك بزيارة "المسرح السحري" حيث "ثمن الدخول هو عقله". هذا المجاز الرائع، المسرح، يقدم رموزاً داخل الرمز حيث يوضّح هيسه بجلاء أعمال عقل هاري، من خلال غرف المسرح المتنوعة والتي توفّر له مختلف التجارب والرؤى. في المسرح يتعلم هاري تحمل مسؤولية تشكيل شخصيته الخاصة. وفي إحدى غرفه، تتهشّم شخصيته إلى العديد من قطع الشطرنج، ثم يبيّن له معلم الشطرنج أن ثمة الكثير من التحركات والتركيبات الممكنة في لعبة الحياة، كما في الشطرنج. (232) أما الشرط الثالث الذي يعزز الشفاء من عصاب هاري فكانت خاصيةً في العقل تعمل على فهم وقبول والتوفيق بين المتضادّات المزعجة. وهنا تقدم الرواية مجازًا آخر بالغ المغزى في توضيح أن بلوغ ذلك (الشفاء) متعلق بالموسيقى، التي ترمز إلى التألق والكمال، وتتولد من التضادّ: مزج الألحان، النظرية مقابل التطبيق، التجريدي مقابل الملموس، الروحاني مقابل الشهواني، الصاخب مقابل الخافت، اللحن المرتفع مقابل المنخفض، الإيقاع السريع مقابل البطيء.
وفيما يتعلق بالموسيقى وفكرة/ثيمة التوفيق (بين المتضادات) تأتي رمزية المذياع الذي يشوّه الكلاسيكيات بإعادة إنتاجها من خلال (آلات) الميتال المعدنية.
يقول موتسارت لهاري: "أنصت، إذن، أيها المسكين. أنصت جيدًا. أنت بحاجة إليها. وها أنت الآن تسمع ليس فقط مقطوعة لهاندل الذي يبقى قديساً على الرغم من تشويه الراديو له. لكنك تسمع أيضاً وتلاحظ، يا سيدي الفاضل، رمز الحياة كلها، الرمز الأكثر إثارة للإعجاب. وعندما تنصت إلى الراديو فإنك تكون شاهداً على الحرب الأبدية بين الفكرة والمظهر، بين الزمن والأبدية، بين الإنساني والقدسي." (255) وكأن هيسه يقول عبر هذا المثال إننا إذا أصغينا جيداً، فيمكننا دوماً الشعور بقدسيتنا حتى وإن كانت مغلّفة بالـ "تشويه"، ويقدم مرة أخرى رمزية داخل الرمز، وأداة توازي الرؤية التلسكوبية لإطاره السردي، أي حكايةً داخل الحكاية. في وقت سابق توظف الرواية الموسيقى لإيضاح التوفيق بين المتضادات؛ ومن ثم يضاف المذياع إلى هذه الفكرة والصورة ليكوّن تعبيراً مجازياً جديداً. ولفهم مجازية المذياع-الموسيقى، لا بدّ من إدراك أن ما يعدّ سببٌ رئيسي لألم هاري، العصاب، هو التضارب بين ثقافتين. يكتب هيسه على لسان هاري عن هذا التضارب: "لكلّ عصر، لكلّ حضارة، لكلّ عادة، ولكلّ تراث شخصيته الخاصة المميزة، وضعفه الخاص وقوته الخاصة وجماليته وقسوته، وهو يتقبل معاناة معينة كأمر اعتيادي، ويتحمل بعض الشرور بصبر. تغدو الحياة الإنسانية معاناة حقيقة وجحيماً، فقط عندما يتراكب عصران، وحضارتان ودينان. وكان جديراً بإنسان العصر الكلاسيكي أن يختنق إذا ما اضطرّ إلى أن يعيش في العصر الوسيط حياة بائسة تماماً كما يحدث لإنسان همجي وسط حضارتنا. وقد مرّت أوقات حُشر خلالها جيل كامل بين عصرين، بين نمطين من الحياة، وبهذا فَقَدَ الإحساس بذاته، وبكل الأخلاقيات، بشعوره بالأمان وبالبراءة." (34) لعلّ هاري يشير هنا إلى عالم 1927 البرجوازي بوصفه تافهاً وغريباً، حيث يتوق هو إلى "توجه جديد في عصرٍ فقد مضامينه" (40). يمضي قائلاً: "آه، ما أصعب العثور على القدسي وسط هذه الحياة التي نعيشها. في هذا العصر المملّ المخبول لما فيه من عمى روحي، بطرازه المعماري وأعماله التجارية وسياساته ورجاله. كيف يمكن ألاّ أغدو ذئباً متوّحداً وناسكاً غريب الأطوار، وأنا لا أشاطره حتى هدفاً واحداً من أهدافه، ولا أفهم متعةً واحدةً من متعه؟ إنني أعجز عن المكوث طويلاً في قاعة مسرح أو سينما. ولا أستطيع أن أحتمل قراءة صحيفة. لا أكاد أقرأ أي موقف مؤلّف حديثاً. إنني لا أستطيع أن أفهم المتع والمسرات التي تدفع بالناس إلى أن يتزاحموا في محطات سكك الحديد والفنادق، وأن يحتشدوا في المقاهي المزدحمة حتى آخرها والضاجة بموسيقى متطفلة خانقة، وفي الحانات وفي مختلف جحور التسلية، وفي المعارض العالمية وفي الـ Corsos." (43)
كما يظهر هذا التضارب بين حضارتين مجازياً في الموسيقى: "استوقفني العطر هنيهة، ورحت أشم هذه الموسيقى الصاخبة النابضة بالدم الحيّ أتنشق جوّ الصالة بغضب، وأيضاً أتحرك قليلاً بتوق نحوها وكان نصف هذه الموسيقى، هذا اللحن، مضمخاً كله بالعطر ومغلفاً بالسكر والنبرة العاطفية المفرطة. أما النصف الآخر فكان همجّياً، مزاجياً ويضجّ بالحيوية. غير أن الجزءين كانا يتماشيان معاً بتناسق يفتقر إلى البراعة، ويشكلان كلاً واحداً. إنها موسيقى الانحدار. لا شك في أنه كانت هناك موسيقى مشابهة لهذه في عهد أباطرة روما المتأخرين. وإذا ما قورنت بموسيقى باخ وموتسارت، وهي الموسيقى الحقيقية، لكانت النتيجة حتماً بائسة، ولكن هذا هو حال فنوننا كلها، وفكرنا كله، وحضارتنا المؤقتة كلها، بمقارنتها مع الحضارة الحقيقية." (52) (لاحظ أن حتى موسيقى الانحدار لها لمسة من الكمال). كان الراديو الذي يذيع الكلاسيكيات في 1927 يمثل قاعدة الثقافة البرجوازية، لكن حتى في ذلك الإطار العام، لم تتعرض قدسية الموسيقى للتدمير. هذا الوضع يرمز إلى الحياة كلها، ويقدّم توفيقاً بين الأضداد. وحول هذه الفكرة كتب هيسه على لسان موتسارت مخاطباً هاري: "عندما تنصت إلى الراديو فإنك تكون شاهداً على الحرب الأبدية (...) بين الإنساني والقدسي" (255). يقوم موتسارت بتعليم هاري ألاّ يرفض موسيقى الراديو (في رمزية إلى الحياة، وجوانبٍ معينة من شخصياتنا)، بل "أن تتعلم أوّلاً كيف تنصت!" لاحقاً يقول موتسارت لهاري "ها قد سمعت الحكم الصادر بحقك. وهكذا، كما ترى سيترتب عليك أن تتعلم كيف تنصت إلى المزيد من موسيقى الحياة التي يبثها الراديو." (258) وتقدم الرواية في النهاية نقطةً أخيرة متعلقة بالتصالح، حينما يكتشف هاري أنه يتوجب عليه تعلم "فكاهة- المشنقة"، وهنا أيضاً تحضر ثنائية الانقسام، جدية هاري مقابل انطباعٍ جديدٍ ومطلوب من الفكاهة. ومرة أخرى، يولد الانسجام (الوحدة/الكمال) من التضادّ. وعند هذه النقطة، يُتوصل (على لسان موتسارت مخاطباً هاري) إلى أن "قصصك الرومانسية عن الكفارة" لن تكون مجدية (259). أما المطلوب، بدلاً من ذلك، فالرغبة بالحياة، لا الموت، واستعداد المرء لتحمل مسؤولية تشكيل حياته، وتطوير روح الدعابة، أي اتخاذ موقف معيّن تجاه الحياة. يقول موتسارت "عليك أن تعيش، وأن تتعلم أن تضحك. عليك أن تنصت إلى موسيقى راديو الحياة، وأن تجلّ الرّوح الكامنة خلفها، وأن تضحك من الصوت الغريب فيها، هذا كل شيء، لن يُطلب منك أكثر من ذلك". ولا تزال رسالة الرواية، بعد مضي 90 عاماً منذ صدورها الأول، محتفظة بكثافتها الدينية: لا بدّ من اكتشاف أنفسنا والاستمرار في فعل ذلك. وإذا لم نفعل، فستصبح حيواتنا موتاً على قيد الحياة.
في الحياة مع الذئب، لا بدّ من توقير الروح الكامنة وراءها، في وجود مثل هذا الانقسام الثنائي، الله والشيطان، علينا أن نتعلم الضحك. وإذا كان هيسه محقّاً، في تلك الحالة، فعالمٌ من الانسجام النابتِ من الأضداد سيكون جزءًا أبدياً من مستقبل الإنسان.
إنّ "ذئب البراري" رواية عن – وبشكلٍ مطلق ضدّ- الانتحار. وبكل توصيفاتها الفصيحة، بوحشية، للعذاب والعزلة، فهي بشكلٍ أبلغ عن شيء أقل سحراً، لكنه أكثر أهميةً: الشفاء.
ــــــــــــــــــــــــــــ *هوامش: تم إعداد المقال وترجمته عن: كريس كوكس (الغارديان 2013)، وآر. آلن هاكوورث (2007)

  • هرمان هيسه، أديب ألماني/ سويسري، نال نوبل الآداب 1946
  • المقتطفات العربية من "ذئب البراري" مأخوذة عن إصدار "مسكيلياني للنشر والتوزيع" الطبعة الأولى 2016 ترجمة: أسامة منزلجي.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم