المنفى وحرية الكتابة أن يكون المثقف منفيا يعني أن يكون حرا مستقلا في مناقشته ومعالجته للقضايا الإنسانية، في طرح رؤاه الحقيقية للمجتمع وهو ينظر إليه من بعد يحلل ويقارن وينقد وينتقد من دون قيود القرب، ومراعاة صلاة القربى السياسية والثقافية والاجتماعية، هذه الوضعية التي تحدث عنها ادوارد سعيد في العديد من كتاباته النقدية وأهمها كتابه "صور المثقف" التي تتيح للمثقف عرض رؤاه بأريحية أكثر. ففي "صور المثقف"، وفي معرض تناوله للعلاقة بين المثقف والمنفى، اعتبر سعيد قضية المنفى بالنسبة للمثقف قضية إيجابية، اعتقادا منه أنه يضع مسافة بين الذات وأي انتماء ضيق للأيديولوجيات التي من الممكن أن تمنع المثقفين من ملاحظة الإشكاليات وبالتالي الحكم على القضايا بشكل موضوعي. وهذه المسافة مطلوبة وضرورية لأنه هناك قضايا كثيرة في المجتمعات العربية بحاجة إلى معالجة حرة وجريئة وبحاجة إلى كتاب يعيشون في منفى حقيقي أو افتراضي يمكنهم من التعبير والتمثيل والمعالجة الجادة لقضايا مجتمعاتهم التي نفتهم إلى الخارج بعين المحب وليس الحاقد الناقم على المجتمع. الكتابة في المنفى تعني أن تكون مستقلا في الكتابة وأن لا يخضع النص تحت ظروف المجاملة أو الخوف من المساءلة الاجتماعية السياسية أو حتى الدينية، لذلك أرى الكاتب الروائي ناصر الظفيري، قد تجاوز في روايته شروط الكتابة المحايدة والمداهنة للمجتمع بكتابة نص جريء يجرح فيه ويحرج أيضا مجموعة من الروايات الرسمية لبعض العادات الاجتماعية المسيطرة على ذهنية المجتمعات التقليدية والتابعة للثقافة الأبوية بكامل طقوسها. كتب الظفيري ثلاث روايات متصلة بموضوع واحد تسمى جميعها ثلاثية الجهراء إذ ينحو فيها إلى تأريخ سيرة ذات في تفاعلها مع مكان قد تكون جماعية في العملين الأولين : "سماء مقلوبة" و "الصهد"، بينما في العمل الأخير، "كاليسكا" جاءت الجهراء مكانا يحتوي الأحداث، وتتحرك الشخصيات فيه مثلما تتحرك في بقية الأماكن كالجامعة، ومنزل أسرة رشا وأخيها العقيد. إلا أن ذات الشخصية الرئيسية العواد هي محور الأحداث، فدائرة السرد ركزت على حياة العواد وكل من هو معه أو ضده، وما الفصول الأولى إلا فصول تمهيدية لتشابك العلاقات بين العواد وغيره من الشخوص.

عالم الحكاية: اكتمال ثلاثية الجهراء في "كاليسكا" اكتمال لثلاثية منفي غادر المكان الأكثر تواترا وترددا على الذاكرة السارد، الذي يتحرك من إشكالية فقد الهوية والفقر وثقافة قبيلة/عنصرية تسيطر على المكان تحاول التحرر والانطلاق والاندماج مع الآخر إلى أنها تعيش صراعا كلاسيكيا أقوى من ظروفها وكينونتها فتسقط في المنفى الاجباري لأن وجودها يشكل خطرا على أحد الأشخاص المتنفذين فيها العقيد اليزاز. في كل من الروايات الثلاث يعرض ناصر الظفيري لإشكالية الهوية هوية البدون أو من سيصبح بدونا لأنه أخطأ في حق أحد المتنفذين. تبدأ ذاكرة السرد بالتدفق من تفاصيل يوميات الجامعة، شاب طموح "عواد" فقير، ترتبط به فتاة من طبقة غنية، وهذه الفتاة هي وريثة شرعية لنفس صورة المرأة النمطية في الأعمال السابقة، محبة وطموحة تهتم دوما بابن هذه الطبقة الفقيرة، ويحدث الصراع في هذه الرواية بين الغني والفقير بين من يملك سلطة ومن يملك فن، وقلب مخلص لحبيبته رشا. تنقد الرواية بشكل أساسي عنف التقاليد المتمثلة في شخصية العقيد، وقوة النضال والمقاومة في شخصية العواد من أجل الوصول إلى حلم في الاندماج والانصهار في نسيج اجتماعي واحد، وما الحب والنسب إلا الشكل الرسمي لقوة الاندماج بين أفراد المجتمع ومكوناته المختلفة. لم يستطيع أبطال الظفيري في رواياته السابقة تحقيق هذه الرغبة، فحاول أن يعود بشخصية العواد لتحقيق هذه الرغبة الواعية في العيش في مجتمع متحاب متصالح منسجم بصورته الكلية. ولكن لم يكن للعواد ما أراد بل أنه خرج من دائرة الصراع حاملا ذاكرة ملغومة بالحقد والكراهية لما صنعه به العقيد اليزاز دفاعا عن أصل ونسب غير عريق، ولكنه بالمال والمنصب خلق له أسطورة وهمية سرعان ما تقوضت أمام معطيات الواقع. فكان الانتقام لتاريخ من العنف النبذ والإقصاء والذل والإهانة هو الحل للتخلص من فداحة الذاكرة الصادمة بكل تفاصيلها الموجعة. يحاول العواد الانتقام من شخصية العقيد، على طريقة الأدباء المسالمين الذين يكرهون حمل السلاح ورؤية الدم بما أسماه فصل القيامة وللقيامة هنا دلالة إيحائية تتمثل في فكرة العدالة من ناحية منطقية وسماوية، وقيامة دنيوية من ناحية قانونية إجرائية في القانون الكندي.

سرد ما بعد حداثي، لأزمة حداثية رغم توافر بعض العناصر الحداثية في النص. تعدد الرواة، والعنونة الفرعية، وفكرة المنفى والهجرة، الرواية تعيش حالة البين بين، جمعت في الصراع العناصر التقليدية، ولكن في شكلها السردية تنطلق من سرد ما بعد الحداثة من تعدد للرواة وانطلاق عدة أنواة شخصية تعبر عن أحلامها الخاصة وقصصها الهامشية من مثل (فتاة طارئة على الحكاية)، حتى في عناوينها الفرعية ترتبط بالأفكار ما بعد الحداثية: (فتاة طارئة على الحكاية، بدايات غير محكمة كما يجب، بدايات أكثر إرباكا، نهايات مرسومة بدقة أكثر، بداية غير محسوبة العواقب،الطارئون على الحكاية، مهاجر، شرطة وكلاب طارئون على الحكاية).

بالإضافة إلى معالجتها لقضايا الأنا والآخر بعدة مستويات، الأنا البدوي/ مقابل الحضري، البدون/ الكويتي، الفنان المنفصل عن المجتمع/ العقيد المتصل بعاداته وتقاليده، الأنا العربي / الأنا الغربي. الجديد في هذه الرواية أن الظفيري أكمل في هذه الرواية جزءا مبتورا من رواياته السابقة، وهو جزء المنفى وما يحدث لشخصياته في المنفى الكندي دوما، ففي "سماء مقلوبة" توقف السرد عند رحلته في الطائرة، وفي "الصهد" تطرق بشكل عرضي لإجراءات الإقامة في كندا وبداية يوميات المنفى، وها هو في هذه الرواية يسبر أعماق هذا المنفى ليكشف عن تفاصيل يومية أكثر لهذا المنفى متطرقا للسكن والعمل والعلاقات الإنسانية ومقدما علاقات الأنا والآخر بقالب فني ممتاز بحيث لا تظهر هذه الأفكار بشكل أفكار مؤدلجة بل ناتجة عن تصورات الشخصيات التي تفرضها المواقف الطبيعية، وهي إن كانت تعكس مواقف الأنا والآخر فهي كذلك تعكس الموروث الثقافي لكل من الطرفين على سبيل المثال موقف العواد، (أو فهد غانم الاسم الجديد له المستعار من صديقه)، مع الفتاة الكندية من أصول هندية، ستيفاني، التي وثقت به وتعاملت معه كصديق ولكنه تعامل معها كوحش بربري، وفق ثقافة البادية التي لا توسط بينها إما أبيض أو أسود. وهو يتضح في تأنيب أبيها له:" اخرس يا غبي، أنتم لا تفهمون المرأة الغربية، مجموعة من الوحوش". كما أنه برع بربط معاناة البطل بقصص مشابهة في التاريخ العالمي قصة الهنود الحمر، المتمثلة بكاليسكا التي عانت من مرارة التهميش في أمريكا، وتحدث عنها الكاتب في الرواية كجماعة تحمل تاريخ قمع خاص بها، لم يمنعها من العيش في فضاء إنساني خلاق، مع التعايش مع ذاكرة متصالحة مع الماضي، بينما العواد، فشل في ذلك لسبب بسيط أن جرحه كان طازجا جدا، محمل بعاهة أبدية تذكره دوما بما حدث معه "وطني هو إعاقتي الأبدية التي لن أشفى منها أبدا". (الرواية، 13) ولم يستقر العواد ويبتعد عن الماضي إلا بالمكان بينما الذاكرة تسكن في الكويت بكل تفاصيلها المؤلمة وقت بتر الجسد من المكان، وتفاصيلها الحميمة منذ طفولته حتى رحيله منه شابا بترت قصة حياته بسبب حالة حب طارئة. استدعاء الهنود الحمر هنا في الرواية قد أعطى التجربة الإنسانية بعدا شموليا وطابعا إنسانيا كونيا. كما يطرح ادوارد سعيد هذه الفكرة في كتاب "صور المثقف" قائلا: "وفي اعتقادي أن مهمة المثقف تتمثل، على نحو جلي، في جعل الأزمة شمولية، وإعطاء معاناة عرق معين أو أمة معينة حيزا إنسانيا أرحب، وربطه تلك التجربة بآلام الآخرين". (صور المثقف، ص:٥٥) ولعل عنوان الرواية الغربي باسم المرأة الهندية (كاليسا)هنا استحضار لتجربة موازية ومكملة لرؤيته لقضية المهمشين في المجتمعات الإنسانية، وخطوة نحو نص كوني للمهمشين مكتمل برؤاه الإنسانية، وعلامة ثقافية كبرى لقراءة أدب المهاجرين بفهم إنساني أكثر عمقا ورحابة وشمولية. و يكون أيضا علامة اندماج المؤلف مع المحيط الثقافي الجديد الذي يعيش به هجنته واختلاط الحكايات والأصول. قد تكون هذه الرواية خاتمة الروايات التي تتحدث عن قضية البدون في الكويت وفي المنفى، أنهاها الظفيري في الانتقام من العقيد الذي حرمه من جنسيته، هويته، مرتع طفولته، والمكان الذي بترت فيه قصة حياته وحدث لها انحراف أفقده من ذاكرته الأفقية وفرض عليه سيرة ذاتية غير متسقة، وغير متواصلة بأحداثها تعرجات وتموجات رحيل من مكان لآخر، وتحول من اسم لاسم، فتصبح الهوية مهددة بعدم ثبات حتى اسمها وملامحها الأساسية، من العواد، محمد، إلى انتحال اسم صديق عمره فهد غانم، من كويتي إلى بدون، ومعتقل في سوريا مع المعتقلين الآخرين الذين يعانون من مرارة النظام السوري ثم كندي يعاني من ثقل الذاكرة التي تقوده إلى دائرة سوداوية تكمن في الانتقام ممن رمى به إلى متاهاتها المظلمة. والنقطة السابقة تقود للحديث عن إشكالية الاسم المتحول. إشكالية فئة البدون في الكويت مثلها مثل الفلسطيني وغيره ممن يعيشون في ظروف الحروب، تحمل هوياتهم تفاصيل عوالم متغيرة وأسماء متغيرة، مع اختلاف تفاصيلها والظروف التي أنتجتها. بطل الظفيري مثل بطل "ليلة الشبونة" للألماني ريمارك، الذي يبدل اسمه كما يبدل ملابسه من مدينة لأخرى بسبب الظروف السياسية والأمنية التي تسيطر على المدن التي يجوبها، ولكن محمد العواد أخذ اسم صديقه فهد غانم ليتمكن من الرحيل من موقع منفاه الأول في سوريا إلى منفاه الأخير كندا، بمساعدة صديقه وإحدى الشخصيات التي تمارس مهنة تزوير الوثائق الرسمية. إشكالية تغيير الأسماء ماهي إلى سطح أولي لمشكلة إنسانية كبرى في هوية متبدلة وتعاني من تغيرات جذرية في عوالم استثنائية متبدلة يبحث أبطالها بشكل مستمرة عن ذاكرة مطمئنة وعوالم مفقودة بعد أحداث غيرت مجراها من السلام الداخلي إلى الحروب النفسية المتجذرة والتي تصل إلى حد الانتقام. وهذا هو أحد أدوار الأدب في أن يساعد المقموعين على البوح والتعبير عن التجارب الإنسانية المؤلمة والبحث في الآثار السلبية الخفية للحروب بين الدول والصراع بين الإرادات الاجتماعية المتباينة بين تيارات التقليد، والتجديد.

اكتمال للحكاية المبتورة مما قد يؤخذ على الرواية أنها تعيد نفس الشخصيات بأسماء مختلفة، أي استنساخ الحكاية الكبرى من ناحية بنيوية لشخصية البطل في جميع الروايات الثلاث. محمد هو استنساخ لبطل الروايتين السابقتين ورشا هي سارة، وحتى أم رشا تشبه أم سارة في سلوكياتها. ولكن مع اختلاف التفاصيل البسيطة بظروف شكلية مختلفة اختلافا طفيفا، مما يحيل إلى إشكالية استيلاء هذه الشخصيات تكون ناتجة عن عجز في الخلق والإبداع والابتكار أم عجز في تخطي هذه الصور، من مثل الصدمة في فقد المكان وتفاصيل النشأة والجذور مما يعيد الروائي للكتابة عن نفس العوالم التي تعمر بذاكرته ولم يستطيع تخطيها، وفي كل مرة يعود ليسرد الحكاية ذات البنية المتشابهة بتفاصيل مختلفة فالاستنساخ هنا يدل على عدم القدرة سيكولوجيا على تجاوز التجربة وتخطيها إلى آفاق أبعد، وقد تصبح لذة الكتابة والقراءة عند قراء الظفيري مجرد رغبة لا واعية في رؤية الذات المقموعة نفسها بصور متكررة كتذكر جماعي لأزمة جماعية تعيش مرحلة بكاء جماعي لجرح لم يندمل ولم تتطهر منه الروح، ولم تتجاوزه بعد. أرى في تكرار الحكاية هنا نوع من التعبير عن الصدمة التي عاشتها الذات. وهو أمر مرتبط بالذاكرة الراغبة في تحرير ما لديها ونقل التجربة الإنسانية الشفوية القابلة للنسيان إلى ذاكرة مكتوبة وموثقة. باختصار، لقد قام الظفيري بتمثيل العذاب الجماعي لذاته عاكسا آلام شريحته الاجتماعية ومقدما شهادة عليها..

- ناصر الظفيري، رواية "كاليسكا"، الطبعة الأولى، 2015م. - إدوارد سعيد، "صور المثقف"، دار النهار، 1996م. • أستاذة النقد الأدبي الحديث بجامعة الكويت. Su_ad81@

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم