لايزال أدب السجون أو أدب الاعتقال يستأثر بالكتابة السردية في العالم العربي، ليس باعتبارها كتابة تروم الكشف عن أفاعيل أنظمة ديكتاتورية تفرض سلطتها بالقوة و القمع في وجه معارضيها، و تمنع ضحاياها من أداء ما كان بإمكانهم فعله، و الحصول على ما كان بوسعهم الحصول عليه، و إنما أيضا بوصفها تجربة إنسانية وجدت على مر العصور في كل أرجاء العالم، ذلك أن الاعتقال و التعذيب من الأمور الملازمة للتاريخ البشري. أينما كانت هناك سلطة قمعية، كان هناك معارضون. على أن هذه الكتابة لم تبق حكرا على من عاشوا التجربة فعليا، و صاغوا شهادات أو نصوصا تدين القمع و تؤرخ له، بل ثمة من كتب عنها خلال ما روي له أو قرأ عنه. و رغم أن من سمع ليس كمن رأى، فإن مثل الكتابات كيف ما كانت تنزع إلى المساهمة في كسر تابو السياسات المستبدة على الأقل في العالم العربي. في هذا السياق، تندرج رواية طيور العتمة للروائي و القاص السعودي، ماجد سليمان الذي دبج يراعه من قبل روايتين: عين حمئة(2011) و دم يترقرق بين العمائم و اللحى(2013)، و مجموعة قصصية موسومة ب نجم نابض في التراب(2013). من خلال متخيلها السردي تروم طيور... استجلاء أساليب الجلاد المتعددة في إذلال ضحيته، حيث يغيب البعد الإنساني بغية إثبات ذات السلطة المستبدة. في البدء يعلن المؤلف الضمني عن ميثاق يعقده مع القارئ المفترض من خلال المناص الثاني المعنون بإضاءة " أن النص محض خيال، و ما ذكر لا يجب أن يُحال إلى أحداثٍ و شواهد حقيقية أو أشخاص حقيقيين..." و بذلك يؤكد النص كونه متخيلا روائيا يفارق الواقع في الأحداث، و يتعالق معه في مكوني الشخصيات و الأمكنة، باعتبار أن السجن من حيث هو فضاء مغلق من صنع البشر للحد من الحرية و قهر الذات. إذ أن الحيوان يفترس ضحيته لكنه لا يسجنها. و من ثمة فالإنسان حيوان سجَّان تحذوه النزعة السادية كما سنرى، في حين يأتي المناص الأول الموقع بالحروف الأولى للمؤلف الأصلي، م. س. المحيلة على ماجد سليمان، شكل معادلة رياضية: حين... فما هذا إلا... " حين تُبهمُ الهوية، و تُصهر الحرية، و يتداعى بنيان العدالة، و تصبح قيمة الإنسان مجانية، ستُحجِم الأنفس و تكمل طريق الغياب عن أوطانها، فما هذا الوطن إلا ليلٌ مسجور، و شعبٌ مقهور، و سيف مشهور، و قبرٌ محفور." و لما كان المناص الثاني يحمل وظيفة ينعقد فيها ميثاق المؤلف الضمني مع القارئ المفترض، فإن المناص الأول يحدد طبيعة الموضوع الذي يتناوله هذا المتخيل، بتوكيده بأنه لا ينزاح عن الواقع، خصوصا من حيث الشخصيات و الأمكنة. إنه الإيهام بالواقع، ذلك أن الوطن يفترض شعبا، و قبرا، و سيفا مسلطا على الرقاب. من هنا يشرع النص فصوله على فضاء مشبع بالقهر و الإذلال من خلال الضيافة أو حفلات التعذيب الذي يتعرض له المعتقلين الثلاثة عشر. غير أن ذلك لا يعدو كونه استراتيجية تغياها المولف الضمنى للزج بالقارئ المفترض في عوالم تخييلية تبعده عن و ضع الإصبع على وطن محدد، لكنها تدعوه لتمثل ما يجري في كل وطن تنعدم فيه هوية الإنسان و حريته. الوطن الذي يصير ليلا مسجورا/ متقدا بنار الظلم و إذلال الذات. من ثمة فهذا المتخيل رواية تؤرخ لكل سلطة تدوس كرامة الإنسان، و لكل مستبد لا يتأتى له الاستبداد و السيطرة إلا بقدر ما يكون هو الأقوى. أو كما أورد جورج طرابشي: " في الرواية التي تؤرخ فإن التاريخ هو الحاضر و إن لم تحضر أحداثه" ( ص. 53) يأتي النص في شكل عشر كراسات/ كراريس تتراوح فصولها ما بين فصلين وأربعة فصول مرقمة. كل نص يسرد مشهدا من مشاهد التعذيب إلى أن يقضي المعتقلين باستثناء الراوي برهان الذي يظل حيا رغم كل شيء ليس لتدوين هذه الكراريس و حسب، و إنما للبرهنة على ما حدث و ما يحدث، ذلك أن الاسم يشكل إحدى الأدوات الأكثر فعالية في الإيهام بالواقع كما تمت الإشارة إلى ذلك من قبل: " أما أنا فقد قرأوا علي صورة من الحكم الصادر بحقي بأن أموت موتة طبيعية، كانوا يريدون أن تكون أمنية الموت هي قاتلتي، و ها أنا أنتظر المنية لتدفق لعابها على روحي.(ص. 126) من ثمة كان اسمه المحيل على صفته: برهان. إضافة إلى أن عناوين الكراريس باعتبارها مناصا ثالثا تبدو مثل قصيدة نثرية تتكثف فيها الإستعارات و تلخص بذلك مجمل النص. يتم اعتقال الرفاق الثلاثة عشر بسبب " اتهامنا بالانضمام إلى خلية صغيرة كادت أن تضبط مخططا انقلابيا في قاعدة الجيش، و ذلك بدعم مالي عالٍ، و أجندة متعاونةٍ داخل السرايا و الكتائب، و بعض القيادات الكبيرة..."(ص. 10). لعل رقم ثلاثة عشر ذو دلالة هامة لكونه يحيل على سوء الطالع، و المصير الذي سيلقاه المعتقلين. على أن ما يغيب هو التحقيق كحق إنساني فيما يُستحضر التعذيب المفضي إلى الموت. كل رفيق يلقى موتا مختلفا. فمن الغطس في الماء إلى عضات الكلب و لسع الثعابين إلى الانتحار إلى الإخصاء إلى غير ذلك من صيغ القتل لدرجة يصبح فيها المعتقل يلتمس الموت. يصرخ ميمون: " – أين الموت؟ !"( ص. 18) بل يصبح الموت خلاصا " أيها الموت لقد أبطأت بخلاصنا !" و أرحم من العذاب الذي يعيشه المعتقل في ظل وضع تنتفي فيه كرامة الإنسان حيث يغيب البعد الإنساني ليجد المعتقل نفسه أشبه بحيوان: " أخرجونا تحت الظهيرة كالقطيع، و صلبوا أجسادنا في جهنم الشمس على أخشاب غليظة كأرجل الفيلة..."(ص. 23) أو " – كلوا أيتها الجيف."(ص.33) أو "... نحن أسفل السقف كقطط مريضة أنزلها أطفال الحي و تقاذفوها بالأرجل و العصي..."(ص. 47) أو " غذونا كديكة منتوفة الريش مما على هيئاتنا من عذاب."(ص. 48) أو "كغربان أحناها العجز و أثقلتها الكهولة...(ص.54). تجلو هذه التوصيفات أعمق مظاهر الإذلال إذا ما رافقه توصيف الأمكنة التي يزج بالمعتقل فيها. ذلك أن النص يحفل بتصويرها في كثير من الصفحات: "نظرت إلى أصابعي فبدت و كأنها مقروضة. لا شيء يمضي سريعا في هذا المكان، حتى حركات أعيننا و رمش أهدابنا غدت بطيئة من كثافة الظلام و اشتداد الرائحة الكريهة."(ص. 54) يصير الإنسان- الضحية و الجلاد- جزء من طبيعة هذا المكان: " أبعدت وجهي عن أنفاس فمه الكريهة التي تبعت سؤاله..."(ص21) في ظل هذا الوضع اللاإنساني لا يتبقى للمعتقل أمام الموت الوشيك سوى الاحتماء بالذاكرة كملاذ و كمقاومة. ما إن يشرف، برهان، الراوي المتماثل القصة على الموت و يسقط في غيبوبة حتى تتبدى له كاتلين، بوصفها المنقذ من هلاك محتوم:" خرجت من يباس شفتَي كنداء ظامئ، ألم لثتي و دم فمي امتزجا بحرارة اسمها حين فر من لساني، لقد أنستني هذه اللحظة كل وجع السجن و لهيب أيامه،..."(ص.39) ثم " و هم يضربونين بالخيزران الندي كانت كاتلين خيالا اضطجع جانبي، تلثمني كي أغيب عن حرارة اللسع الهاوي على عريي الهزيل."(ص29). هكذا تصير المرأة مبعث قوة داخلية بها يقاوم المعتقل عذاباته، أو حين يتم تجريده من كل شئ مادي يذكره بعلاقته بالمرأة: " كان مغفور أسوأنا حظا، حيث نزعوا خاتم زواجه من إصبعه، و بذلك يكون قد فقد آخر تذكار للذته،..."(ص.36). بذلك تشكل الذاكرة إحدى الدعامات التي يستند عليها المعتقل لمراوغة الموت. و إذا كانت الذاكرة مقاومة لموت مؤجل، فإن السخرية هي أيضا أحد أشكال المراوغة. بعكس المفارقة التي تفصل بين الداخل و الخارج و المتمثلة في اللافتة الصغيرة على باب السجن "رفقا بالسجناء فهم آدميون"، بما هي تمويه، يسخر المعتقلون من جلاديهم:" بعد منتصف الليل انقلب المكان من ضحكنا و سخريتنا التي قاربت الجنون إلا قليلا، حيث لم يبق جندي أو حارس لم نجعله سخرية على ألسنتنا، لدرجة أن جلودنا كانت تضخ العرق من فرط الضحكات و التشبيهات الساخرة بهم."(ص.43). إن الرهان الحقيقي للنص تجلوه السخرية التي من خلالها ندرك وجهة الراوي الحقيقية. هكذا إذا كانت العبارة في اللافتة تشكل خطابا إيديولوجيا مزدوجا و مواربا، يشير إلى التناقض بين النظرية و الممارسة، فإن سخرية المعتقلين التي تتم في الليل تجلو الدلالة الحقيقية للعبارة داخل أسوار السجن، مثلما أنها تشكل لحظة عزاء لهم. في شكل استرجاعي، يأتي النص كاستعادة لوقائع التعذيب التي يمر منها المعتقلون خلال تحقيق معد سلفا بدون محاكمة عادلة: "أخرجوني من الغرفة بعد أن احترق إبهامي من كثرة ما غاص في وسادة الحبر الأسود، و يُضغط به على ورقة الاعترافات التي كانت مدونة سلفا، و معدة الأسئلة قبل مجيئي لأخذ أقوالي، كذلك فعلوا بالرفاق حسب ما رووه لي بأنفسهم."(ص. 52) ثم في نهاية النص يقول الراوي: " أما أنا فقد قرأوا علي صورة من الحكم الصادر بحقي بأن أموت موتة طبيعية، كانوا يريدون أن تكون أمنية الموت هي قاتلتي، و ها أنا أنتظر المنية لتَدْفِقَ لُعابها على روحي."(ص.126) هكذا يمتد النص ليسرد كل أنواع الأذى الجسدي المفضي إلى التصفية الجسدية بالنسبة للمعتقلين الآخرين، و يظل الراوي، المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة من طرف نظام مستبد يسحق كل من يقف عقبة أمام تسلطه، شاهدا على فصول من مسرحية بطلاها ضحية مجردة من إنسانيتها و جلاد له كل صلاحية في التصرف بأوراح العباد. فأنواع التعذيب و هدر الكيان الإنساني الذي يجلوه النص يحيل على انعدام الصفة الإنسانية للنظام الاستبدادي، " و بالتالي فسجانوهم يعطون لأنفسهم حرية التصرف بكياناتهم بدون روادع أو حدود."( حجازي، ص. 128) يقول برهان: " ... لكل منا طريقة للموت يحدودنها سلفا."(ص 83) على أن أقسى أنواع التعذيب الذي يتعرض له معتقلو طيور العتمة يجد تمثيله في توريط المعتقلين في قتل رفاقهم من حيث هو تعذيب نفسي يهدف إلى فقدان المعتقل لتوازنه. يقول برهان عندما يجبرهم الجند على إغراق مغفور في البرميل: " ننظر إلى بعضنا و كأن كلا منا يتهم الآخر بجريرة القتل الجماعية."(ص. 37). يسعى الجلاد إلى تحطيم معنويات المعتقلين من خلال التشفي بهم بوصفهم أعداء السلطة المستبدة التي يخدمها الجلاد الذي " يتحول إلى مجرد أداة أو أسطورة و يفقد صفته الإنسانية كآخر حين يحول الضحية إلى أسطورة".( حجازي، 153) و هكذا يتلذذ الجنود بآلام ضحاياهم مما يمثل سادية ذاتية، غير أن الضحية تظل الأقوى:"- لن تكسبوا من عذابي غير العذاب"(ص.113) إن ما يقوم به المحقق مع برهان، تبعا لذلك، يجلو رغبته في إثبات الذات و عدم الإحساس بالخواء الذاتي و العجز و اللاقيمة، لكونه، من بين أشياء أخرى، الحارس الأمين لسلطة الطاغية: " و دفع بإبهامي نحو أنفي ليطبع على أرنبة أنفي و هو يضحك و يضحك و يضحك، ثم أمر الجندي الواقف خلفي: - خذوه."(ص52) و بعكس المعتقلين الذين يقدمون بأسمائهم و أعمارهم، لا يتم منح اسم لأي من الجنود أو المحققين ما عدا مظهرهم الخارجي المحيل على القوة الجسمانية و القسوة. هذا التوصيف يجعل منهم نكرات. نجد ذلك في جل الكتابات عن الاعتقال. مرد ذلك كونهم في الحقيقة لا شيء إنسانيا خارج المعتقل، فكنكرات، ليس بإمكانهم إثبات ذواتهم، إلا بإسقاط خوائهم على ضحاياهم. و لذلك فهم كذلك ضحايا و أدوات في خدمة السلطة. و هذا ما يزيد في حدة ساديتهم. يبدو ذلك في عدة مشاهد في الرواية مثل حدث الثعابين، و الكلب أو حين يقتل برهان رفيقه نضال مجبرا و يصفق له الضابط: " فتحت عيني على صوت الضابط و هو يصفق لي قائلا:- عظيم... عظيم... عظيم."(ص.78). هذا الخواء المفضي إلى الخنوع يقابله امتلاء مرده إحساس المعتقل بالظلم و رفضه لاستبداد السلطة. يقول بنيامين:" – لم أنتسب لبلاط، و علاوة على نكد حظي و حقي المبخوس عشتُ منتقصا محروما، لكن حاشا أن أكون كلبا للوزراء".(ص. 85) لئن كانت طيور العتمة تحكي عن السلطة المستبدة التي تدمر جسديا و نفسيا كل من يعارض ممارساتها القمعية، تدمير ينوس بين القتل بشتى أنواعه و الانهيار المفضي إلى الانتحار و الجنون، فإنها لا تشير بالإصبع إلى سلطة مستبدة معينة بقدر ما تسهم في الـتأريخ لأي سلطة تفرض ذاتها بحد السيف. إن " الرواية التي تؤرخ تقول ما وجه العظمة في الناس الذين يموتون من أجل الفكرة العظيمة"( طرابشي، 79) فكرة العدالة الاجتماعية و حق الإنسان في العيش الكريم. ف "حاشا أن أكون كلبا للوزراء" التي يتلفظ بها بنيامين، و يوردها برهان مرتين، تشكل المحرق الذي يشيَّد عليه النص، باعتبارها صرخة في وجه الظلم و الفساد. و من ثمة فليس مدعاة للاستغراب أن تتم عنونة الرواية ب طيور العتمة باعتبار أن الطيور تحيل في رمزيتها على الانطلاق و الحرية، فيما تستدعي العتمة ظلام السجن و ما يصاحبه من تحقير و إذلال للذات، أو ما يرافقه من محاولة لتدمير أسطورة الشر و السوء من وجهة نظر الجلاد. و قبل كل ذلك إلغاء إنسانية المعتقل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ماجد سليمان، طيور العتمة، دار الساقي، الطبعة الأولى، بيروت، 2014 جورج طرابشي، الأدب من الداخل، دار الطليعة، ط 2، بيروت، فانسون جوف، شعرية الرواية، ترجمة لحسن أحمامة، دار التكوين، الطبعة الأولى، دمشق، 2012 مصطفى حجازي، الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت، 2005

"روائي وناقد ومترجم من المغرب."

عن جريدة العلم المغربية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم