تشكّل «الكوميديا اللامتناهية» منذ صدورها عام ١٩٩٦، واحدة من الروايات الأميركية التي نسمع عنها بانتظام، لاعتبارها برأي قرّائها عملاً جوهرياً ومن أفضل النصوص الأدبية التي كُتبت باللغة الإنكليزية منذ مطلع القرن الماضي. أما كاتبها، دايفيد فوستر والاس (١٩٦٢ ـ ٢٠٠٨)، فتحوّل بفضلها إلى أيقونة لدى الجيل الشاب المثقف، وإلى موضوع ثابت للدراسة في الجامعات الأميركية. من هنا توقفنا اليوم عند هذه الرواية، بعدما صدرت ترجمته الفرنسية أخيراً عن دار L’Olivier الباريسية. تجدر الإشارة بدايةً إلى أن قراءة هذه الرواية الضخمة (١٥٠٠ صفحة) عسيرة، وأحياناً مملّة، رغم العبقرية التي وظّفها والاس لكتابتها، أو ربما بسبب ذلك. ففي كل صفحة من صفحات نصّها، نستشفّ سعي الكاتب الظاهر إلى برهنة موهبته الكتابية. ولكن حتى القارئ الذي اعتاد «المُظاهرات» الأسلوبية لا يمكنه إلا أن يخضع لمناورات والاس الكتابية ويقرّ بعبقريته في هذا المجال، وأيضاً بثقافته المدوخة في ميادين معرفية كثيرة. ومع ذلك، تفتقد روايته، في نظرنا، إلى الجوهري كي تكون أكثر من مجرد استعراضٍ لقوة، ونقصد ذلك الخطاب، ذلك الخط الموجّه أو، بكل بساطة، تلك القصة التي نطرح عبرها نظرة جديدة على العالم. في «الكوميديا اللامنتاهية»، يوظّف والاس كل شيء لاقتراح مثل هذه النظرة على قارئه. لكنّ هذا الأخير، من فرط الأشياء الكثيرة التي يراها، لا يعود يرى أي شيء. فالفيض السردي وطابعه المقطّع يؤديان إلى خنق خطاب الكاتب ومغزى نصّه، وبالتالي إلى عدم التعبير في نهاية المطاف إلا عن مهاراته. ومع ذلك، تتعذّر علينا صياغة موقف سلبي حصري من هذه الرواية الشاملة من دون أن نكون جائرين بحقّها، نظراً إلى قريحة صاحبها السردية وذلك الجنون الصافي فيها الذي يأسرنا وتتراءى فيه ـ وإن بصعوبة كبيرة ـ نظرة الكاتب الى العالم المعاصر، أو على الأقل الى أميركا. فبقوة السخرية المبطنة داخله، يستحضر هذا العمل روايات شاك بالانيوك، وبالثرثرة - الفظة أحياناً - روايات هيوبرت سيلبي، وبهاجس الدقة العلمية روايات نابوكوف وتوماس بينشون، وبالتراوح الفج بين حداثة وما بعد الحداثة روايات مالكوم لووري. أما بانقضاضه على زمن الترفيه والمجتمع المشهدي والترويج الإعلامي للعواطف والإدمان في كل أشكاله، فيبدو الكاتب سليل كبار الروائيـيــن الذيــن سعــوا إلى تسليط الضوء على عــزلة الإنـسان، بدءاً بكافكا. بـــاخـــتـــصار، جــهد والاس في «الكوميديا اللامتناهية» - ونجح - في تشكيل حصيلة لما اقترحه الأدب الغربي، والأميركي خصوصاً، من نصوص مغامِرة خلال القرن العشرين، وذلك ضمن إعصار كتابي تتصادم داخله وتتداخل مواضيع ومعلومات غزيرة حول رياضة كرة المضرب، والمخدرات على أنواعها، وأفلام الترفيه، والاعتداءات الجنسية على القاصرين، والإرهاب، والقلق الاجتماعي... ولتوليف كل هذه المعطيات، نسج الكاتب حبكة معقّدة تتألف من خيوط كثيرة تسمح بنقلنا إلى مطلع القرن الواحد والعشرين حيث نرى أميركا وقد اتّحدت مع المكسيك وكندا تحت شعار التفاهة المخبِّلة والترفيه العقيم والاستهلاك الجشِع، ونتابع سعي سلطات هذا الاتحاد إلى وضع يدها على شريط سينمائي محظور بعنوان «الكوميديا اللامتناهية» بسبب قدرته على إثارة متعة كبيرة لدى مُشاهده تجعله يهمل كل شيء آخر، وبالتالي تقوده إلى الموت أمام شاشة تلفازه. شريط ترى فيه مجموعة انفصالية من مقاطعة كيبك وسيلة من أجل تقويض أسس الاتحاد الأميركي المذكور، فتنشط لاقتناء نسخة منه وبثّه في شكل واسع. بالتالي، تقودنا حبكة الرواية إلى أماكن مختلفة نتعرّف فيها إلى عشرات الشخصيات العصابية أو الذهانية التي تتألف خصوصاً من طلاب وأساتذة في «أكاديمية إنفيلد لكرة المضرب» ومن نزلاء «دار إينيت»، وهي مركز لمعالجة مدمني الكحول والمخدرات، من دون أن ننسى عميل «مكتب الخدمات غير المحددة»، ستيبلي، الذي يضطر دائماً إلى التنكر بزيّ امرأة لأداء مهماته السرّية، ويحاول جاهداً فهم طبيعة الترفيه الذي يقترحه الشريط السينمائي المحظور، والقادر على إبادة شعب بأكمله لا يعيش إلا للمتعة التي توفّرها شبكة الإنترنت له في عقر داره. حبكة يتخللها تطوّرات مثيرة وتشكّل ركيزة مثالية لتأملات شعرية وفلسفية وسياسية ورياضية وتقنية مدوخة تنضح بمراجع ثقافية كلاسيكية وشعبية وأخرى تعود إلى عالم الإعلانات والميديا. وهو ما يجعل من «الكوميديا اللامتناهية» رواية موسوعية، لا بل متاهية نظراً إلى ضياع القارئ غالباً في أروقتها واستطراداتها الغزيرة التي أراد الكاتب من خلالها، وعبر طريقة توليفها، «الإمساك بنسيج العالم الذي أعيش فيه»، على حد قوله. وفعلاً، يبدو والاس في روايته قادراً على تجزيء كل حدث سردي إلى سلسلة أحداث صغيرة تنحرف عن الحدث الرئيسي. وفي هذا السياق، يشكّل كل حادث أو تطوّر أو وصف أو مداخلة لإحدى الشخصيات فرصةً لانفجار معلوماتي عنقودي، داخل عملية السرد أو خارجه، في التذييلات التي تحتل نحو مئتي صفحة في نهاية الرواية وتشكّل جزءاً أساسياً من حبكتها. وفي ذلك، كما في مختلف المهارات الكتابية التي تميّز هذا العمل، تتجلى عبقرية والاس. نأسف فقط لأن هذه العبقرية تهرس غالباً بثقلها عملية السرد وتمنع القارئ، من فرط الأشياء الكثيرة التي يتطلّب منه استيعابها، من تشييد صورة واضحة للعالم الموصوف. لكن ماذا لو أن قوة الرواية تكمن تحديداً في هذه النقطة بالذات، أي في الشهادة على تعذّر تشييد سردية سهلة القراءة، وبخطوط واضحة، لوصف عالم معقّد مثل عالمنا؟ الأكيد هو أن «الكوميديا اللامتناهية» تشكّل خير تمثيل لحقبتنا المعاصرة التي يرى مبدعون كثر فيها أن أي شكل فني يجب أن يكون مفككاً ومنفجراً ومتجدداً، وإن أدّى ذلك إلى إفراغ هذا الشكل من معناه أو إلى جعله صعب المنال. يبقى أن نشير إلى أن هذه الرواية مدينة بالكثير لسيرة صاحبها وشخصيته. فولادته داخل عائلة من المثقفين الكبار ودراسته الفلسفة والرياضيات لعبتا دوراً في مضمونها وبعض مواضيعها وطريقة توزيع شخصياتها الرئيسة. ومعاناته الطويلة من حالة اكتئاب مرضي اضطرته إلى تناول الكثير من الأدوية الملطّفة لهذه الحالة، تفسّر اضطلاعه الموسوعي في هذا الميدان الحاضر بقوة في روايته، وأيضاً وضعه حداً لحياته شنقاً عام ٢٠٠٨. صرّح والاس مراراً بأنه كان يكتب للهروب من هذه الحالة ومن عزلته. ربما من هنا ذلك الميل إلى الثرثرة في روايته وطابعها المتاهي. كما لو أنه كان يؤجّل إلى ما لا نهاية لحظة ختم تلك الكوكبة من القصص التي يسردها فيها، حيث يلعب ذهنه دور المرصاد أو الهوائيّ الذي يلتقط أصغر استيهاماته ونزواته، وأيضاً صوت وطنه الذي يشكّل المسرح الرئيس لهذه الرواية. عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم