1) تُعدُّ «بيداء التتار» لدينو بوثزاتي الروايةَ الثالثة في المختبر الروائي لهذا الكاتب الايطالي الكبير. فقد كتبها بوزاتي وهو لا يزال شابّاً في الرابعة والثلاثين من عمره، ثم صدرت في مدينة ميلانو لأول مرة بتاريخ 9 يونيو/حزيران 1940، ضمن منشورات ريثزولي، إلا أنها لم تلق مع الأسف الشديد، سوى القليل من الاعتراف والتقدير من لدن كمشة من النقاد والقراء، لأن المرحلة التي كانت قد ظهرت أثناءها، كانت قد انسكنت بقرع الأجراس الصاخبة، على إثر اندلاع حرب حقيقية كانت الفاشستية الايطالية قد ساهمت في إشعال فتيلها، وهو ما استتبع بالطبع، إفراطاً في تجييش غرائز القتل، وسفك الدماء لدى صغار النفوس، وحملها على إبداء المزيد من اليقظة والجدّ والترقب، إزاء «العدو الحقيقي» المتربص بالبلاد؛ الشيء الذي حال دون إيلاء الأهمية المطلوبة، لمؤلف أدبي كبير في حجم رواية «بيداء التتار»، التي تعالج بموضوعة الاستنفار الحربي من الزاوية الفانتازية الملغزة، وتشير باللغة الأدبية المترعة بالرمزية المستغورة، إلى جبهة هلامية يتحرش بها عدو «وهمي»، ظل جنود الرواية وعلى مدى عمرهم الورقي الكامل، يترقبون اللحظةَ التي قد تجمعهم به في معركة محتملة. قدّر لرواية دينو بوزاتي أن تنتظر اللحظة، التي ينبغي أن تضع فيها الحرب الحقيقية أوزارها، كي تجد لها في الأخير مساحة واسعة من القراء، داخل الوسط الإيطالي وخارجه، ليمنحوها ما كانت تستحقه من التقدير والاعتبار. وهو الأمر الذي حصل بالفعل، بدءاً من سنة 1949، بفضل صدور الترجمة الفرنسية للرواية أولاً، بتوقيع ميشيل أرنو، وهي الترجمة التي كانت بحق وحقيقة، العتبةً التي أفضت برواية بيداء التتار نحو التألق العالمي، ومنحت صاحبها الشهرة والمجد الأدبيين، اللذين ظلا يلازمانه إلى آخر يوم في حياته (28 كانون الثاني/يناير 1972).

لقد كتب مارسيل بريون على هامش صدور الترجمة الفرنسية، يُلخّص أصداءَ تلقي الرواية فرنسياً، وتفاعل القراء الفرانكفونيين على المستوى العالمي معها، قائلاً: «إنها مؤلٌَّف أدبي له شأو استثنائي كبير، ليس ضمن حظيرة الأدب الايطالي الراهنة وحسب، وإنما ضمن الآداب العالمية، كذلك. فقد كان ينبغي لنا ربما، كي نعثر في الآداب العالمية الحديثة، على ما يوازي ذلك السؤال المشبوب والمتّقد والآسر، الذي تطرحه الرواية حول حتمية المصير الإنساني؛ أن نعاود الصعود مجدّداً، نحو تلك القمم الشّماء التي ظلت كل من رواية القصر والمحاكمة[لفرانز كافكا] تحتلانها». وعلى الرغم من أن دينو بوثزاتي ظل يستشعر نوعاً من التضايق والانزعاج إزاء هذا الحكم النقدي الذي قارن بين روايته «بيداء التتار» وبين روايتي كافكا المشار إليهما أعلاه، فإن قارئ كلام ميشيل بريون اليوم، لا يسعه سوى أن يضيف توقيعه إليه، تعزيزاً وتعضيداً لما جاء في كلامه، بخصوص القيمة الأدبية الكبرى، والأهمية التي لا يستهان بها لهذه الرواية، وتأثيرها الكاسح والمدهش والبيّن على مجموع الآداب العالمية الأجنبية، وهو من دون أدنى ريب، في نفس قيمة ووزن التأثير الكافكاوي، خصوصاً من حيث ثيماتها الكبرى التي تعالج طبيعة القلق الوجودي، والخوف، والموت وأسراره(2). بعد ذلك التاريخ بقليل، غدت هذه الرواية الأليغورية الآسرة، التي اشتغلت على موضوعة الحياة الإنسانية، بمختلف أوهامها وتخاريفها وأهوائها وسراباتها الخُلابية، واحدة من بين أهم الكتابات الأدبية الكلاسيكية ذات القيمة العالمية، محتلة بذلك مكانة رفيعة ضمن خانة الأدب الفانتازي، أو ضمن خانة ما يُسمى ببساطة، أدبَ اللاّطمأنينة. وفي سنة1951، ستظهر ترجمتها إلى اللغة الاسبانية، ثم إلى الانجليزية بعد عام واحد على ذلك التاريخ. وستغدو الرواية في وقتنا الراهن، متداولة لدى أغلب قراء العالم في أكثر من عشرين لغة، بما في ذلك اللغة العربية، التي تُرجِمتْ إليها في ستينيات القرن الماضي، بترجمة موقعة باسم الأستاذ موسى بدوي، وهي ترجمة أشار إليها الكاتب المصري الكبير جمال الغيطاني(3)؛ إلا أن الترجمة المعتمدة حديثاً هي الصادرة عن منشورات وزارة الثقافة السورية في بداية هذا القرن، من توقيع وتحقيق الأستاذ معن مصطفى الحسون، (وهي ترجمة من اللغة الايطالية مباشرة، لكننا لم نطلع عليها مع الأسف لحد الآن، ربما لمحدودية تسويقها). في سنة1976، سيتمّ تحويل الرواية إلى شريط سينمائي بالعنوان نفسه، وهو من إنتاج فرنسي وإيطالي مشترك، ومن توقيع المخرج الايطالي فاليريو زورليني، وهو الفيلم الذي سيحصل في نفس السنة التي خرج فيها، على استحسان كبير من قبل النقاد والمهتمين السينمائيين، سيتوجه استحقاقه لجائزة لويس لوميير.

وبهذا يكون دينو بوثزاتي قد حظي برد الاعتبار والتقدير اللازمين، سواء قبل موته أو حتى بعده، خصوصاً وأن الأوساط الأدبية والأكاديمية الأوربية، كانت قد اعتبرت سنة 2006، محطةً أساسية للاحتفال بالذكرى الأولى لميلاد هذا الكاتب العملاق، وذلك من خلال إعادة قراءة مؤلفاته الأدبية جميعها، في أفق تحديد القيمة الأدبية والفكرية التي أضافتها تلك المؤلفات على المستوى الكوني. فمن يكون دينو بوثزاتي يا ترى؟ وما هي أهم مؤلفاته الأدبية؟ 2) ولد بوثزاتي في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول من سنة 1906 في سان بيلّونو، وأكمل دراسته الثانوية والجامعية، متخصصاً في القانون، بمدينة ميلانو، حيث عاش أكبر وأطول قسط من حياته، ولم يبتعد عنها إلا في رحلات قصيرة خارج المدينة نحو بعض السلاسل الجبلية القريبة، والمفازات الصحراوية البعيدة (كفلسطين، وإثيوبيا على وجه الخصوص)، وهما البيئتان اللتان يمكن تسميتهما بالحوافز التي قدمت لأعماله الروائية والقصصية بعض القوالب الدينامية، والروافع التخيلية والفكرية ذات الأهمية الكبرى. كتب دينو بوثزاتي روايته الأولى: «برنابو الجبال» عام 1933، وهي رواية قصيرة أعقبها عام 1935 برواية: سِرُّ غابة بوسكو فيتشييو التي رسّخت قدميه في عالم الأدب، كواحد من الروائيين الشباب الواعدين. ثم شرع الرجل سنة 1939، في كتابة الرواية الثالثة، بعد كل ليلة كان يعود فيها مرهقاً، جراء أعباء العمل المضني في صحيفة كوريير ديللاّ سيرا، عنونها بـ: بيداء التتار، وسلّم مخطوطها لصديقه أرتورا برامبييا، ثم سافر كمبعوث صحفي خاص إلى أديس أبيبا (بإيثيوبيا). وفي عام 1942، أصدر بوثزاتي مجموعة قصصية بعنوان: الرسل السبعة، يعالج فيها ظاهرة الموت والحياة العسكرية، وجاءت متزامنة مع هبوب رياح الحرب العالمية الثانية الهوجاء. وفي عام 1945 صدرت الطبعة الثانية من رواية: بيداء التتار، التي كرّست اسم الكاتب في إيطاليا، ورسمت البداية الأولى لشهرته في الداخل. وفي سنة 1949، ظهرت ترجمة الرواية إلى اللغة الفرنسية، متزامنة مع صدور مجموعته القصصية الجديدة بعنوان: «لاسكالا»، التي استقى موضوعاتها من الأخبار والتقارير الصحفية التي ظل يكتبها، وينشرها على صحفات الكوريير ديلاّ سيرا.

وبين عامي 1952 و1958، خرج بوثزاتي إلى القراء بثلاث مجموعات قصصية جديدة هي: اندحار لا بالفرينا (التي حصل بها على جائزة نابولي)، وتجربة سحرية، ومجموعة: ستون محكية قصصية (وتتضمن بعض القصص القصيرة الذي سبق نشره فيما قبل، وبعضها الآخر الذي لم يسبق له أن نُشر أبداً، وقد اشتغل ضمنها على أشكال تعبيرية جديدة مشحونة بالمعاني، والأساليب المبسطة الممزوجة أحيانا بالسخرية). وفي عام 1960، أنشأ رواية جديدة تنتمي إلى أدب الخيال العلمي هي: صورة حجر، مقترباً فيها من أجواء الأدب الغرائبي. وفي سنة 1963، كتب رواية لقيت ترحيباً كبيراً في الأوساط الأدبية بعنوان: حُبّ ما، صوّر فيها حياة النساء وعذاباتهن في العشق والهوى. ثم أعقبها عام 1969، بديوان شعري يضم مجموعة من القصائد، وأصدر في 1971 مجموعة قصصية جديدة باسم: الليالي العصيبة، التي انتقاها من القصص التي نشرها في صحيفة الكوريير ديلاّ سيرا، وكانت آخر كتاب نثري ساخر أصدره الرجل قبل وفاته، وقد ترك صدمة كبيرة في الأوساط الثقافية والأدبية الإيطالية، بل وحتى الأوروبية. لم يكن دينو بوثزاتي مجرد كاتب وشاعر وصحفي وحسب، وإنما كان رساماً محترفاً (أقام أكثر من معرض ما بين سنة 1958، و1967، و1970، في كل من إيطاليا وفرنسا)، مثلما كتب الدراما المسرحية، والسيناريو السينمائي، وحصل في عمله الصحفي الذي ظل وفياً له، ومعتزاً أيّما اعتزاز به، معتبراً إياه مصدر إلهام وإبداع، على جائزة ماريو ماسايي، عن مقالاته المنشورة في صيف سنة 1969. لكنّ أهم مؤلف كوني كتبه هذا الأديب العملاق واشتهر به في الآفاق الواسعة، على الأقل في منظورنا الخاص، هو رواية: بيداء التتار. وعلى الرغم من أن كل عملية تلخيص تتصدى لاختزال المؤلف الأدبي، في بعض الأسطر والصفحات، هي من الأمور الصعبة والمستعصية، بل وغير المقبولة على الإطلاق، لأن الأدب عامة ـ والأدب السردي منه على وجه الخصوص ـ ليس مجرد حكاية وحسب، حتى يكون بمستطاع المرء أن يبتسره كيفما اتفق؛ فإن عدوى هذه الرواية المدهشة، وسحرها على النفس، سيجبرانني بلا شك على اقتراف المحظور، والوقوع في ما لا يشتهيه الكُتاب خاصة، ألا وهو محاولة تلخيص هذا العمل أولاً، في مجموعة من الأحداث السردية الكبرى، مع الأمل في أن تكون مساهمتي هذه، مجرد خطوة إجرائية أولية، من شأنها أن تفتح شهية القارئ أكثر، كي ينفتح هو نفسه مباشرة على الرواية، ويستمتع بقراءتها، باعتبارها عملاً أدبياً كبيراً متكاملاً. فما الذي تقدم هذه الرواية الشيقة، يا ترى، لقارئها؟ 3) تحكي رواية: بيداء التتار عن حال ومآل بطلٍ يُدعى دْروغو جْيوفاني، يُقدمه السارد في البداية على أنه شاب تخرج حديثاً، من إحدى الكليات الحربية برتبة ملازم أول، يضطر على إثر تعيينه الجديد، إلى هجر أسرته وأصدقائه ومدينته، كي يلتحق بثكنة عسكرية هي بمثابة حصن، ظل يرابط في موقع جبلي بعيد على الحدود الشمالية، يُدعى حصن أو قلعة باستياني. وإذا كان فراق البيت القديم للمرة الأولى، والابتعاد عن الأم والإخوة، وفضاء المدينة الذي ظل يجمع بين دروغو جيوفاني، وبين ثلة من الخلان والأصدقاء، إلى المتع والملذات المستطابة، شأناً صعباً وشاقاً ومؤلماً، إلا أنه استطاع أن يتجاوز ذلك بفعل ما كان يتحرك في نفسه، ويعتمل في قرارته من شوق كبير، وانتظار ليوم الالتحاق بالخدمة، لأن ذلك اليوم هو الذي سيحقق فيه دروغو بلا شك، دخوله الرسمي إلى معترك الحياة الحقة. وهكذا إذن، انطلق دروغو على صهوة جواده، باكراً، صبيحة يوم من أيام سبتمبر/أيلول، يغذّ الخطو في اتجاه حصن باستياني، تاركاً وراءه كلّ ما ظل يشده - من خيوط الذكرى الدافئة - إلى كل من الأم، والبيت العتيق، والرفقة الجميلة، وفضاءات المدينة؛ آخذاً في ارتقاء المجازات الجبلية المقفرة، مرتفعاً تلو آخر، إلى أن آذنت الشمس إلى الغروب. حينها، اضطر إلى التوقف في نزل ريفي متواضع، حيث تراءى له من هناك فجأة، ذلك الحصن الأسطوري العجيب على بعد مسافة كبيرة، وقد غرق في لون شفقي قان، ظل يغمره ببعض الغموض والسحر الجذاب. في تلك الأثناء، استغرب دروغو جيوفاني لطبيعة ذلك الموقع المعزول، الذي اختير للحصن كي يجثم فوقه، وتساءل في تحيّر وتشوش واندهاش، عن نوع الأسرار التي من الممكن أن تظل مختبئة، وراء تلك الأسوار الحجرية بإطباق وإحكام. وفي حمأة الصعود نحو قلعة باستياني السحرية، بعد ليلة قضاها في النزل، يلتقي دروغو في طريقه، بالصدفة، بضابط كهل برتبة قبطان، يُدعى أورتيز، كان عائداً إلى القلعة بعد عطلة قصيرة، قضّاها في المدينة. ينشأ بين الرجلين حوار، يفضح شوق دروغو ولهفته الكبيرة، على أن يعرف ما تخبؤه قلعة باستياني، من خبايا أسرار. وعلى إثر ذلك، يعلم جيوفاني بأن معسكر باستياني، له طبيعة عتيقة ومتقادمة، وأنه يقع في مواجهة حدود (تُدعى منذ عهد قديم، ببيداء التتار)، هي حدود قفراء وعارية، إلا من سلسلة جبلية متناثرة، تحدُّها من اليمين والشمال.

ثم إذا بمعالم القلعة الحجرية الصلدة، بدأت تلوح أمام دروغو شيئاً فشيئاً، وقد سيطر عليها صمت الظهيرة الغائر، وأحاطتها شمس حارقة، لا أثر فيها لأية ظلال. وكلما جدّت دابة الضابط الشاب في السير لقطع الطريق الدائرية المفضية للقلعة العجيبة، إلا واستغرب دروغو لمنظر عشرات الجنود المتناوبين ببنادقهم المحمولة فوق المناكب، وهم يذرعون الفضاء الصخري المعزول جيئة وذهاباً، بجدية ويقظة وانضباط، وكأنهم بندول ساعة لا تكف أبداً عن الدوران بعبثية، ومن غير جدوى. وفي لحظة مشبعة بالهواجس والأسئلة المتناسلة، يُوقِف دروغو جواده، ويطلق لعينيه حرية النظر المتأمل، قصد الاستئناس بالمكان المكشوف، الذي انفتح على تضاريس وحشية، لا وجود فوقها لمعالم تنم عن حياة حقيقية أبداً، مثلما عرفها في المدينة بين أحضان الأسرة والأصدقاء، عدا القلعة العسكرية التي بدت له في صورة معتقل، أو ربما قصر مهجور. في تلك الآونة، أدرك الضابط الشاب أن كل شيء في هذا المكان الموحش يعلن بصراحة لا مواربة فيها، عن حقيقة العزلة والترك والإهمال وحياة العزوف والزهد، فيتَبلْبل فكره، وتعتريه ـ في الحين ـ حيرة كاسفة، وينبري متسائلاً بعدها، عن الجدوى والغاية المرجوتين من تواجد ثكنة بهذا الحجم، في موقع مقفر كهذا بالذات، وعن طبيعة ذلك العدو المفترض الذي يتهيؤ له جميع هؤلاء الجنود المتهيبين، الذين يتحركون داخل فضاء القلعة وحولها، ببنادق ولباس رسمي، وكأنما هم مجموعات نمل نشيطة، لا تعبأ البتة بطرح مثل هذه الأسئلة على نفسها. عندئذ، يدرك جيوفاني بأن بقاءه الطويل بين ظهراني هذه القلعة/المعتقل، من شأنه أن يترك ولا شك، بعض الآثار الغائرة على نفسه وفكره لوقت طويل، لأن القبول بالمكث الطوعي بين كنف هذا المنفى، هو ضرب من الاندحار، أو ربما هو انتحار رمزي. وإذا كان جيوفاني دروغو منذ الوهلة الأولى، قد تعجل العودةََ من حيث جاءت به صهوة الدابة المطواعة، فإنه لم يكن ليرضى مع ذلك، بالبوح بما اعتمل في قرارته لحظة الوصول، من شوق وحنين طارئين أمام زملائه الضباط وبقية الجند، تجنباً لكل ما من شأنه أن يجعله موضوع نظرة ملؤها الازدراء والدونية وعدم التقدير، تدفع به إلى أن يغدو بينهم، مجرد قزم مديني مدلل. وبذلك تكون أنفته واعتداده بالذات، قد قاداه إلى التكتم عن البوح بتلك الرغبة العارمة التي تلجلجت بصدره، منذ الساعات الأولى من اكتشافه للقلعة، وما ظل يلفها من عزلة، وصمت واطئ، ونظامِ عاداتٍ لا طائل من ورائها، جانحة به إلى نوع من الحنين الجارف نحو موطن الدفء العائلي ذي الطعم المستساغ. لذا قرر أن يوطّن من هياج النفس، ويُلجم أشواقه الجامحة، ويستعد للتأقلم مع الأوضاع الطارئة عليه، إلى حين قضاء الفترة الإلزامية المحصورة في أربعة أشهر، مثله مثل غيره مِمَن مرَّ قبله بالقلعة، بادئاً منذ اليوم الأول باستطلاع الموقع الحدودي خلسة، برفقة أحد الضباط المكلفين بالحراسة الليلية، متأملا ذلك العالم الصخري الممتد شمالاً، حيث لا شيء البتة يوحي بالحياة، عدا ما تملؤه بياضات تلك الحكاية السحرية العجيبة، التي لا يكف الجند عن ترديدها والاعتقاد فيها، بخصوص ذلك العدو الأسطوري مهاب الجانب، الذي قد يتسلل خلسة، بين كل فترة وحين، من خلف تلك الحدود الصخرية القفراء، حاملاً معه نفير الحرب ودقات طبولها الهوجاء، وبشاعة الموت ومذاقها المؤلم؛ وهي اللحظة التي لا يكاد يشك جلّ مَن بالقلعة العسكرية، في كونها ستأتي، مهما طال أوان الانتظار. وفي غمرة تلك الأجواء الاستنفارية المشحونة بالألغاز، والغرابة، والأسرار، يستشعر جيوفاني دروغو يُتمَه وفرادته، ويلحُّ على التشبث بفكرة الهروب، للانفلات من أسر هذا الطقس الملغز والكاتم، الذي يضرب بجرانه على الأرض ومتخيل الجند. إلا أن هذا الشعور سرعان ما تصدُّه، وتتصدى له قوةٌ معاكسة مجهولةُ المصدر، تقف في معارضة لذلك التّوق الذي يحثه على تعجيل العودة، انبثقت ربما من ذهنه هو بالذات، دون أن يكون قد تفطن إلى ذلك، التفطنَ اللازم. وفي ليلة من ليالي الأسبوع الأول، على تواجده في القلعة/المعتقل، وبعد أن يشتد عليه الحنين، ويجرف نفسَه تيارُ الشوق إلى الأهل والبيت بالمدينة، يهيئ دروغو ورقة وقلماً، ويتهيأ لكتابة خطاب إلى والدته. بعد عبارة «أمي العزيزة»، تضطرب روحه، ويتعكر صفو مزاجه، ويحس بالتأرجح بين الرغبة الطفولية في البوح للأم بجميع ما شاهده، وسمع به، واستشعره وهو في القلعة، وبين كبت صوت ذلك الطفل فيه، للظهور بقناع الجندي المتماسك والصلب، مثلما يبدو أمام أقرانه طيلة النهار. وفي النهاية، يحسم جيوفاني دروغو ذلك التوتر المريع، بأن يكتفي بكتابة رسالة مقتضبة، يشوبها التعميم، وقد كُتِبتْ بأسلوب يعتريه البرود المحايد والدرجة الصفر في الكتابة، لا مكان فيها للكشف ولا للبوح الطفوليَيْن، فيها ينقل إلى أمه بعض الأخبار العامة، متحدثاً عن نفسه تارة، دون ذكر لأية أحاسيس حقيقية، وعن زملاء الخدمة تارة أخرى، وعن سهولة المهمة التي أنيط به أمرُ الاضطلاع بها في القلعة، ملحّاً على أن كل شيء يسير على ما يرام، وأنه سيمكث بالقلعة بعض الوقت، لأن ذلك في صالح مستقبله المهني.

بعد أن يحسم دروغو أمره، في شأن البقاء بالثكنة المدةََ القانونية اللازمة، التي لا تتعدى أربعة أشهر، وبينما هو ذات يوم في ورشة بروسدوسيمو للخياطة، إذا بشيخ قصير القامة، وأعرج، يعمل خياطاً بالورشة، يستغل فرصة غياب المعلم بروسدوسيمو، ليقوم من مكانه، ويبادر الضابط الشاب جيوفاني دروغو بالحديث، محذراً إياه من مغبة استلذاذ البقاء بين حيطان هذه القلعة/المعتقل، تحت ذريعة المشاركة في الواقعة الكبرى المرتقبة. ابتدره الرجل المسن، قائلاً: - « ... إن ذلك (أي البقاء في القلعة) لنوع من العدوى يا حضرة الملازم، لذا عليك أن تكون حذراً، على الأقل أنت الذي ما تزال حديث العهد بالمكان... كنْ حذراً، ما دام الوقت باكراً(...)، عليك بالهروب من هنا كلما سمحت لك الفرصة، قبل أن تُصاب بالجنون الذي ُيعشش بين أرجاء هذه القلعة. - أنا لن أقضي هنا سوى أربعة أشهر، وليست لي أبداً نية البقاء مدة أطول، ردّ عليه دروغو. - على كل حال ابق حذراً، قال الرجل المسنّ. إن أول من بدأ بنشر هذه العدوى هو الكولونيل فيليمور. أنا لا زلت أذكر أنه شرع منذ ثمانَ عشرة سنة، يردد كلامه عن الاستعدادات القائمة على قدم وساق، لمواجهة خطوب هائلة على الحدود. أجل، إنه تحدث عن «خطوب». هذه بالضبط هي الكلمة التي استعملها الكولونيل، أضاف الرجل المسن. لقد أدخل في دماغه بأن القلعة تقع في موقع استراتيجي، هو في غاية الأهمية، وأنّ شيئاً ما لا بد أن يحصل. لا بد أن يحصل من تلك الجهة المفتوحة على البيداء. بطبيعة الحال، لا أحد سيأتي من هناك. إلا أن الكولونيل ظل يردد عليّ دوماً، بأن التتار موجودون خلف الحدود، هنالك. لذا عليك أن تكون حذراً، قال الرجل المسن بنبرة شبه متوسلة. إني أنا مَن يجزم بهذا، ذلك أنّك ما أنْ تترك نفسك فريسة للوهم، الذي تحدث عنه الكولونيل، حتى تنتهي أنت أيضا بالبقاء. لذا، أنا لا ألتمس منك الآن، سوى أن تُفتّح عينيك - على سعتهما - من حولك، حتى تتيقن بنفسك مما قلته لك» (ص57/58). الآن، أصبح دروغو قادراً على فهم ما يجري حوله من حمى الاستنفار، التي لمس سُعارها بادياً على سلوك الجنود والضباط في القلعة، وعلى كلامهم، ومتخيلهم. فمن هذه البيداء المفتوحة على حدود البلاد الشمالية، ينبغي أن تأتي فرصة هؤلاء إذن، كي يخوضوا غمار المغامرة المرتقبة! من تلك البيداء المقفرة الجرداء بالضبط، ينبغي لساعة الحظ الخارقة والرائعة، التي لا تطرق أبواب الناس إلا لمرة واحدة في العمر، أن تحل! بسبب غموض هذه الواقعة محتملة الوقوع إذن، والتي غدت مع مرور الزمن غير يقينية، يفني الرجال ها هنا أجمل لحظات عمرهم، في انتظار أن تحل الساعة المعلومة، التي قد تحسم (مثلما يعتقدون)، في أمر مصائرهم بالقوة. وحتى لو لم يكونوا قد تهيؤوا، لكي يحيوا وجودهم بصيغة مشتركة، وليستمتعوا في ذلك ببهجة الفرح المحتفية بكل واحد منهم، أو بسُلوان التفجع والمواساة لأحزان بعضهم البعض، فإنهم مضطرون مع ذلك، لكي يجتمعوا مع بعضهم البعض هنا، في قلعة باستياني، ليعيشوا على نفس الأمل، من دون امتلاك الجرأة حتى، ليبوح البعض بذلك للبعض الآخر، إما لأنهم ليسوا واعين كل الوعي بذلك، أو لأنهم مكرهون ببساطة، لأن يظهروا - أو يتظاهروا، لا فرق ـ بأنهم جنود حقيقيون، ضُربت على أفئدتهم أحجبة الرّصانة والخَفر! لقد فهم جيوفاني دروغو بسرعة، ذلك الأمل البسيط الذي ظل يحيا عليه هؤلاء الجنود والضباط، للفوز بالمشاركة فيه بين ربوع بيداء التتار، فطفق لتوه يفكر وهو يشعر بنوع من الراحة والانفراج النفسيين، بأنه صار على الأقل، في منأى بعيد كل البعد عن الجميع، وعن هدف الجميع هنالك، وبأنه حتى ولو ظل بينهم، فإنه ليس سوى مجرد مشاهد لا تسكن بين ضلوعه تلك العدوى، التي صارت تنخر عظام القوم، وأن ما عليه سوى أن ينتظر انصرام المدة القصيرة اللازم قضاؤها في القلعة، كي يتحرر من وطأة تلك الأجواء المشحونة بعدوى الترقب والانتظار والخوف. وعلى الرغم من أن دروغو قد تعرَّف، في بحر الفترة القصيرة التي قضاها في معسكر باستياني، على بعض الأصدقاء الجدد من نفس رتبته العسكرية، مثل الملازم الأول كارلو موريل، وبييترو أنغيستينا العليل، وفرانسيسكو غروتا، وماكس لاغوريو، الذين تعودوا على التّحلق في كل ليلة، حول طاولة من طاولات النادي، ليلعبوا الشطرنج أو لعبة الورق، فإنه لم يكن ليُبالي بأي شيء مما كان يجري حوله على مشارف الحدود الصخرية، أو داخل المعسكر، أو لأمر الضباط والجنود الذين ينهون فترات خدمتهم وسط القلعة، لينتقلوا بعيداً عنها تاركين وراءهم البيداء المفتوحة على لغز التتار، لِمَن بقي بين حيطان باستياني (مثل ما حصل مع صديقه كارلو موريل، الذي ألح على بييترو أنغيستينا العليل، كي يرافقه في رحلة العودة، عسى أن يجد في المدينة ما يشفي مرضه، غير أن الأخير أبى، واستكبر، وظل يتمسك بالبقاء!)؛ بقدر ما كان دروغو منشغلاً بإتمام الفترة الإجبارية التي عاهد نفسه على مكوثها في المعسكر، للعودة من حيث جاء لأول مرة. وحين انقضى الشهر الرابع، تقدّم جيوفاني إلى مقر الطبيب المركزي فيرناند روفينا، ليحصل منه على إشهاد طبي يُلحقه بالملف، يدعّم طلب إعفائه مما تبقى من سنوات الخدمة. لكنه وعوض أن يصرّ على التمسك بحق العودة، أثناء محاورته للطبيب، حدث ما لم يكن يدور بحسبانه بتاتاً. ففي غمرة كلامه مع الدكتور روفينا، برقت ذكريات المدينة في ذهنه سريعة ولَمحية لكنها أقل من عادية، بحيث بدت تلك الفضاءات شاحبة، وجاداتها ضاجة ومزدحمة، ووجوه ساكنتها منهكة ومفرغة، وأسطحها رمادية ومتربة؛ وبناء على ذلك، غيّر جيوفاني دروغو للتو، رأيه في شأن مسألة العودة، وخرج من عيادة الطبيب مقتنعاً بالبقاء لبعض الوقت. ترى ما الذي انتاب دروغو على حين غرة، وحفزه بتلك السهولة غير المُقنعة، على تعديل رأيه، والظهور بمظهر المُصرِّ على البقاء بين أحضان البيداء، وهو الذي كاد أن يحصل من الطبيب على إشهاد شرعي، يعزز به طلب الإعفاء مما تبقى في ذمته من سنوات الخدمة العسكرية، مثلما فعل غيره من الشباب الذين توالوا على القلعة، ذات وقت؟ إن خَدَر العادة، وزهو الحياة العسكرية هو المسؤول عن ذلك كله، مثلما يشير السارد في الرواية: «فقد سرى في أعماقه منذ البدء، خَدر العادات، وخيلاء الحياة العسكرية، وحبّ الخدمة والانضباط لليومي، وسط حيطان القلعة. لقد كانت أربعة أشهر، بإيقاع العمل الرتيب الذي عمّها، كفيلةً كي توقعه في أحابيلها الدبقة... وحتى دورة الحراسة التي كانت قد بدت له في البدايات الأولى، قطعة من جحيم غير محتملة، صارت بالنسبة له عادية؛ وهكذا تعلم شيئاً فشيئاً عن طريق التَّعود، أصولَ التنظيم، وطرائقَ التعبير، وعاداتِ رؤسائه المستهجنة، وضبَط طبوغرافية المتاريس، والمواقع التي ينبغي أن يتمركز فيها جُند الحراسة، وصار يتقن المعرفة بالجهات التي تصدّ الريح، كما صار بمقدوره فكّ شفرات النفير العسكري...» (ص74/75).

إن للعادة تأثيرَ السّحر الأسود النفّاذ، الذي يُغشّي على أبصار الناس، ويفعل فعله في بصائرهم، مثلما تشير إلى ذلك الرواية، بالفعل. إذ ها هو ذا جيوفاني دروغو يبدّل في لحظة بارقة، موقفه من مسألة البقاء في القلعة، التي اعتبرها في البداية معتقلا كاتما على النفس، لمجرد ما أن وقع تحت إسار العادة. لقد دخل البطل الشاب بيداء التتار، لا يلوي سوى على العودة من حيث أتى، وها هما سنتان تمضيان بسرعة على ذلك التاريخ، تليهما شهور وشهور إضافية أخرى من عمره العسكري، من دون أن يظهر أي عدو يذكر، أو يلوح في الأفق ما ينم عن حرب وشيكة الوقوع. وحده الانتظار والترقب يملآن فراغات العمر البيضاء في تلك الجبهة المقفرة. ومع الانتظار والترقب، تتدفق الأوقات رتيبة ومتوالية ومتشابهة في انسيابها، كمياه نهر صامت تمضي في انصبابها الكتوم لاعقةً بلسان غير مرئي، كل الكائنات والأشياء الموجودة بالقلعة، ناحتةً فوق الحيطان، وعلى جباه الجند، أخاديدَ غائرةً تنم عن كونها قد مرّت من هناك. ضمن هذا الوضع الوجودي الخاص، ستظل الوقائع المفعمة بالعادة، هي سلطان الوقت لدى دروغو جيوفاني. وما كان يشذ لديه أحياناً، عن رتابة الحياة اليومية التي ظل ينفق سويعاتها سدًى، بين ربوع تلك البيداء المهجورة، ليس هو طبيعة الوقائع الحية والبليلة والمشبعة ببعض الآمال، التي ظلت تشرئب لديه بين الفينة والأخرى، إلى التحرر والانعتاق وكل ما ينزاح عن سجن الرتابة؛ وإنما الذي كان يخرج عنده، عن ثقل كل ذلك الضياع الوجودي المنذور لمصير الانتظار، هو بعض الأحلام العجائبية، التي كانت تتراءى له في لحظات النوم، دافعةً به في حالات الصحو واليقظة، إلى إشغال باله بأمور المستقبل بكيفية جدية أكثر، على اعتبار أن ما ظل يتراءى ليس حلماً عادياً، وإنما هي إشارات ملغزة يبثها رسول الغيب، لتحذيره من مغبة الأخطار المحدقة بالمعسكر. وفي غمرة تلك الأحلام، حدث له ذات ليلة أن رأى نفسه بحجم صغير، وقد أحاطتْ به كائنات قزمية غريبة، في مبنى هو عبارة عن قصر مرمري. إلا أن ما حزَّ في نفسه بينما كان يحلم، هو أن هذه الكائنات الشبحية لم تكن تأبه له هو بالتحديد، بقدر ما كانت منشغلة بالسعي وراء صديقه الملازم أنغيستينا العليل، الذي رآه ذابل الوجه، شاحب اللون، يمشي صامتاً مثلما تمشي آلة ميكانيكية ثقيلة في اتجاه هدف غير واضح، وهو غير عابئ بالنداءات التي كان فم جيوفاني دروغو يصدح بها، متوسلا بضراعة من صديقه كي ينتظر برهة واحدة، حتى يتمكن من الالتحاق به(ص:85/87).

وفي اليوم الموالي لهذا الحلم المروع، يأمر جيوفاني دروغو جندَ الحراسة المنضوين تحت إمرته، بالتمركز في موقع جديد أكثر بعداً عن الثكنة، يُمكّن من مراقبة الحدود وضبطها بكيفية دقيقة. وفي الوقت الذي ظل يستنفر طاقته المتوجسة كاملة طيلة اليوم، في مسح الأفق الصخري غير المحدود من تلك البيداء المقفرة بالمنظار العسكري، إذا بجيوفاني يشاهد عن بُعد، نقطةً سوداء تتحرك في اتجاه الموقع الذي يتواجد فيه الجند. وفي غضون تلك اللحظات الموسومة بالمفاجأة، يستنفر دروغو والرقيب ترونك، كامل قواهما الحية للكشف عن لغز تلك النقطة المتحركة في بيداء التتار، التي طفق الغروب يغمرها بالغبش والظلمة. وبين التخمينات والتخمينات المضادة، التي شارك فيها جميع أفراد الفرقة المكلفة بالحراسة، حول حقيقة تلك النقطة الداكنة التي لم تكف عن التكور، والظهور بمظهر أكبر من حجمها الأول وسط العتمة، وكأنما هي صخرة بركانية متدحرجة ببطء؛ ازدادت هواجس دروغو تلك الليلة، واستشعر صغر حجمه بشكل فظيع، تحت وطأة الخوف وثقله الكاسح، على نفسه ومخيلته. في تلك اللحظات المشحونة بالتوجس والتوتر والخيفة، يصيح فجأة أحد الجنود قائلاً بأن ما اعتبر نقطة أو حتى صخرة سوداء متحركة، ليس سوى حصان قصير القامة، سائب، ظل يذرع البيداء وحيداً. لكن عوض أن تهدئ هذه الحقيقة من النفوس المروّعة، زادت على العكس من حدّة التوجس، ومن سُعار الخوف. إذ أن تواجد هذه الدابة، التي تنتمي إلى فصيلة مختلفة وغريبة، بذلك الموقع الحدودي المقفر بالذات، هو شيء مريب يحمل من دون شك، دلالة مقلقة»... إن هذا الحصان قد خرق القاعدة الثابتة، وأخرج مجيئه من القُمقم، تلك الحكايات القديمة التي تُروى عن الشمال، وعن التتار، وعن المعارك المرتقبة: لقد نثر حضورُه الذي لا يستسيغه منطق ولا عقل، أرضَ البيداء كلَّها بالألغاز المحيرة للأذهان... إن هذا الحيوان لا يعني شيئاً إذا ما أُخذ وحده في معزل عن أي سياق، إلا أن المرء بمقدوره أن يفهم بأن أشياء أخرى من الممكن بالضرورة، أن تحصل من وراء ظهور تلك الدابة السّائبة... هناك لا شك رسالة ما يحملها أثير الهواء: إذ أن ما كان يبدو إلى غاية الأمس مجرد أوهام عابثة، وتخاريف مثيرة للسخرية، أمكنه أن يغدو اليوم، إذن، حقيقة»(ص95/96). في حمأة التحيّر والتبلبل والقلق، التي طبقت على فرقة جيوفاني دروغو، تخبرنا الوقائع الموالية لتلك المفاجأة الحيوانية المروعة، بأن وراء ذلك الحصان رسالة موت نافذة. فقد تسلل أحد الجنود بعد انتهاء فترة المداومة، التي توَّجها انكشاف لغز الكُويْرة السوداء عن الحصان التتري قصير القامة، خارجاً من صفوف الجند العائدين إلى القلعة، من دون أن يشعر به أحد، في مغامرة تتوخى الإمساك بزمام تلك الدابة والعودة بها إلى الثكنة. وعند العودة، وبينما هو يقترب كشبح مريب من بوابة القلعة، متلكئاً في الصدع بكلمة المرور (التي تعدُّ مفتاحاً سريّاً لا يعرفه غير ضباط الحراسة!)، خاصة بعدما طلبها منه أحد الحراس المداومين بالقرب من القلعة (وقد كان - للصدفة - من أقرب الأصدقاء إليه في الفرقة!)، يأمر الرقيب ترونك جندي الحراسة بإطلاق النار على الشبح، فيلفظ المغامر وراء الحصان التتري أنفاسه، بالقرب من صديقه وثكنته! على خلفية هذا الحادث، سيتم استنفار فرقة خاصة للاستطلاع ومسح الآفاق، والتعرف على تحركات العدو عن قرب، وتعيين الحدود الشمالية بشكل مضبوط. سيعهد للقبطان مونتي برئاسة الفرقة، رفقة الملازم بييترو أنغيستينا العليل، وعندئذ سيتحرك الجند في اتجاه الحدود الواقعة على الشمال المقفر، في جو ثلجي عاصف. وفي غمرة القيام بهذه المهمة الاستثنائية، سيصادف الجنود الإيطاليون فرقةً عسكرية من الحدود المحسوبة على التتار، وقد جاءت هي أيضاً لأداء نفس المهمة، الشيء الذي رفع من إيقاع التنافس بين الفرقتين، وولّد داخل الفرقة الإيطالية نفسها، نوعاً من الصراع غير المعلن بين الضابطين مونتي وأنغيستينا، من خلال ما فرضه الأول على الثاني من مراهنات على إثبات القوة، فيها الكثير من الجهد والتحدي، وهو الشيء الذي اضطر الملازم أنغيستينا العليل، إلى إجهاد النفس حدّ لفظ أنفاسه الأخيرة، فوق صخرة جبلية وسط عاصفة ثلجية داهمة. بعد هذه الوقائع التي لم تكن عادية بالمرة، في حياة القلعة العسكرية المفتوحة على بيداء التتار، تعود الرتابة من جديد لتخيّم طويلا على النفوس والأخيلة، في معسكر باستياني. وسرعان ما تهدأ الهواجس التي كانت متوفزة للحرب، ويداهم القوم ارتخاء وشبه عدم اكثرات بما حولهم. وفي هذه الأثناء، يُدرك جيوفاني دروغو وضعه العبثي مجدداً، وسط هذه البيداء المقفرة، فيفكر ـ وقد جرفه الحنين إلى الأهل، والصِّحاب ـ في ضرورة الخروج من هذا المعتقل، للالتحاق بالحياة الحقة المفتوحة على حياة السهلِ. فيتأهب لأول مرة بعد التحاقه بالمعسكر، للسفر إلى المدينة في رخصة رسمية لزيارة العائلة، آملاً أن يسمح له ذلك بالاتصال ببعض النافذين، للتوسط له في أمر وظيفة داخل المجمّع المديني، أو ربما في شأن مهمة تمثيلية للبلاد خارج حدود الوطن. إلا أن جيوفاني ما أن يحل بين الأهل والخلان، بعد أربع سنوات من الغياب، حتى يغمره شعور داهم بالاغتراب، يجعله يحس بأنه بمثابة دخيل على الأسرة والمدينة، وبأن مكانه ومستقره الممكنان ليسا بين الأمكنة والأركان، التي كانت ذات وقت مسرح طفولته ويفاعته، وإنما بعيداً عن المدينة والبيت. إذ على الرغم من أن البيت العائلي ظل يحتفظب رائحته القديمة، معتقة بين حناياه وزواياه المألوفة، فقد صار غير قادر على فتح شهية جيوفاني للاستقرار به، بالمرة. مثلما أن غرفته الأولى، التي كان قد قضّى فيها ردحاً غير يسير من الزمن، لم تُطمئن كربته هي الأخرى، حتى وإنْ ظلت مثلما كانت عليه تماماً، من ترتيب ونظافة. أما الأم فقد غدا صوتها، ووطأة الزمن على كامل جسمها وخطوها، ينمّان على أن أشياء كثيرة سبق لها أن حدثت في غيبته، وبات في علم اليقين أنه من غير الممكن استدراك ما فات. فهو حين حيّاها في المساء الأول من مجيئه، تحيته المعهودة التي أصر تكون مشبعة بنفس الشحنة العاطفية الحارة، التي دأب صوته المميز يكشف عنها في مساءات النوم البعيدة، لم تكن قد أبهت لأي شيء بالمرة (هي التي لم تكن تعبأ وسط الليل بأي صوت، أو ضجة أخرى، عدا وقع خطواته هو، حين يخرج من السرير والغرفة، حتى ولو كان يتحاشى أن تصدر عنه أية نأمة صغيرة، مهما تكون!)؛ «وكأن تلك العاطفة التي كانت تجمع بينهما منذ زمن خلا، قد خبت وتلاشت؛ وكأن الزمن والبين قد نسجا بينهما ستاراً عازلاً يُعمّق الانفصال!» (ص 158). وحين سأل عن أصدقائه القدامى بعد ذلك، في محاولة جاهدة منه لرفع كلكل الضجر عن النفس، علم بأنهم منغمسون بجد ومثابرة، في لجة أعمالهم التجارية وانخراطاتهم السياسية. بل وحتى عندما أسعفته بعض اللحيظات بلقائهم، فإنه قد تيقّن بأن هناك حواجز نفسية كثيرة بعَّدتْ فيما بينه وبينهم، خصوصاً وأن اهتماماتهم صارت تملؤها شؤون المعامل، والسكك الحديدية، والمستشفيات، وشِعَب المستقبل. وحتى ماريا نفسها، أخت صديقه فرانشيسكو فيسكوفي التي اعتقد جيوفاني بأن زيارته لها، قد تجعله يحس بدفق المشاعر، وفيض الوجدانات الحرى التي أججتها ذات يوم، عاطفة الحب لديه، دفعت به على العكس من ذلك تماماً، إلى استثقال كل ذلك الوقت الذي قضّاه بالقرب منها، نتيجة حماسها الزائد لمشروع السفر إلى هولندا، وحديثها المبالغ فيه عن الأصدقاء، الذين تترقب ملاقاتهم هناك، وعن الجياد التي سوف تمتطيها في تلك البلاد، وعن حفلات الكارنفال التي ستحضرها، وإلى غير ذلك من الأمور التي ملأت قلب جيوفاني تحيّراً وتبلبلاً، إلى حد أنه عجز عن تفسير ما جرى لدواخله الشفيفة من تغير وتبدل. «فقد كان دروغو يعلم بأنه ما زال يُكنّ لماريا، وللعالم الذي تنحدر منه، وتعيش بين أركانه، حباً خاصاً: غير أن جميع الأشياء التي ظلت تغذي حياته في السابق، غدت اليوم بعيدة، بعدما احتل عالم غريب مكانها بسهولة. وهو لن يعود في استطاعته منذ هذا اليوم فصاعداً، سوى أن يرنو إلى كافة الأشياء المحيطة به، من موقع براني محايد، أكثر مما قد يرنو لها بأسى جواني؛ أما أن ينحشر بداخلها، ويشارك فيها، فذلك من غير شك من الأمور التي قد تزعجه. إذ هنالك بعض الوجوه الجديدة التي سيكون عليه التعرّف عليها، وبعض العادات والمُزَح وطرائق التعبير الجديدة، التي سيكون من اللازم عليه مسايرتها، وهو لم يكن قط قد تعوّد على ذلك. أضف إلى جميع ما سبق، أن كل هذا لم يعد اليوم، من صميم الحياة التي اختارها هو، واختط لها، الشيء الذي قد تصبح معه العودة إلى الوراء، وترك المسار الآخر الذي رسمه لنفسه، أمراً بليداً وغير ذي جدوى»(ص 165/166).

وفي أثناء تواجده بالمدينة، يغتنم جيوفاني دروغو، بإيعاز من والدته، فرصةَ اللقاء ببعض كبار الضباط، ليلتمس منهم التدخل في أمر تعيينه بعيداً عن قلعة باستياني، التي قضى بين ظهرانيها أربع سنوات. لكن لقاءه بأحد قادة الأركان العامة سيؤول بالفشل، وسيضطر جيوفاني إلى الخروج من مكتب الجنرال، وقد فشل في إقناع هذا الأخير بما اعتمل داخل نفسه، من رغبة جامحة في الانفلات من قساوة معسكر باستياني، الذي أّشْعِر أنه سيشهد بعض التغييرات في الأيام القادمة. وبحلول أوان العودة، يمتطي دروغو صهوة دابته، ويمضي بها صاعداً المنعرجات الجبلية في اتجاه قلعة باستياني، وقد دثرته مشاعر الخيبة والانكسار والهزيمة، على العكس تماماً من لحظة تعيينه الأولى، لمّا كان يسير على نفس الطريق، بدواخل يشدّها حبل الأمل. وما أن يحل جيوفاني دروغو بالمعسكر، حتى يجد بأن الكثير من الأشياء قد تغيرت في غيبته بالفعل، وعلى رأسها تخفيض عدد الجنود المتواجدين بالقلعة بنسبة مهمة، بلغت نصف العدد. وعلى إثر ذلك، يزداد إحساسه بالغبن وخيبة الأمل، لكونه لم يفز بحظوة الانتقال، وهو ما سيحاول تعويضه بمعاودة الاندماج من جديد، في معترك الحياة العسكرية الرتيبة، بقلعة بيستياني. وذات يوم، وبينما كان جيوفاني كالعادة، يمسح الأفقَ الخالي من بيداء التتار بمنظاره، وفي اللحظة التي أوشك خلالها أن يردد في نفسه، بأن لا شيء ثمة من شأنه أن يثير الشك، أو يستدعي القلق، إذا به يرى في الأفق البعيد جداً، نقطة صغيرة سوداء تتحرك. غير أن هذا الاكتشاف وإن كان قد استفز فضوله، فإنه على العكس من ذلك لم يثر لدى الآخرين، ممن بقي بالمعسكر، سوى السخرية والتهكم، خاصة وأن تخفيض عدد الجند، قد فسّره البعض بأنه إشارة واضحة من الأركان العامة، تفيد بأن حكاية التتار لم تعد لها أية أهمية تذكر، في برنامج التخطيط العسكري لهيئة الأركان. ومن ثمة، تكون لحظات التوجس والخيفة قد ولّت، بعدما انجلى الوهم. إلاّ أن جيوفاني، ومنذ تلك اللحظة وما أعقبها من أوقات أخرى، لم يعد مثلما كان. لقد أحس ببعض الخوف يسيطر على أعماق نفسه، ويستحوذ على كيانه ككل، وإن لم يكن يقوى بالمرة على تحديد أسبابه، ولا على قطع دابره أبداً. غير أنه وأمام ذلك الفشل الذريع في ضبط الدوافع المحركة للخوف، استطاع أن يجزم اعتماداً على حدسه وحسب، بأن هناك أشياء هامة على وشك الوقوع: أشياء يتم التهيؤ لها من وراء الضفة الحدودية الأخرى. لكن متى يا ترى سيتأكد حدس جيوفاني، والأيام تمضي في أعقاب الأخرى، سريعة ومتدافعة نحو الأفول، ولا شيء يطلع من وراء الحدود الشمالية المفتوحة على حكايات التتار القديمة؟ لقد صار الوقت ينفلت منه، ويمضي مندفعاً مثل سيل ماء يهدر، وهو على تلك الحال من الانتظار والترقب، غير عابئ بشيء آخر، عدا انشغاله بالذي قد يأتي، ولا شك أنه سيأتي. فما أن تشرق الشمس إيذاناً بفجر جديد، حتى تأذن بالمغيب معلنة عن انصرام نهار آخر، بينما جيوفاني يذرع الحدود بالمنظار، ويلوك هواجسه المتحيرة في صمت وانتظار. وما أن يحل فصل الشتاء، حتى يهرع إلى حمل أوزاره، ويرحل إلى دنيا أخرى، في حين أن دروغو لا يزال على تلك الحال من الترقب المريب وغير المطمئن. وما أن تدخل سنة جديدة، حتى تنصرم بسرعة كبيرة، لتزداد مخاوف الرجل الموغل في الكِبر، مما قد يطلع على حين غرة من جهة التتار، خصوصا وأن النقطة السوداء قد غدت مع توالي الأيام، نقطاً عديدة تتحرك ببطء في الأفق الخالي، ولا أحد من حواليه يكترث لتلك الكارثة المرتقبة، عدا رفيقه سيميوني. لقد ظل جيوفاني دروغو يعتقد في شبه رسوخ، بأن الشأن الأساسي والهام جداً، لم يبدأ بعدُ في الشروع بين ربوع هذه البيداء الموحشة. وأن الحظ ربما قد يحالفه هو بالذات، ليشارك في شأن حقيقي ذي أهمية قصوى، قد يكون من غير شك خطباً جليلاً، تتم التهيئة له الآن على الحدود الأخرى، حيث ظلت الجرافات وعربات الدّك والرصّ تتوالى تباعاً هنالك، كي تهيئ لترصيف الطريق. ومن أجل أن تتحقَّق تلك الغاية النبيلة التي ربطها دروغو بحكاية المعركة المحتملة مع التتار، غدا ينفق أجمل زهرات أيامه في الانتظار والترقب والرصد، من غير أن يكون عابئاً بالوقت الذي يمضي، تاركاً آثاره الغائرة على جسمه وكيانه. وهكذا تمضي السِّنون في أعقاب أخرى، ويبلغ جيوفاني سنَّ الرابعة والخمسين، ويغدو في رتبة قائد الفيلق والمسؤول الثاني عن شؤون المعسكر كله، وهو على تلك الحال من التهيب والترقب، ينتظر كل يوم أن يبرز التتار بغتة من جهة الشمال. غير أن العدو ما ظهر للوجود قط، كما أن الروتين اليومي ما تغير فيه شيء، خاصة بعدما تهيأت الطريق في الأفق الحدودي البعيد، غير أن الذي تغير بالفعل، هو جيوفاني نفسه. لقد تمعّر لون وجهه كثيراً، واصطبغ بصفرة غير عادية، تستدعي الحزن وعدم الاطمئنان، بينما أصيبت عضلاته بوهن وارتخاء شديدين. وفي غمرة ذلك التبدل الطارئ، الذي حدث له فجأة، صار جيوفاني دروغو يعيش على انتظار من صنف جديد: الأمل في الشفاء، خصوصاً مع اقتراب حدوث الواقعة! وذات مساء، بينما كان متمدداً على سرير المرض في غرفته، إذا بنقر مباغت ومختلف يُسمَع على دفة الباب. أذِنَ دروغو للطارق بالدخول، فإذا بالخياط العجوز بروسدوسيمو - الذي كان قد أوصاه لمَّا كان شاباً حديث العهد بالمعسكر، بتعجيل الهروب من القلعة ـ يدخل عليه الغرفة، وهو يردد في صوت مفعم بالتأثر والانفعال: « إنهم قادمون! قادمون! قالها وكأن في الأمر سرّاً عظيماً. ـ مَن هم؟ سأله دروغو، وقد اضطرب لرؤية مُعلم الخياطة في غاية الانفعال... ـ إنهم قادمون عبر طريق الشمال! الكل هنا صعد إلى السطح لرؤيتهم من هناك. ـ تقول: عبر طريق الشمال؟ بمعنى أن القادمين جنود؟ ـ إنهم فرق عسكرية كثيرة العدد والعُدّة! صاح الشيخ من دون أن يستطيع التحكم في نفسه، وهو يُشبك قبضتيه. هذه المرة يا سيدي، ليس هناك من شك في إمكانية الاشتباك معهم، أضف إلى ذلك كله، أن هيئة الأركان العامة قد بعثت برسالة، تخبرنا فيها بأن التعزيزات في طريقها إلينا! إنها الحرب! الحرب! طفق يصرخ الخياط. سيصلنا العدو في ظرف زمني، لن يتعدى يومين... ـ اللعنة على هذا السرير، قال دروغو في قرارة نفسه؛ ها قد ألزمنيه المرض!» (ص220/221).

آه، لو أن الأعداء انتظروا بعض الوقت فقط، حتى يتماثل جيوفاني دروغو للشفاء! ألم ينتظرهم هو ثلاثين سنة؟! وإذن، لماذا لا ينتظرونه بعض الوقت الكافي فقط، حتى يتماثل هو للشفاء؟! ألا يستطيع هؤلاء أن يؤجلوا المعركة لأيام، وحسب؟ هي مسألة أيام، لو يدري التتار! استشاط جيوفاني دروغو غضباً، وهو يتأمل وضعه العاجز في اللحظات الحاسمة من حياة قلعة باستياني، التي امتصت رحيق زهرة عمره بالكامل. وازدادت حدّة غضبه أكثر، لمّا أيقين بأن سيميوني رفيقه في قيادة المعسكر، قد هيأ كل شيء خفية عنه، للزّج به في أتون نزول مُكره نحو المدينة قصد العلاج؛ هو الذي ضحّى بأجمل الأشياء في الحياة، لغاية واحدة ووحيدة وحسب، ألا هي: انتظار منازلة العدو في هذه البيداء المقفرة! وهكذا يضطر جيوفاني دروغو وهو في حالة اشتداد المرض، إلى ركوب سيارة خاصة قدِمتْ من المدينة لأجله، مخلفاً وراءه الجنود وضباط الصف، وقد توزعوا على أماكنهم مثلما يجب، احترازاً وتهيؤاً للردّ على العدو، وقد رُصّ بالقرب منهم العتاد والسلاح اللازمان. كانت أنظار الجميع متهيبة ومركزة بشدة، على ما يتحرك في الشمال، بينما السيارة الخاصة التي تنقل جيوفاني دروغو، تتحرك في الجهة المعاكسة التي ظهر منها العدو! وبعد مسيرة يوم كامل من الهبوط، تتوقف العربة بالقرب من فندق صغير على الطريق، لكي يستريح الجميع، ويقضوا الليلة هناك قبل استئناف الرحلة. يلازم جيوفاني غرفته في المساء، بينما يمكث الجنديان المرافقان له في ردهة الفندق، يلعبان الورق، ويدردشان فيما بينهما. وفي أوج لحظات العزلة المشبعة بالألم، والمفعمة بمشاعر الحزن والأسى كذلك، تنبثق في ذهن جيوفاني دروغو فكرةُ الموت، واضحة ومرعبة للغاية. إذ سرعان ما يتأكد له بأن اندفاع الزمن وانفلاته منه، قد توقف بغتة ومن غير ما إشعار سابق، وأن الحياة كلها لم تكن سوى مجرد مُزحة: وأنه هو بالذات، قد خسر الرهان الذي ظل العمر كله يُعَول عليه، وصار ينبغي عليه الآن أن يؤمن بضرورة ملاقاة مصيره وحيداً وأعزل، في غرفة نُزل حقير، حيث لا أحد بجانبه كي يكون شاهداً على معركته الحقيقية، وحيث لا أحد ثمة بالقرب منه ليؤازره، ويعضده، ويثني عليه بعبارات الاستحسان. ينبغي عليه الآن، أن يواجه مصيره الحقيقي بمفرده، مجرداً من كل شيء عدا إرادته. إنها الساعة وقد أزفت، وليس عليه إلا الاعتقاد بذلك، والاعتماد المطلق على النفس. وفي تلك الأثناء، يحس جيوفاني دروغو وكأن قوة استثنائية، لم يكن يأمل فيها أبداً، وافته منبثقة من أغوار مُتعه التي لم ترتو البتة، ومن قيعان وقته الذي انفرط عقده. و?

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم