الإبحار في عوالم البنية الإبداعية التجديدية في التجربة الروائية لطالب الرفاعي: روايتي "سمر كلمات" ، و "الثوب" نموذجا:- تجارب الحياة الإنسانية عندما تروى فإنها تروى بطرائق وأساليب فنية متعددة، تتولد انعكاسا لرؤية المؤلف المنتجة لهذا العمل أو ذاك، كما إن الاختلاف في استخدام إحدى التقنيات السردية دون تلك إنما هو متأت من رؤية المبدع في تقديم سرد جديد يكون من باب التجريب في الرواية. قد تكون الرواية متخذة طابع السرد ذي النمط الجاد والمنتظم مما يحيلنا الى سؤال الحرفية والفنية وتقديم ما هو مشوق للقارئ، وقد تأتي بعض الروايات برؤية إبداعية جميلة مغلفة بأسلوب سردي وفني شيق ما يعطي النص جمالية التحام الفكرة بالشكل الفني في تقديم العمل الروائي أو الأدبي بسوسيولوجيا الشكل التي تشير الى لا اعتباطية استخدام مؤلف العمل الادبي إلى شكل ما أو تقنية ما من احتمالات الاختيارات الفنية المتعددة. وهي ذاتها الفكرة التي عبر عنها العديد من الفلاسفة الإغريق وصولا الى عصر التنوير وتحديدا هيجل الذي يحدد مفهوم الشكل والمضمون وتآزرهما مع بعضهما البعض على النحو الذي يصفه علي توت: «الأعمال الفنية الحقيقية هي تلك التي يظهر فيها الشكل والمضمون في هوية كاملة. فالأشياء عنده تتألف من التلاحم بين كلا المفهومين، إذ إن أيـاً منهما بمثابة الكل، وذلك بسبب احتوائه النصف الآخر. وينطوي المعنيين على تبادلية جدلية، وهكذا يصبح الشكل تحولّ المضمون إلى شكل، فيما يكون المضمون عبارة عن تحول الشكل إلى مضمون. فماهية الفن تكمن في الكلية الحرة الناجمة عن اتحاد كلي بين كلا المفهومين". (علي توت، بدون تاريخ) وهذا يتضح في روايتي «سمر كلمات» و«الثوب» للروائي الكويتي طالب الرفاعي إذ تتبين قوة عنصر الاختيار الفني للشكل الفني الذي تتموضع في داخله الرواية، فتكون الرؤية النقدية للعمل متعقبة للحكاية الشيقة الموصلة إلى الوجود الإبداعي عبر عربة جميلة ومطرزة بأفانين القول والشكل السردي الذي يتفرد بحرفية كاتبه الذي أسقى نصه الفني فكرة إنسانية خالدة وشكلا فنيا أصيلا يعلن انتماءه إلى ضفاف شطآن الإبداع التي طالما وطأتها أقدام من تحرروا من أغلال الجاهز والمقولب والسريع ليرتحلوا عبر الفكرة والكلمة إلى تلك الميادين الخلاقة التي لم تنجز الا بأيام وليال طوال تخللها مزاجات نفسية عصيبة من أجل ولادة تلك الفكرة. وهذه خطوة من خطوات إبداعية تتطلبها أي كتابة فنية أضاءها طالب الرفاعي في رواية «سمر كلمات» وأبحر فيها حد التفصيل البطيء في رواية «الثوب»، ففكرة الكتابة الروائية كانت موضوعا مهيمنا على كلتي الروايتين. وهذه الثيمة الفنية سنصلط عليها الضوء في هذه المقاربة التي تحاول التماس مع فنية الرواية عند الروائي في إثنتين من رواياته "سمر كلمات" و "الثوب"، حيث ستعتني ببعض التقنيات السردية التي شكلت ونسجت فضاء الحكاية أو الحكايات المتعالقة مع بعضها البعض في كلي العمليين، والمتنوعة ذاك التنوع الذي يدلل على قدرة الكاتب على تجاوز ذاته وتجاربه السابقة، حتى وإن كانت بوابة الحكي عبر عوالم التخييل الذاتي. وهذا سيكون عبر التركيز على ثلاثة أقسام تعتني بعملية تشكل الرواية كفن روائي يغاير محكيات العالم الواقعية، والتي تشكل شعرية الرواية وأدبيتها، وهي : مسألة العنونة، والصوت السردي، وعنصر المكان، الذي صور عبر تكتيك روائي مميز جعلنا نضعه في حيز الإخراج الروائي المميز للبيئة المحلية. وفيما يخص المضامين الفكرية، وثيمات الحكاية سيتم التطرق لها في القسم الثاني من هذه المقالة، التي هي في الحقيقة جاءت في هذه الدراسة مختزلة ، وغير متوسعة في شبكة العلاقات السردية التي نسجت عالمي الروايتين.

١- العنونة منطلق لانفتاح التأويل والتفسير:-

أ- "سمر كلمات" و والولوج إلى عالم الحكاية:-

رواية «سمر كلمات» واحدة من الروايات العربية التي تأخذك بسحر التخييل والسرد الروائي المغلف بغلاف الذاتية لتظهر لنا حالة خاصة ليست حالة طالب الرفاعي المؤلف الحقيقي ولا شخوص الرواية المتخيلين بل تظهر حالة ثالثة جميلة ومتفردة بظهورها من أرض الواقع بلون فريد ومتغاير. فالسؤال هنا حول سر تفرد الرواية بسحر القص المشوق لماذا نحن كقراء دخلنا الرواية ويغالبنا شعور بألا نريد استباق الأحرف والمتوالية اللغوية لنرضي فضولنا بمعرفة النهاية بل نريد أن نقف أمام الجمل والكلمات نعيش متعة النص ولذة التلقي بلغة شيقة ومشوقة محفورة بلغة الإبداع ومتفردة بأصالة الابتكار والتفكر في بحور الكلمات، وليست اللغة وحدها تحتفي بالجمال، بل المعاني والأفكار تستوقفنا كثيرا لنردد صداها حول أفكار قد تفكروا بها كثيرا وطوقت مخيلاتنا فنفضناها كما تنفض يدا الواقع أحلام الحالمين والمثاليين الواهمين بعدالة الحياة. بالإضافة إلى تميز لغة القص و الفكرة المعبرة عن خوالج القارئ ودواخله، فإن الرواية قدمت إضافة وبصمة إبداعية فذة على عنصري الزمان والمكان، فالزمن المهيمن على فضاء السرد وليس زمن أو مدة حدوث الحكاية كاملة هو في الفترة مابين أواخر المساء وبواكير الصباح، حيث يكون الحديث عن القصص والحكايات مساء، وهنا تتضح لنا أولى تجليات العنوان فسمر بطلة من أبطال الرواية تدور حولها الشخصيات الأخرى التي تشاركها البطولة، وكلمة سمر كذلك تدل على زمن سرد الرواة المتعددين للرواية، فكل واحد منهم يستهل حكايته في توقيت متأخر يرتبط دلاليا وعنوان الرواية سمر كلمات وهو ارتباط بنمط العنوان المكون فسمر كان وقت السرد وكذلك إحدى الشخصيات التي تدور حولها الرواية، وكلمات ولنلاحظ التنكير الذي طاله العنوان بين «سمر وكلمات» ما يجعل العنوان النكرة يتحلل في النص فيأخذ معناه من النص والشخصيات التي تروي الحكايات المتعددة لكلمات مجموع كلمات الرواة الذين لم يتح لكل واحد منهم سوى الحديث مرة واحدة ماعدا سمر وطالب الذين أتيح لهم الحوار اكثر من مرة، حيث سمر هي التي بدأت السرد وانتهت به. فالرواة : ١- سمر «٣ فصول» . ٢- طالب الرفاعي الشخصية الروائية المولودة بين دفتي السرد، والتي تلتقط من واقع الحياة اسم طالب الرفاعي الروائي الحقيقي ، وصفته كمؤلف روائي على مستوى العالم الحقيقي (فصلين). ٣- جاسم طليق عبير اخت سمر. ٤- عبير اخت سمر . ٥- دلال ابنة عبير ٦- سليمان صديق سمر ٧- ريم صديقة سمر . جميعهم ينطلق سردهم مساء بوقت السمر: «الحادية عشرة وخمس دقائق. ص9، الساعة جاوزت الحادية عشرة بقليل» ص39، وصولا الى اخر الفصل الذي يكون فيه وقت السرد الحادية عشرة وعشرين دقيقة» ص247. وبالتعمق أكثر بمفهوم السمر الذي يشي ببعض من الأريحية بينما جميع من تناوبوا على السرد هم رواة قلقون وباحثون عن حل لأوضاع غير طبيعية وغير مستقرة مما يلغي أحد إيحاءات كلمة سمر حيث تدل على الانسجام التام بين أطراف الحكاية. كذلك العنوان هنا يلعب وظيفة الإغراء، إي إغراء المتلقي الناظر إلى الكتاب منذ أول وهلة بعملية سردية مشوقة، وممتعة، لما للسمر من إيحاءات إيجابية في الثقافة العربية. و وظيفة الإغراء هي واحدة من الوظائف التي حددها جيرار جينيت في دراسته لمجموعة الوظائف التي تلعبها العنونة في النص كمنطلق أولي لقراءة النص، يدعو إلى تفكيك مكونات العنوان في النص. (د. جميل حمداوي، ١٩٩٧) العملية السردية تتشكل من دون سمار وصحبة مجتمعين حيث يصبح سمرهم الذكريات والتداعيات الحرة التي تفخخ مخيلتهم لحكاياتهم المتقاطعة بحكم القرابة والصداقة وعلاقة الحب التي انتشلت صلة الرحم من بئر القطيعة الذي كانت ستحدث بزواج جاسم زوج عبير من سمر الذي كاد أن يحدث لولا آخر فتيل من الأمل الذي صدق في نهاية الحكاية بزواج سمر من سليمان، ولتتكون الحكاية من تلك الفسيفساء المتجمعة في عدة فصول تنسج الحكاية حكاية سمر وسليمان وأهلهما وأصدقائهما.

٢ـ في الثوب تكمن الحكاية!

العنوان الروائي في رواية "الثوب" لا نستطيع اختزاله بعجالة إنه ينتمي إلى نمط العنوان المباشر أو غير المباشر أو غيرها من التصنيفات الجاهزة للعنونة التي يرتاح لها النقاد كونها تشغل لنا معادلة التحليل الصعبة بتعيين الأشياء ونسبها إلى قوالبها التي اعتدناها منذ أمد برصفها في أرففها المعرفية والأدواتية الجاهزة للتطبيق. من هذا المنطلق ستكون قراءة العنوان عنصرا أساسيا إن لم يكن جوهريا في فهم الرؤية الفنية والمضمونية للرواية. " الثوب" يعد مدخلا ومفتاحا أساسيا لقراءة فكر المجتمع الكويتي، وكافة المجتمعات في العالم التي لا زالت ترزح تحت أغلال العنصرية والطبقية والتصنيفات الاجتماعية الفاسدة والمتوارثة منذ القدم، فالفساد عملية وراثية، دخلت جينات كل الشبكات الاجاماعية، لا أقول في الكويت وحسب، ولا وحده العالم العربي ، بل إنها ظاهرة كونية بامتياز، قد تزيد أو تنقص في بعض المجتمعات، ولكن هذا لا ينفي انعدامها. قراءة الرواية بعين المحلية و تطبيق معطياتها على الواقع الاجتماعي الكويتي ، بالتأكيد ستمنح القراءة فرصة التفكيك المعرفي للأنساق الاجتماعية في الكويت، لهدف جدا مهم يكمن في تسليط الضوء وغرس ثقافة التعرف على الإشكاليات في بيئة ووسط ثقافي واجتماعي معين، بغية المعالجة الموضوعية والإنسانية لهذا الخلل في هذا الحيز الاجتماعي. "الثوب" ب "ال" التعريف تعطينا حالة من التعريف تعادل فكرة المطلق والسائد والكل والمركز والمعروف، وهذا هو الثوب الذي ترتديه شريحة في المجتمع الكويتي تمثل أقلية نوعية، نسبة إلى قلة أفرادها في المجتمع ( وهم في الرواية متمثلين في السيدة عواطف العبداللطيف زوجة خالد وأم أولاده، وأهلها ذوي الطبقة الثرية)، ولكنها من جانب آخر مسيطرة على شبكات المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية كذلك، و أقول الثقافية تحديدا كونها قامت هذه الجماعة من خلال نفوذها وسطوتها بمنع نشر الرواية التي قطع بها شوطا كبيرا، من أجل اعلاء ثقافة الصمت والخوف والرعب والحكايات المقولبة والجاهزة عن أهل السلطة التي من المحال أن يقبلوا بواحد اخترقها بسهوة عضو من أعضاء هذه الشبكة المجتمعية عن فعل الاختراق ، فخالد خليفة عندما اخترقها ودخل هده الحياة من دون أل التعريف المفخخة والمضخمة، يعتبر النكرة الذي لابد أن تدفع ثمن اعتراضها على كونها نكرة، ومحاولتها غير المشروعة بوجهة نظر الطبقة الغنية، بأن تسلب منه كل مظاهر السلطة حتى وإن كان ذو مال وشركات تجارية فلن يكون علامة قارة ومستقرة في نسق أهل "الثوب" ذاك، فكل له ثوبه ورداءه، وحتي إن كان زواج خالد وعواطف في فورة الشباب، وبلحظات تنورية استفادوا منها من أجواء الجامعة الأكاديمية، فهذه كبوة تلك المجتمع، التي مالبثت ابنتهم أن تصححها وتعود إلى نسقها الاجتماعي الحقيقي والعرف التي تعودت عليه، وهذا أكثر ما يكون واضحا بانفصالهم بعد سنوات من الزواج. هذا هو فيما نرى قد يساعد على تحديد الوظائف التي قام بها العنوان في النص، وهي الوصف الدقيق للدور الذي يلعبه رمز الثوب في الفصل بين الطبقات الاجتماعية ، إذ تحول من شيء مادي ملموس واعتيادي في الحياة الإنسانية إلى سكين حاد وفاصل بين طبقات المجتمع الواحد ولا سيما الطبقة التي اعتلت قمة الهرم الاجتماعي ، أي رأس الدولة، والطبقة المتوسطة والبسيطة التي شكلت جسد هذا المجتمع. كذلك الوظيفة الثانية التي قام بها العنوان هنا : هي التعيين، وهي حقيقة مشابهة للوصف ولكنها تغوص أكثر في عمق الرؤية الإنسانية التي يراها الروائي، وهي تحديد موطن الخلل الحاصل في الحكاية، وهي إنه من حاول إرتداء ثوب غيره ( والثوب هنا يرمز لحال ووضعية الطبقات الاجتماعية التي يكون الثوب أحد علامات ثراها أو غناها) فإنه سيعاني من ذلك البون الشاسع بين الطبقات، ومتعلقاته من عدم تمازج هذه الشرائح الاجتماعية فيما بين بعضها البعض. إذن كان مفهوم الثوب الذي تمركزت الرواية حوله، وبينت عمق الانفصال بين طبقات المجتمع، بانعدام الأفق الإنساني في هذا الزواج، حتى الأبناء كانوا منقسمين نتيجة لهذا الانحراف في مفاهيم الطبقات الاجتماعية الجائرة، فمي كان توجهها خالصا لأبيها وولائها له، بينما الأبنة الأخرى شابهت أمها وقررت العيش مع أمها بعيدا عن بيئة والدها. هذه القسمة المتساوية بين الاب والام، وعدم وجود أحد من الأبناء يشبه وياخذ قاسما مشتركا من طبائع الأبوين يعطي دلالة واضحة بعدم انفتاح أفق التمازج والتلاقح بين الأب والأم الذي قد يولد شيئا مشتركا بين الاثنين. مما يودي بخلاصة إلى انسداد الأفق الإنساني بين تلك الطبقتين، هذه رؤية طالب الرفاعي الكاتب الحقيقي للعمل والتي إن غلبت عليها هذه النزعة التشاؤمية فهي نزعة منتزعة من واقع المجتمع الكويتي وطبيعة سيرورة العلاقات الاجتماعية بين طبقاته. وهذا واضح وجلي في طريقة تحليل العنوان، والتصريح المباشر بمفهومه في المتن الروائي، ومن خلال آلية الحوار التي كشفت هنا دلالة العنوان دلالة صريحة: " أذكر أن أخي صالح نصحني بعدم الزواج، قال لي: "تزوج من عائلة في مستوى عائلتنا. بيت العبد اللطيف غير، بيننا وبينهم بحر الغنى، وستبقى أنت الفقير والتابع طول عمرك". عاد أبو وليد يسكت ثانية، قبل أن يبعث: " أذكر كلمات صالح. حذرني بقوله: إذا لبست ثوبا أطول منك فستتعثر به". (الرواية، ص ١٩٦)

هذا بالضيط تماما يتوافق ويتطابق مع المثل الكويتي القائل ب: " حلات الثوب رقعته منه وفيه"، أو " الثوب اللي أطول منك يعتك" . كما إن العنونة أتت مدروسة بدقة، وبدلالة متدفقة مع صفحة الغلاف للكتاب التي أبسط مايقال إنها تشير إلى مسخ معالم الرجل، الذي جلس خلف المرأة وكأنها كانت ظله.

٢- تنوع الأمكنة وتنوع الرؤى:-

المكان محطة أساسية لقراءة العمل الروائي لما له من دلالات وإيحاءات واسقاطات مباشرة وغير مباشرة في تكون وتشكل العمل الروائي، وهو ذاته مفرز من مفرزات فكر وتوجه مؤلفه، ووليد مدرسة وتيار أدبي معين. فالمكان في رواية رومانسية يختلف عن المكان في مدرسة واقعية أو واقعية سحرية، أو حتى المدرسة التاريخية. فالمكان قد يصبح ذاكرة جمعية تحرص الشعوب على إبقائها ناطقة وحية، وقد يكون كذلك مكونا كاشفا عن الصراع بين فضاءين ثقافيين متغايرين كقضية المكان وكشف صراع الحضارات بين بيئتين ومناخين ثقافيين مثلما كانت واضحة إشكالية المكان في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» التي سجلت لصراع حضارتين وثقافتين . كذلك، الدور الحيوي لعنصر المكان أنه يسهم في رصد المفارقات الاجتماعية بين أوضاع الشخصيات التي تتأثر وتؤثر بالمكان،. فهو يعتبر عنصر فني يتآزر والعناصر الفنية المكونة في الرواية، لتقديم رؤية الروائي في تأليفه لعمله، فهو كما يقول موسى ربابعة، الذي يؤكد إن ليس المهم رصد المكان الحقيقي والجغرافي في الرواية، بل إن " أهمية المكان تنبع في تعضيد علاقته مع المكونات الحكائية ، فهو ليس عبارة عن خلفية تتحرك فيها الشخصيات، لأن المكان يصبح من إنتاج مخيلة الروائي . فالمكان بغض النظر من ما هيته وكينونته وتمظهراته لا يستند على الجغرافيا فقط، وإنما يغدو جزءا مهما من نسيج البناء الروائي" ( د. موسى ربابعة، ٢٠١١، ص ١٨٥) وبالتجول في عالم المكان في رواية «سمر كلمات» سيتضح الدور التكويني الذي يلعبه حيز المكان في بلورة تصور المتلقي في عمق معاناة الشخصيات من جانب، وفي وشم معالم الكويت الحديثة مقارنة بالقديمة بعفوية سارد يتجول في الاحياء الكويتية والطرق والمباني الشامخة وبقصدية من المؤلف في إعطاء المكان بعدا حضاريا وإنسانيا يتجاوز فكرته كفضاء تدور فيه الأحداث. وبالإمكان تقسيم عنصر المكان في الرواية إلى ثلاثة اقسام: القسم الاول: المكان كفضاء عام للأحداث وحيز يحتوي شخوص الرواية كبيت اسرة سمر، وشقة سليمان، والعمل وغيره من المرافق التي شهدت احداث الرواية. القسم الثاني: المكان كعنصر مفجر لمعاضل سيسولوجية وسيكولوجية يعاني منها الشخوص، مثلما صرحت دلال ابنة عبير أخت سمر فراحت تسرد قصتها كساردة مستقلة في الفصل الخامس لتبين ان من أهم الأمور التي أثرت عليها من طلاق والديها هو الحيز المكاني الضيق الذي لا تستطيع أن تمارس طقوس حياتها اليومية والعادية بأريحية بخلاف وضعها القديم في منزل والدها حيث تمتلك مساحة أكثر وفضاء تحتفظ به بخصوصياتها المهددة بان تكون عرضة للمشاع في لحظة تطفل إنساني. فهي تقول: «هذه الغرفة القبر لا تتسع... تأخر الوقت... لا أستطيع مكالمة عايشة، ولا استطيع الرد على اتصالات فهد... آه... المغص... الليلة، أكثر من كل مرة، أشعر كأنه يقطع بطني. ربما، الليلة أسوأ ليلة في حياتي. تصورت كل شيء، الا ان يختار أبي خالتي ليتزوجها! كان من الممكن ان يكون الامر أهون علينا لو انه اختار أي امرأة اخرى. منذ خلاف أمي وأبي، وطوال الأشهر الماضية، كنت أقول لنفسي في كل ليلة: إن أبي سيأتي في صباح الغد، ليتصالح مع أمي، تنتهي المشكلة، ونعود إلى بيتنا، وحده هذا الحلم كان آخر ما أغمض عيني عليه، حتى علمت بطلاق أمي».(الرواية: ص-ص: ١٦٦.١٦٧) فالمشهد السابق يكشف مدى استحالة الحياة في حيز إنساني ضيق جداً، موبوء بمشاكل أسرية واجتماعية جعلت من أحلام اليقظة وحدها وسيلة تنفيس عن الكبت الذي تعيشه ثلاث فتيات في غرفة واحدة بتمني الرجوع إلى البيت الذي تعيش فيه الفتيات قبل طلاق ابويهما . ومن هنا نجد ان المكان أثر في الشخصيات بصورة واضحة مما أحال إلى فكرة ثانية ملازمة للفكرة الأولى وهي الوضع الاجتماعي للمرأة المطلقة وأبنائها. وكيف بالطلاق تفقد عاملا مهما وهو المأوى الآمن الذي لا يهددها بخطر التطفل على خصوصياتها أو حتى يذكرها بفقدانها فكرة أن تكون هي الامرة والناهية في مملكتها. القسم الثالث: المكان كذاكرة جمعية لشخوص الرواية: ويقصد بهذا المكان الاماكن العامة من طرق ومبان ومدن ومؤسسات دولة حرص الرواة على رصدها أولا ،ورصد انطباعاتهم حولها ثانيا، وتعقب التحولات التي طالتها تلك الاماكن ثالثا، ومن ثم توثيق خريطة المكان الكويتي التي بالفعل فعلت تفعيلا إيجابيا بالرواية بشكل موسع ومتكرر ، وبذكاء من المؤلف جعلها تتكشف وتتبدى تلقائيا مع رحلة السرد حيث التجول في السيارة إلى مكان مقصود أو غير مقصود، تجولا سرديا عائما في فضاء الحيرة والقلق والانتظار أو حتى التمرد على الأوضاع و متداعيا ذلك التداعي الحر الذي يمتزج وذاكرة المكان فتتشكل الحكاية ممزوجة بين أحداث الماضي وتفاعل السارد مع المكان، فطالب أحد شخصيات الرواية يقول في أحد الفصول السردية التي يقوم بسردها؛ «سوق شرق» يحتل شاطئ البحر على الجهة اليسرى... في السبعينات لم يكن من مبان على شاطئ البحر سوى ملاعب كرة القدم وحدها: ملعب الشملان، وملعب فريق الصباح، وملعب المهاري. ابتداء من العصر، تعج الساحات باللاعبين والمشجعين واللعب الحماسي والفرحة، وقتها كان شاطئ البحر صديقا مضيافا لكل الناس». وفي أسفل الصفحة يقول الراوي: مسجد بورسلي» يجاور مبنى «المرسم الحر» على الجهة اليمنى من الطريق. أبي كان يصطحبنا أنا واخي عيسى واخي هاشم إلى هنا لتأدية صلاة العيد». (الرواية، ص٥٥) يلاحظ من الاقتباس السابق إن السارد هنا قام بكتابة خارطة للمكان وبعث التفاصيل القديمة التي كادت ان تردم من الذاكرة الشفهية والشعبية فأحياها، وقام بتحويل الشفاهي إلى الكتابي. ومن جانب آخر عمق فكرة الحنين إلى الماضي كزمن معاش ومكان يحتوي أحداث الماضي بكل ما فيها من حميمية أو عفوية وتلقائية. من مثل الأمثال السابقة، يتبين أن المكان كان عنصرا مهما في الرواية وموظفا توظيفا بناء يخلق آفاقاً متعددة لفهم فضاء النص وفقا للمكان، بل ويجسد بعض الاشكاليات الاجتماعية و الانزياحات العمرانية التي تبدل وجه المدينة من دون ان نشعر. وهذا يقودنا إلى الالتفات إلى الحيز المكاني في رواية "الثوب"، الذي اتخذ طابعا مغايرا قليلا، فبالإضافة إلى اعتناء الروائي الدقيق بوصف الأمكنة التي يتنقل بينها شخصياته المتعددة إلا إنه قام بتكثيف دلالة المكان من حيث زاويتين، أولاهما: المكان كعنصر كاشف للمفارقات الاجتماعية بين الطبقات التي تعيش في أنساق حياتية مختلفة، فطالب الرفاعي المؤلف الذي لا يملك من المال إلا ما يعينه على العيش بحياة كريمة، وضعه وبيئته الاجتماعية، والمكان الذي يعيش فيه تعبر بوضوح عن ظروفه الاجتماعية، ومدى الحياة البسيطة التي يعيشها في ثنايا بيته الذي كان يصفه وصف عاد كمكان تدور فيه الأحداث بصورة رتيبة ومألوفة جدا. بينما خالد خليفة تتضح صورة ثرائه الفاحش والباذخ في أكثر من موضع في الرواية ومكان ، في منزله الذي، وفي مكتبه، وفي شاليهه، هذه الأمكنة مثلما كانت حيزا يحتوي الأحداث كانت أيضا رموزا تنفتح على دلالات تؤكد البنى الاجتماعية التي تحكم فضاء كل شخص منهم، وتبين عمق البون الشاسع بين الشخصيتين، فخالد خليفة التاجر له وضعيته في المجتمع كتاجر جعلته يملك ما يساعده على الحياة الكريمة ولا يخضع لابتزاز المال والحاجة، بينما طالب الروائي، فإنه يضطر لقبول الكتابة عن حياة تاجر التي لا يقتنع فيها كثيرا لمجرد بريق لغة المال واغراءاتها المتعدد في تسديد الأقساط التي يتعين عليه دفعها. فيصف منزل البار الكائن في منزل خالد خليفة بطريقة فيها شيء من الانبهار ما يغاير ويعاكس طريقته وصفه لبيته: " أزاح بخفه بابا متحركا فانكشف خلفه "بار" كبير بتصميم نصف دائري من خشب "المهاكوني" بني اللون، وأنوار زاهية، وأنواع كثيرة من المشروبات الروحية، وأشكال مختلفة من كؤوس الكريستال. قال موضحا: " هذا البار صممه مهندس إيطالي شهير". ( الرواية، ص ١٩١). من هذه الرؤية نستطيع القول إن عنصر المكان لم ينفصل عن الرؤية الكلية لعالم الرواية الذي كان يعالج عدة ثنائيات، واحدة منها ثنائية الفقر والغنى. وثانيهما: المكان كمعادل سيكولوجي لما يدور في ذوات الشخصيات، من حزن وقلق، أو سعادة وفرح، أي الأمكنة كعلامات موازية ومتوافقة وأحداث الحكاية التي لا ينقسم عنها المكان، فلا يمكن أن نرى مكانا يفيض جمالا وسعة ورحابة بينما الشخوص يعانون من الضجر والقلق، إلا إذا كانت هناك أكثر من وجهة نطر تتقاسمها الشخصيات المتعددة بين رؤى سعيدة، وأخرى متشائمة في الحياة من مثل تحديده لصفات بيت خالد وهو يتحدث مع متأثرا وحزينا لتدخل زوجته عواطف في كتابة الرواية، فأثر هذا على رؤيته لفضاء الأشياء : "سرت نحو المصعد و كأنني أهرب من وحش يحيط المكان. الحديقة متدثرة بخوفها.. ركبت سبارتي، وما إن أغلقت الباب، حتى خرجت أم وليد من المرآة الصغيرة. جاءني صوتها غتضبا: " لن تستطيع الوقوف في وجهي". ( الرواية، ص٢٦٤)

٤- الصوت السردي بين وفرة الرواة والراوي المفرد:-

من أجمل التقنيات السردية في رواية «سمر كلمات» هي تعدد وتنوع الرواة في الرواية الواحدة، هذه الوفرة في الأصوات الروائية، وتناوب السراد بالتعليق على حدثين رئيسين في الرواية شكلا نواة السرد هما طلاق سمر من زوجها وليد، وطلاق عبير من زوجها جاسم الذي أرادت سمر لاحقا الزواج منه، فكان الحدث الرئيسي هو طرد سمر من البيت بسبب رغبتها بالزواج من طليق أختها وقرارها في ترك سليمان علاقة الحب التي دفنت في الظلام الى ان تم الزواج بنهاية الرواية كحل وخلاص للأزمة التي كان بالإمكان ان تعد بقطيعة بين أفراد العائلة، وأحداث تابعة تفرعت من الأحداث الرئيسية وهي عودة الدكتورة عبير إلى بيت أبيها، وخروج سمر ليلا من منزل أبيها، وغيرها من الأحداث القصيرة التي توزعت على المتن الحكائي للسرد وتناولها بالسرد الرواة المتعددون . هذه الآلية في إشراك أكثر من راو في العملية السردية، تعيدنا بالذاكرة إلى رواية " الصخب والعنف" لوليم فولكر التي هي من طلائع الأعمال الروائية التي استخدمت هذه التقنية المنسجمة والبعد الحداثي في منح النص حق التجريب في صوغ رؤية سردية مقنعة ومتقنة تمنح القارئ ثقة أكبر بما يقرأ. حقيقة، ما كان مميزا هنا في عنصر السرد هو أن الرواة قاموا بفعل حكائي ووظيفي في الرواية، وهو اغناء عنصر السرد بالتحليل والتعليق المتغاير في بعض الاحيان لما قاله أحد السراد، وهذا إنما أعطى السرد نوعا من المصداقية، ومشابهة للحياة الواقعية. وتفكيك بنى المسلمات والمعطيات التقليدية التي اعتدنا كقراء أخذها وتلقيها من دون تفكيك، فاليوم ونحن نعيش في زمن يفترض انه ما بعد الحداثة، علينا ان ننقلب على الذات القديمة، والتلقي المألوف الذي يقبل ويتلقى ويلقن ما يقال له من دون تفكير، فنحن كقراء نمارس سلطة القراءة، اذ يترك لنا النص فجوات لابد من الوقوف عندها ومساءلتها، ومنها مصداقية السارد، كيف لنا ان نعلم ان هذا السارد صادقا. كيف لنا ان نصدق كلاما مقدما من جهة واحدة، كيف نقتنع بوجهة نظر عبير تجاه طليقها جاسم وهي مشحونة تجاهه بسبب صدمتها في أقدامه على الطلاق، وكيف نتقبل صورة سمر في مرآة عبير وهي الغاضبة والحانقة على سمر بسبب أقدامها على الارتباط بطلاقها، فكل ما يخرج من طرفها من سرد هو كلام مشكك به بناء على الظرف النفسي التي تمر به عبير. و هذه الفكرة دعمتها كذلك دلال ابنة عبير حيث تحدثت عن تصورها لأبيها وما دار أيضاً في المنزل بين مهاترات بين أبويها قالت بصدق الابنة المحبة لهما جميعا. فالحدث سرد عبر السراد الثلاثة «عبير، جاسم، ابنتهما دلال»، تم تناوله بطريقة مختلفة من كل سارد. كذلك تناوب كل شخصية من شخصيات الرواية العملية السردية قد قدم لنا العوالم الداخلية لكل شخصية عبر تناولهم السرد عبر ضمير الأنا للكشف عن الجوانب الداخلية لكل واحد من الشخصيات وعلى وجه الخصوص توضيح ماخفي على البعض منهم من تصورات ومشاعر من مثل كشف الجانب النفسي لمعاناة عبير نتيجة فقدها بيتها وزوجها، وتوضيح مدى تعلق الإثنين سمر وسليمان ببعضهما، وكيف يتصور بعضهما الآخر لدرجة ان القارئ يتحفز ويتمنى إيصال هذه الرسالة الى سمر ليخطرها ومشاعره تجاهها. كذلك دخول طالب الرفاعي كشخصية أساسية في السرد كشخصية كاتب يجمع كناشات الحكاية ويسمعها من الآخرين باحثا عن امرأة تحفز عنده الرغبة في الكتابة تتقاطع ورواية «فوضى الحواس» لأحلام مستغانمي، التي كانت تلتقط من شخصيات بعض الصحافيين لعبة سردية مشوقة لتصبح حكايتها المضنية في ما بعد ولتتوجع من بعد ذلك بآثار الفقد والحرمان، ولكن طالب الرفاعي هنا فيما نراه هو المؤلف الضمني في الرواية الذي يتوافق والمؤلف الحقيقي للرواية من حيث جانب مهم يمس الحياة الإبداعية للمؤلف التي لا تتأتي بسهولة يتوقعها على اقل تقدير المتلقي العادي بل يأتي من بحث مضنٍ عن الجمال الفني والصدق الموضوعي فليس من السهولة ان تقدم حكاية واحدة متماسكة اطراف السرد، فكيف بك تقدم الكثير من العوالم الفنية في الرواية التي تحتاج الى شغف وولع جديد مع ريم التي قد نراها صورة صادقة ليس للمرأة الملهمة فقط بل صورة لمكونات السرد التي تتطلب من المؤلف بحثا مضنيا وشاقا عنها كي تتألف الحكاية والرواية والقصة. فدخول السارد هنا أعطى من التخييل الذاتي شيئا من الواقعية الموهمة للقارئ السطحي بأن هذا هو طالب الرفاعي وأفراد أسرته يتجولون في عالم روائي يتطابق وأسمائهم ويشبه حياتهم اليومية العادية. هذا النوع من الربط بين العالمين جعل من السرد مكونا للدهشة والمتعة، والوعي بوعورة الإبداع الادبي وكيف هو صعب ان يكون الاديب أديبا وكيف تتأتي ولادة النص " من رحم الآلم والوجع والبحث الدؤوب عن لعبة سردية تستلب افق التلقي لدى القارئ. هذه التجربة في الروايتين موضوع الدراسة، قريبة جدا من تجربة الروائي الجزائري مرزاق بقطاش في رواية "دم الغزال " التي تقاطعت فيها عوالم حكايته الشخصية الحقيقية بالعالم الروائي التخييلي، الذي كشف فيها هاجسه كمثقف يحمل لواء الكلمة الحرة والجريئة في ذات الوقت، و يعمل في سبر أغوار الواقع الذي تعيشه الذات المثقفة تعايشا مع التجربة الذاتية وتجارب الآخرين، فهذه الذات الفاعلة والمتفاعلة مع الراهن ستصبح ذاتا حاملة للكثير من تجارب الحياة، ومختزلة لعناصر الصراع البشري، التي شهدتها وعايشتها ولا يمكنها الانطلاق من التعبير عنها إلا من خلال الأنا الحقيقية والفعلية التي ستقدم الحكاية بمزيد من الشفافية والمصداقية التي يعوول عليها كثيرا كونها قدمت عبر منظور الأنا الحقيقية للعالم السردي الذي قد يقدم الحكاية بتخييل موسعة دائرته تنمي وتوصل الصراع إلى ذروته بهدف كشف أبعاد الموضوع كاملة عبر تقديم رؤى عميقة للحياة بنسج سيناريوهات تلتقط الواقعي وتحلق عبر الخيالي لتحقيق اللذة المعرفية والجمالية، التي تضيف لنظرة القارئ تجاه الحياة شيئا جديدا. فهذا الفن الذي يقدم الرواية/ السيرة، الذي تصفه زينب الأعوج بأنه "سيرة ذاتية لمبدعين ولكنها أيضا تعكس وتتقاطع مع سير كثير من المثقفين والصحفيين والمواطنين العاديين، فيها الخصوصي وفيها أيضا المشترك من واقع ولغة ومعاناة جراء حياة السرية والتخفي والتوجس الدائم إزاء الآخرين. فارتباط الكتابة بالسيرة الذاتية - في هذه المرحلة-في تصوري - هي العودة إلى الذات واللحظة الحميمية المفتقدة مع الآخرين". ( د. زينب الأعوج ، بدون تاريخ ) وهذا ما يعزز فكرة اتطوير طاللب الرفاعي لهذه الفن فن التخييل الذاتي وتحويله من سارد مشارك جزئيا في رواية « سمر كلمات» سيتحول بنفسه وباسمه الواقعي وشخوص روايته الى راوٍ كلي المعرفة في رواية «الثوب» ليقدم رؤية اجتماعية مغايرة، تختلف عن أجواء "سمر كلمات" لأن الهدف مختلف ومغاير لديه، فالمؤلف الضمني في "سمر كلمات" تغيرت رؤيته في رواية "الثوب"، فإن كان طالب الرفاعي قدم رؤيته لحياة سمر وأهلها وطليقها وحبيبها بوعي تفكيكي ما بعد حداثي ينوي تفكيك البنى الاجتماعية القديمة ببناء الرواية معتمدا عدة أصوات سردية تتناول الحدث بطريقتها ووجهة نظرها الخاصة. وبإيقاع زمني متسارع للسرد لا يتجاوز الاثنتين والعشرين دقيقة بينما نجد الحكاية تمتد الى الماضي وتتراوح الى عدة سنوات او اشهر. هذا يختلف عن رؤية «الثوب» التي تريد أن تعطي فكرة المؤلف شيئا من حضورها السابق في بداية القرن العشرين والتي جاء رولان بارت في مقالته الموجزة «موت المؤلف» ليزيحها واعدا بقراءات بريئة من الأيديولوجيا والسوسيولوجيا والاقتصاد والسياسة، لتنظر الى النص وحده وتبحث في معطيات النص وما يعد به النص من جمال لغوي يحلل بعلم النص وفكر معرفي يقرأ من خلال مفاتيح العمل الأدبية السيميولوجية. وطالب الرفاعي الاديب هنا يرد على نظرية موت المؤلف بهذه الرواية من بعد ماكان دخوله الجزئي في رواية «سمر كلمات» مستحبا لدى القراء أتى ليعلن ويرد على دعاة هذه النظرية المقبولة بشكل عام وليس بكل تفاصيلها ليقول أنا مؤلف وهذه محاولة مني لتقديم بعضا من إشكاليات العملية الكتابية من قلق وبحث وتعب من اجل ولادة فكرة أصيلة، بل يسبر اغوار كل تلك المشاكل المحيطة في عالم الكتابة من مثل المسؤولية الأخلاقية للكاتب والالتزام بموضوعة الفن، وحفاظه على نقاء أهدافه من وراء الكتابة وأن لايكون قوامها المال الذي قد يدفع لتشويه الحقيقة، فكان موضوع رواية «الثوب» يأخذ منحيين من القراءة : قراءة تشكل العملية الإبداعية لدى المؤلف، واستجابة المجتمع لها بردود فعلها العنيفة، والكاشفة لمدى سطوة المجتمع الكويتي التقليدي الأبوي على الحياة الابداعية الكويتية. في الرواية من خلال اختيار فكرة الكتابة الإبداعية، التي سلط عليها من عدة جوانب، الجانب الأول: فكرة التحضير للرواية، وتجهيز العدة والعداد لها، والوصف لهذا الأرق النفسي والإرهاق العصبي المصاحب لحضرة الكتابة وطقوسها الغرائبية، مما سلط الضوء على دور الكاتب الحقيقي في تقديم عمل رصين. الجانب الثاني: هو جانب يمثل علاقة المجتمع بالكاتب، التي تبدو في النص غير مرحب بها، كون الكتابة هنا انتقلت من حيز التعبير عن آلام الفقراء والمقموعين، إلى التعدي على قمة الهرم الاجتماعي، والبارزين من هذا المجتمع، فأصبحت الكتابة هنا جريمة في عرف هذه الطبقة، ونوع من الوصولية والاستغلالية المفرطة بالنسبة لعواطف وأسرتها، بينما كانت لخالد ذاكرة مثقلة بالألم تريد أن تنفجر، عبر بوابة الكتابة، أراد أن يوصل رسالة للمجتمع الذي كان قاسيا فحواها رصد لقساوة ورفض المجتمع لأي ظاهرة من ظواهر الحراك الاجتماعي، حتى لو كان هذا الحراك حراكا إيجابيا ومشروعا. المنحى الثالث: هو نقاش عملي وفعلي لإشكالية، الأجور المادية للكاتب، التي إلى الآن لم تراع بصورة كبيرة، ولم توف حقها، فهذا الأديب المعروف وذائع الصيت، لا نقول حقوقه المادية مهضومة، ولكن قد تكون أقل بكثير مما يستحق لو كان في مناخ ثقافي غير عربي، مما اضطرته كمؤلف في داخل النص لقبول الكتابة عن شخصية خالد، وهذا يسلط الضوء على مدى رعاية الدولة لمبدعيها، وتوفير لهم الحياة الكريمة.

واحدة من الموضوعات الهامة التي أسهمت بخلق عالم روائي يتسم بالعمق في تناول الشخصيات، هي شخصية "عليان" ضمير السارد أو قرينه، وأنا شخصيا كمتلقية متفاعلة مع الشخصية ذاتها المنشطرة من عالم الشخصية الرئيسية في الرواية، طالب الرفاعي المؤلف المشهور، افضل أن أراها من منظور فرويد الأنا الأعلى super ego"" (فرويد، الأنا والهو، ١٩٨٢) تلك الأنا الثالثة التي تسهم بخلق معادلة أخلاقية رادعة للشخصية عن الانحدار إلى قاع الرذيلة، أو قائدة لها نحو السمو الأخلاقي، الذي تكون بدورها رد فعل طبيعي ومعادلة أخلاقية لدى كل إنسان ترمم الخلل الناشئ من انغماس الإنسان في عالم الأشياء والماديات، ليكون الأنا الأعلى ذلك الرقيب الحاسم لكل الصراعات والتفاعلات الملائكية والشيطانية في الشخصية، والتي تدخل القارئ في عملية تفاعل مستمر بين تأييد إقدام طالب الرفاعي على الموافقة على التنازل عن المبادئ والقيم والخوض في الكتابة عن حياة تاجر، وبين عليان صوت الضمير الذي يحاول دوما إنعاش مركز القيم عند قرينه طالب وليوقظه دوما ويذكره بمنظومة القيم التي تكون مخزونة ومتراكمة في وعيه منذ زمن. بالطبع كما كان اسم عليان أولا: مقاربا من تسمية الأنا الأعلى، كذلك له امتياز آخر وهو أنه أتى باسم ملتصق بالبيئة الشعبية الكويتية، وليضفي عليه صبغة دلالية من البيئة المحلية، والموروث الديني كذلك، فيكون الضمير، أو القرين. هذا النقاش لفكرة وجود " عليان" أضاف للرواية قيمة معرفية جميلة، لأنها أولا: استشرفت على مكونات مفهوم الذات والأنا من ناحية نفسية، غربية، ثانيا: الالتصاق بالموروث الشعبي ومناقشة بعض الأفكار والتصورات والمفاهيم التي شابت المخيال الشعبي ونسجت بتراثنا الشعري والأدبي، معبرا عنها بتصورات أدبية جميلة جديرة بأن تكون موضع دراسة ذات يوم.

وبعد، إن العالم الروائي عند الروائي الكويتي طالب الرفاعي، عالم خصب وغني ومتجدد في رؤاه الإبداعية تفتح آفاق التآويل لدى المتلقي بكافة أطيافه وفئاته، فهو عالم يشوق القارئ السطحي، ويستلب القارئ الفطن والمتمرس بفعل القراءة، كما إنه مادة غنية لكل قراءة نقدية، تبحث عن المعرفة والجمال والدهشة بين ثنايا نص روائي ينتسب بالفعل إلى فن الرواية الحقيقي.

- ناقدة وكاتبة كويتية. su_ad81@hotmail.com

* المراجع:

١- د. جميل حمداوي ، السيموطيقيا والعنونة، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دولة الكويت - العدد الثالث- يناير/ مارس ١٩٩٧م. ص ١٠٦. ٢-.د. زينب الأعوج، "كتابات المهنة تأسيس لوعي بجزائر جديدة". www.sudanenseoline.com ٣- طالب الرفاعي، رواية "الثوب"، دار المدى، سوريا، الطبعة الأولى، ٢٠٠٩. ٤- طالب الرفاعي، «سمر كلمات»،دار المدى، لبنان، الطبعة الاولى، ٢٠٠٦. ٥- سيجمند فرويد، "الأنا والهو"، دار الشروق، الطبعة الرابعة، ١٩٨٢-. ٦- علي توت، في المضمون الاجتماعي للفن... قراءة أولية في سوسيولوجيا الفن -2، مجلة الحوار المتمدن. ٧- د. موسى ربابعة، " آليات التأويل السيميائي"، مكتبة آفاق، ، الكويت، الطبعة الأولى، ٢٠١١.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم