«أفاعي النار» لجلال برجس

تلخص رواية «أفاعي النار» للكاتب جلال برجس مرحلة مفصليّة من مراحل أزمة المثقف العربي في وقت حرجٍ جداً تمرّ فيه الأمة، أزمة تتلخص ملامحها في ضبابية تمس تحديد «الآخر»، وتقسم « الأنا » على ذاتها في مشهد يقسو على الذات أيما قسوة. لقد أفلحت هذه الرواية برسم ملامح «الآخر» بعيداً عن الغرب المستعمِر بوصفه «آخر» نمطياً، بل جعلت الآخر الجزء الضال من الذات لا بد من تصحيحه قبل التأمل في الخصم الحقيقي المنمّط. من هنا لا نجد هذا العمل يرصد أي قيمة إيجابية أو سلبية للغرب، بل هو منشغل تماماً بفحص الذات وتجزيء «الأنا».

الرؤية:

تظهر ملامح الأنا في هذا العمل في صورة تمجيد للعقل والنور والثقافة والإيمان، في وجه الجهل والخرافة والتطرف والبهتان، وصولاً لمجتمع – والقول هنا لبطل الرواية: «يتجاوز كل المفاهيم الخاطئة التي طرأت مؤخراً على الممارسات الاجتماعية والدينية». والوصول إلى مثل هذا المجتمع يتطلب من الكاتب التورّط في نقد الخطاب الديني المعاصر وفرزه إلى خطابين؛ معتدلٍ يدعو للحرية والعدل والمساواة والتراحم، ومتطرف يدعو للقمع والقتل والتشدّد. وقد وظّف الكاتب صنفين من رجال الدين، حقق الصنف الثاني منهم فروقات على الأرض وفرضوا شروطهم وأحكامهم؛ لذا لمسنا الرواية في جنباتها تهجس بويلات المستقبل وتشكو من ضبابيته، وهنا لا بد من التنويه إلى تأثر الكاتب بطروحات الخطاب الإعلامي المعاصر في حسم بعض القضايا الجدلية، ورسم ملامح قد تكون غير مكتملة للآخر المتطرف. لقد انشغلت هذه الروايةّ بتصنيف الشخصيات إلى قائمتين؛ بيضاء وسوداء، تبعاً للانقسام السابق، فمن كان مع العقل والاعتدال كان في الخانة الأولى، ومن كان ضد الاعتدال والعقل رصد في الثانية، والطريف أن هذا التصنيف مرّ على ثلاثة أجيال متتابعة. تقول إحدى الشخصيات انتصاراً لبطلها: «ها أنتم تصوبون إلى رأسه المليء بالعلم بندقيتكم بينما رؤوسكم تمتلئ بالوهم والخرافات». ومن الطريف أيضاً ذلك التوصيف المتناقض للوطن، فالوطن ليس إيجابياً دائماً، فأحياناً يطرد الوطن أبناءه، وأحياناً يجذبهم ويمكّنهم وأحياناً يستدرجهم ليقتلهم، كما حدث لعلي بن محمود القصّاد الذي لقى حتفه حرقاً في قريته من بعض أبناء قريته. إن حسّ المسؤولية العالي الذي يهجس به هذا العمل صرف الكاتب عن المجاملات والعواطف تجاه الوطن وأبنائه المنقسمين، إذ لم يتوانَ عن تقديم النقد تجاه قضاياه الحسّاسة وقسوته وظلمه، ولكنه الوطن يبقى فوق الجميع. يعيش بطل الرواية هجرتين، الأولى هرباً من ظروف الوطن إلى فرنسا، والثانية هرباً من واقع الاعتداء عليه في فرنسا وحرقه وتشويه ملامحه، والمفارقة أن الـهجرة إلى الشمال (المتحضّر) اختلفت ملامحها، فلم يذهب «ابن القصّاد» إلى فرنسا مفتقراً للفكر والثقافة ككثير من أبطال الروايات الأخرى، بل ذهب مساهماً في محاربة التطرف بالكلمة، ولم يعد إلى وطنه إلا بعد أن تخلى عنه الغرب في حربه ضد التطرف، ويمكننا تمثل حركة البطل على النحو التالي: الولادة (القرية) - عمان - فرنسا – عمان - القرية (الموت). هذا الازدواج في الهجرة ربما يعود سببه إلى رغبة المثقف في مواجهة قضايا مجتمعة مباشرة لا أن يهرب منها. وبطل الحكاية يهجس بقضيتين على مدار الرواية؛ الوطن ممثلا بقريته، والمعشوقة ممثلة بفتاة اسمها بارعة رفض أهلها أن يزوجوه إياها لأنه أحبها. هذه الأخيرة كانت طالبة مميزة من طالباته ساعدها «ابن القصّاد» على التحليق فوق قيود المجتمع الوهمية وأنساقه المتخلفة، فقد تعهدها بالكتب والأعمال الأدبية العالمية فرفع بذلك مستوى وعيها وحلق بها عالياً. إن الكاتب في هذا العمل ليقدم فيما يقدمه إعادةَ تحديد لمسؤوليات المثقف حيال قضايا مجتمعه، فالمثقف لا يكتفي بالقراءة والتنظير فحسب، بل عليه أن يحوّل ثقافته إلى سلوك حتى لو قدم حياته ثمناً لذلك، والمثقف لا بد أن يكون حليماً تجاه ما يعرض له من قضايا وليس مندفعاً مأزوماً، والمثقف يجب أن يكون شجاعاً قيادياً على خطّ المواجهة لا أن يقبع خلف الجموع والمتجمهرين يقيّم أعمالهم، ولو اقتضى الأمر عليه أن يعتلي منبر المسجد ويخطب بالناس كما فعل «ابن القصّاد» مع أبناء قريته. إن فكرة العودة إلى الأصل فكرة فذّة قدمها الروائي في عمله، فالمثقف يعود إلى وطنه وقريته وبيته، والراوي «خاطر» شغوف بأمه ويبحث عن ملامحها، و«ابن القصّاد» يتوق لمعشوقته ويبقى وفياً لها.

الترميز:

اهتم جلال برجس في روايته بالترميز، والترميز أداة للتكثيف، فقد اختصر الواقع العربي في قرية «ابن القصّاد»، كما اختصر عقلية التطرف والخرافة بشخصيتي «القميحي» و«المشاي»، ورمز لانقطاع الصلة بين الرجعي والتنويري بانفصال «لمعة» عن «القميحي»، ورمز لقوة المرأة وتقدمها بشخصية «بارعة المشاي»، ورمز للجهل والخرافة والتطرف بالنار التي تلتهم أيّ شيء ولا تتركه إلا مشوّهاً. لقد حضرت النار بقوة في عمل «أفاعي النار»، فهي في العنوان مرة، وهي من حرقت بطل الرواية مرتين؛ شوهته في الأولى، وقتلته في الثانية، وهي من أحرقت كتب «بارعة» ومقتنيات «ابن القصّاد»، وهي من هدّدت حياة «خاطر» وأحرقت روايته وجهاز حاسوبه، إلا أن الروائي وشخوصه قاوموا النار بجرأة واعتقدوا اعتقاداً جازماً أن «النار لا تطال الغرف السرية» كالأحلام والأفكار، ولكنها قد تحرق الأجساد والكتب والمقتنيات، هذه النار العجيبة حاضرة في الأجيال الثلاثة التي تصورها الرواية أكان في جيل الآباء أم الأبناء أم الأحفاد.

الأداة:

وحتى يحقق الكاتب في هذا العمل رؤيته، كان لا بد له من أداة تشفع له تقديم كل هذا التناقض؛ فقد لجأ الكاتب لأسلوب الميتاقَصّ؛ فالحكاية تحتضن حكاية أخرى، والرواية تسير بنظامين متوازيين لا يلتقيان إلا في المقطع الأخير. فنجد قصة الصحفي «خاطر» وزوجته «رحاب» و«الحكاءة» المتخيلة يشكلون الإطار العام للرواية، أما حكاية «علي بن محمود القصّاد» فترويها الحكاءة في الحلم الطويل الذي غطّ فيه «خاطر» لتشكل جوهر العمل. إنّ هذا النمط من السرد التضميني شاع في حكايات «ألف ليلة وليلة» على لسان شهرزاد، وتكرر في رواية «دون كيشوت» لسيرفانتيس، وها هو يتكرر بصورة الحكاءة «بارعة المشاي» والدة «خاطر» كما يظن هذا الأخير. وهذا النمط من السرد جاء تأكيداً لحالة التوافق الحاصلة بين أبناء الأجيال الثلاثة الذين يسلمون لبعضهم بعضاً رسائل ومبادئ مهمة لتقييم مسار المجتمع، كما ظهر هذا السرد أشبه بالسند في الرواية، فأخبار «ابن القصّاد» رواها جلال برجس في روايته عن «خاطر»، و«خاطر» رواها عن أمه «بارعة»، و«بارعة» روتها عن «لمعة»، و«لمعة» أخذتها من «ابن القصّاد» نفسه، لتكتمل سلسلة السند وتتأكد موثوقية الخبر من الرجال والنساء على حدٍّ سواء. يؤدي الخطاب الميتاسردي أو الميتاقَصّي داخل النص الإبداعي مجموعة من الوظائف والأدوار، ويمكن حصر هذه الوظائف في إغناء السرد وإثرائه نقداً وتخييلاً وتوجيهاً؛ وخلق نص سردي بوليفوني، متعدد الأصوات، والأطروحات، واللغات، والأساليب، والمنظورات الأيديولوجية؛ وتكسير الإيهام بالواقعية لإبعاد الوهم والاستلاب عن المتلقي؛ والتأرجح بين التخييل الإيهامي والحقيقة الواقعية؛ وإشراك المتلقي أو القارئ في بناء اللعبة السردية تخييلاً وتوهيماً؛ وممارسة النقد داخل النص السردي تنظيراً ونقداً. ومن التقنيات السردية التي ساهمت أيما مساهمة في إنجاح العمل، تقنيةُ الحلم، فحكاية «ابن القصّاد» كلها أخذت من الحكاءة خلال حلم طويل لـ «خاطر» تحت شجرة توت. واللجوء إلى الحلم بهذا الشكل المركّز جاء هروباً من الواقع القاسي الذي يعيشه راوي الحكاية؛ فـ «خاطر» عاجزٌ أمام تكلسات المجتمع وانحداراته، منهارٌ أمام تقلباته، فكان اللجوء إلى الحلم شكلاً من أشكال تأسيس عالم جديد يمتلك فيه «خاطر» حرية التصرف والتنقل والوصف والتحليل، وهذا الأمر لا يستطيعه على أرضه الواقع. كما أن «الحلم» قدّم للرواية حصانة للأفكار والمبادئ التي يهجس بها «خاطر» ومن ورائه الكاتب، فأمام «أفاعي النار» التي طالت «ابن القصّاد» مرتين وكُتب «بارعة» مرة ومقتنيات «ابن القصّاد» مرة وجزءاّ من منزل «خاطر» وحاسوبه الشخصي الذي أودعه روايته مرة أخرى، لا بد من البحث عن مكان آمن بعيداً عن الخرافات والأوهام والتطرف والغلو، فكان الحلم آمَنَ مكان يحفظ كل ذلك. يقول جلال برجس في روايته: «إلا أن النار لا تطال الغرف السرية»، والأحلام أفضل هذه الغرف وأكثرها حصانة أمام أفاعي النار. لقد برع الروائي في توظيف حبكة مفككة لعمله تحاكي تشظي الواقع وتناقضاته، فمارس لعبة الهروب بين الواقع والحلم، وبين السرد المباشر والسرد من المذكرات، وعدّد بين أصوات الرواة، فمرة يروي «خاطر»، ومرة تروي الحكاءة أمّه، ومرة تروي «لمعة»، وهكذا. إن قيمة هذا العمل لا تتأتى من فنيته فقط، بل من جرأته في طرح قضايا من الواقع تتوافق مع ما يشغل ذهن المثقف العربي المتعب، وهي قضايا تشكل في ذهن قارئها حالة من الحوار المفتوح الذي لا ينقضي بانتهاء العمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم