تصور رواية "الرجل الخراب" للروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن (مؤسسة الهنداوي، 2015) جوانب عدة لأزمة واحدة في الجوهر، هي أزمة الإنسان العربي، المسلم بشكل خاص في المجتمع الغربي. تحكي الرواية عن صعوبة التأقلم مع ثقافة بلدان الاغتراب، وتبعات الهجرة النفسية والثقافية. بالتالي، نجد الكاتب يتحدث عن الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، ويدفع إلى العلن مشاكل الأقليات. لقد جرّب توصيف الإنسان الذي لُصِقَ، على مجتمع يملك ثقافة غريبةً عنه، ما جعل منهُ إنسانًا مخروبًا من الداخل، يصعب أن يكون جزءًا أصيلًا من مجموع يختلف معه اختلافًا ثقافيًّا، وهو أعتى أشكال الاختلاف!

لكن على أهمية ما سبق، فإنّ الأمر الملفت في الرواية هو الشكل الفني الذي خرجت وفقًا له، إن كان فانسون جوف قد أخبرنا عن ابتكار المؤلف للراوي، ثُمّ تبنيه. فإنّ عبد العزيز بركة ينحو سبيلًا مختلفًا في السرد: إنّه يعمل على تمييز المؤلف عن الراوي، ليظهر الراوي على أنّه خارج سلطة المؤلف، ثم ليسحبه المؤلف، مرة أخرى، ويغيبه من السرد بشكل كامل، وذلك بسبب عدم الوصول إلى "رؤية مشتركة" " بينهما، يبدو عبد العزيز عابثًا بتقنيات الرواية التي نعرفها، لكنه عبثٌ بناء، أضفى على العمل أهميته الخاصة.

تزخر الرواية بأسئلة الهوية، وإشكالات الانتماء. يبدأ وعي حسن درويش بذلك الجانب في مرحلة مبكرة من حياته، عندما وجه لهُ مدير المدرسة كلمة "أجنبي"، وكان المقصود أنّه سوداني في مصر، ونقل تلك المفردة التي شعر معها بالإهانة إلى البلد الذي هاجر إليه، ليغَيّر اسمه من حسن درويش إلى شولز هاينرش بالرغم من ذلك، فقد فشل أيما فشل في تحقيق انسجام بين أي من الهويات التي عاينها، فتشكل لديه نوع من الحسّ المهدم والذي وقع هو نفسه ضحية له.

ورطته ضحالة ثقافته واطلاعه بالانضواء في تنظيم إسلامي عندما كان في مصر، ثُمّ دفعه تهديد الشرطة بالخصاء إلى الابتعاد عن ذلك التنظيم، ليهاجر في شاحنة لنقل الخنازير إلى النمسا، جعل الكاتب من الشاحنة مكانًا كثيف الدلالات، إذ جمع ناديا مع حسن، وسط رائحة الخنازير، وفضلاتها، وأصواتها، ثُمّ ليضيع الفارق بينهما وبين الحيوانات التي في الشاحنة، وذلك بارتدادهم إلى الغرائز الأولى دون أي لجم قد تفرضه الأخلاق والقيم التي ربّي عليها حسن. ليقع بعد عشرين عامًا في اختبارات مشابهة لكن مع ابنته، وعند هذه النقطة، أي عندما تتخذ ابنته لنفسها رفيقًا، تتشعب الرواية في عدة مسارات، بتعدد الأصوات التي تحكي الحكاية. فتشكل تلك الحالة نقطة بداية في الرواية، ونقطة نهاية فعلية، لها في الآن نفسهِ.

يكشف لنا عبد العزيز بركة بأسلوب مميز، الخراب الشاسع الذي باتَ يسكن بطله، ما جعل منه مصدر إزعاج بالنسبة للمحيطين بهِ، زوجته لوديا التي كان قد تزوجها للحصول على الجنسية، وابنته نورا التي بلغت الثامنة عشرة وأصبح من الطبيعي في النمسا، أن تجد رفيقًا لها. الأمر الذي دفع بوالدها إلى محاولة ارتكاب جريمة قتل بحق الشاب توني تنتهي على غير ما أراد الراوي. وعلينا الانتباه هنا، إنّه لا ينطبق على المؤلف في رواية بركة ساكن.

تنمو داخل شخصية درويش/هاينرش شخصيتان متوازيتان تنتميان إلى عالمين نقيضين، يطرح درويش مشاكل المجتمع الغربي، التفكك الأسري، الانحلال الأخلاقي، المخدرات. ويطرح هاينرش مشاكل المجتمع الإسلامي، الإرهاب، التعصب، القتل الأعمى تحت مسمى "الجهاد". تنمو الشخصيتان داخل البطل بشكل لا تنفي إحداهما الأخرى ولا تؤثر إلا بالشكل السلبي، ثُمّ يتدخل الكاتب، كي يخرج بطلهُ من مأزقه الوجودي، وذلك بدفعه إلى الموت، يقود الكاتب النص إلى نهاية رمزية، لا يمكن قراءتها نهاية لبطلهِ وحسب، إنّما نذير بنهاية حتمية للثقافة المغلقة على ذاتها، والعصية على القراءات النقدية.

تكشف لنا رواية "الرجل الخراب"، أنّ أول ما يحدث عندما تواجه، تلك الثقافة، الأزمنة الحديثة فإنّها تحطم معتنقيها بالشكل العقائدي الجامد والصلب، وتجعل منهم أناسًا مخربين. لقد قدم عبد العزيز بركة ساكن هذا الطرح بأكثر الأشكال فنية، ما جعل منه روائيًّا مختلفًا بالدرجة الاولى، ثُمَّ حامل ناقوس لطالما شكّله الأدب على مر الأزما

عن موقع الترا صوت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم