لئن انصب اهتمام جل الروايات المعاصرة حول انشغالات لا تبتعد عن هواجس المحيط الشخصي لأصحابها، أو المناسبات الكبرى المعروفة في العالم والتاريخ، لتعيد تزمينها بشتى الطرق.. فإن هناك من بين الروائيين من انبروا للبحث والتنقيب عن مناجم معرفية دفينة، واكتشاف حقول مهملة، تمكنوا فيها من استنهاض المغفول عنه داخل المألوف، وافتضاض خادرات الأفكار على مبعدة من السائد والشهير من الحوادث والأخبار. وحين يخاطبون معارف القارئ، وثقافته، ستتولد معرفة ثالثة يشترك في تشكيلها الروائي وقارئه في تآزر خلاق.. ذاك ما قام به محمد مفلاح في روايته السادسة عشر: "شبح الكاليدوني"، استئنافاً لما باشره من قبل مع نصوص حفرية تاريخية في صورة "شعلة المايدة"، أو "سفر السالكين".

أولاً-  من السرد المعرفي إلى التاريخ المضاد

بعد قراءة نص "شبح الكَليدوني"، سيتبدى للقارئ بأن ثقافة القراءة والاطلاع لوحدها لم تعد معينا كافياً للروائي حتى يكتب عملاً متميزاً؟؟ وذلك بعد أن يزج به الروائي محمد مفلاح في تضاريس جغرافية وأسفاراً تاريخية، تجعل من هوامل الأحداث، و شوارد الأخبار في الأماكن الحائلة والأزمنة الآفلة، بؤرة لسرد يعيد بناء التاريخ وتوليد أحداثه، بمنأى عن المدرارات التاريخية التي تشترع مركزيتها من تكريسها الإعلامي والأكاديمي. ليغدو التاريخ الشعبي بما يمازجه من أبعاد معرفية عميقة منفذاً يخترق البوابة الرئيسية للرسمي، وتضحى الرسوم العافية، استراتيجية تفوق في هندستها تخطيطات المدائن العاتية.

وبموازاة مع تنقيب الروائي محمد مفلاح في الأعماق الأنثروبولوجية للتاريخ الشعبي، ليؤسس منها إبستيمولوجية روائية تنافس الاكتشافات العلمية في الواقع، نلفيه -وبالعمق نفسه- يحفر في دخيلاء نفوسنا عن هوية مغيبة إعلامياً، مهملة ثقافياً، ومسكوت عنها أكاديمياً، وسيكتشف القارئ بعد برهة من إتمام العمل، بأن تغلغل الروائي في التفاصيل الدقيقة للتواريخ المغيبة، والرسوم الدارسة، لم يكن بحثاُ ميدانياً خارجياً بقدر ما كان بحثاً فكرياً وثقافياً عن الإنسان المستلب في ذواتنا اللاهية بكل ما يُقدم لها من وجبات ثقافية جاهزة.

فمتى درس تلامذتنا في البلاد العربية موضوع المنفيين من الثوار تشريدهم في المنافي؟

ومتى كتب روائي عن هذا الموضوع، عدا تلك الإشارة التي لم تتعدَّ اسم بطل من أبطال الطاهر وطار "الحاج كيان في رواية عرس بغل"، وعدد مهمل من كتب التاريخ، وأشرطة وثائقية نادرة البث والاهتمام في المنابر الإعلامية؟؟

مما يجعل رواية تتناول في قصة المنفيين في عهد الاستعمار، عملاً جديراً بالقراءة من حيث طرقه موضوعاً منفياً، لتاريخ شعبي أليف، صار لفرط تهميشه مغترباً بين أهله، وهو النداء الذي يصدح به شبح الكَليدوني، في رواية محمد مفلاح.

ثانياً  التشكيل الأسطوري للبطل- ( الولادة المعوقة، و مسارات الرحلة الأوديبية)

يحيل اسم بطل الرواية " امحمد شعبان المنفي" بصورة مباشرة إلى جده "امحمد الكاليدوني" من جهة، ومن جهة ثانية إلى الولي الصالح لبلدة غيليزان الجزائرية (الشيخ امحمد بن عودة)، بينما يرتبط اسمه الثاني: "شعبان" بالأصول التركية لوالدته التي سمته على البطل الثوري التركي: "الداي شعبان" أحد دايات وهران الذي استشهد أثناء محاربته للغزو الإسباني على وهران في القرن 17*.

  • التمزق التراجيدي:

تفتتح الرواية بمشهد شاب في أربعيني أعزب، هو البطل "امحمد شعبان المنفي" الذي تتجاذبه رغبتان خارجيتان، إحداهما رغبة أمه التي تشده إلى المستقبل من خلال حثه على الزواج كي ترى أبنائه و تضمن بقاء نسله. والثانية رغبة أبيه التي تشده إلى الماضي من خلال حثه على البحث عن قبر جده: "الشيخ امحمد الكَليدوني"، و كشف سر لقب "المنفي" الذي تحمله العائلة.

فيختار البطل تحت ضغط السلطة الأبوية، السير في طريق الذي رسمه الأب، وما يكاد ينهيه حتى يموت هذا الأب، ويدفنه البطل بيديه، وفي هذه اللحظة المزلزلة ينفتح أمامه طريق ثالث، يرتمي فيه بكل جوارحه، ويبيع في سبيله كل ممتلكاته المادية، ويقطع من أجله كل علاقاته ببلده وأسرته وعالمه، ليهاجر إلى منفى الأجداد "كاليدونيا". ليغدو كليدونياً بدوره. ولم يسلك البطل هذا الدرب سوى استجابة لنداء شبح جده الكليدوني الذي لم يهدأ بداخله، حتى سلبه روحه و رهن جسده، وأرسله وحيداً إلى أرض المنفى الموعودة، ليتماهى مع أرواح الأسلاف التي تسكنه.

  • المسلك الأسطوري (الأوديبي)

سيلاحظ القارئ أن هذا المنحى السردي، يتقاطع مع المسلك الأوديبي، حينما يقرر أوديب في الأسطورة خوض رحلته المصيرية نحو معرفة أصوله، فيجد نفسه في مواجهة طريق ذي ثلاثة شُعَب، يتوجب عليه اختيار إحداها..

يسير البطل "امحمد شعبان" على خطى أوديبية تحايثها اللعنة في رحلة البحث عن الكنز المفقود(معرفة الأصول)، مستهدٍ بخريطة قوامها الرسائل الثلاث التي خلفها جده. ينطلق البطل مسكوناً بشبح جده الكليدوني الآتي من أعماق التاريخ المغيب، في رحلة مصيرية نحو الخلاص الذي تحكي الرواية أطواره على نحو أساطيري شائق ينتهي بتحرر البطل من كل ما يربطه بعالمه ومجتمعه..  ويقرر خوض رحلة أسطورية إلى كَليدونيا الجديدة ملبياً نداء شبح جده "الكليدوني" سيراً على أقدام متورمة، حال أوديب حين بدأ مسيرة الشقاء. دون أن نغفل بأن البطل "امحمد شعبان" يعاني مثل أوديبٍ شقي، عقدة النسب، التي شوهها لقب المنفي الذي يلاحقه كوصمة عار وسط أترابه منذ الصغر.

لذلك يقرر في لحظة قنوط أن يرتحل للخلاص من هذا الرجس، وتنتهي الرحلة باكتشاف الأصل المقدس المغيب، (وهوما عثر عليه أوديب في الأسطورة ودفع ثمنه غالياً-فقء العينين-)**.

  • الخلاص التراجيدي و تمظهر الوعي الشقي

يتكرس الوعي الشقي بالتاريخ في المشهد الذي يسبق انتهاء رحلة البطل إلى الخلاص، و بالتحديد عندما يفقد أباه في غمرة انشغاله باكتشاف كنز الأجداد(أصوله المغيبة، وهو ما حدث لأوديب بصورة ما)، ليصحو البطل بعد موت الأب على حقيقة أن الأم الحقيقية ليست تلك الأرض التي ألفها جسده واغتربت فيها روحه، بل هي أرض المنافي القصية التي قرر الارتباط بها لتستقر روحه إلى كنف أرواح الأجداد، وهكذا سيكلفه الارتباط بأرض الروح، الفكاك من أرض الجسد ولا خيار ثالث، فيقبل الرهان، و يشرع في التحرر من رباط الأسرة والعمل والبيت والسيارة وكل الروابط الواهية التي اعتقد بأنها أصوله الحقيقية، وها هو يكتشف زيفها.. فيتعرى منها.. ليقوم في نهاية الرواية بحركة أسطورية لم يقم بها قبله سوى أوديب. وهي: الطرح في العراء.. استعداداً لملاقاة أصوله النقية المفقودة، ولن يتسنى له ذلك إلا بالسير على قدمين ستتورمان كثيراً قبل أن تصل إلى المبتغى الظنين. الذي تركه الروائي معلقاً.. لتنتهي الرواية على مشهد أوديبي أكثر شقاءً.. حين يُطرح البطل في العراء في سن الكهولة، (وليس في الطفولة كما تروي الأسطورة).. فاتحاً عينيه على حقيقته التي غيبها التاريخ الرسمي الذي أعمى أبصار الجميع عن رؤيتها، كأنما الجدير بالعمى في النهاية ليس البطل (كما تروي الأسطورة الأوديبية) بل أولئك اللاهية ألبابهم عن معرفة الحقائق المغيبة وانشغالهم، أو احتفائهم بما يقدمه الخطاب الرسمي من وجبات في التاريخ المزوق.

ثالثاً- لغز الكَليدوني وبلورة الموقف السردي:

الشيخ الكَليدوني، هو الجد صاحب السيرة الأسطورية، الذي يطارد شبحه، حفيده البطل "امحمد شعبان" طوال رحلته الروائية، تروي عنه الأخبار المتواترة بأنه رجل علم، وأدب و دين وجهاد، مثلت ثقافته وفاعليته في المجتمع الخطر الأكبر على الاستعمار الفرنسي، فطاردوه أكثر من مرة حتى ألقوا عليه القبض، ولما كان قتل العقول جريمة لا يغفرها التاريخ للمحتل الفرنسي الذي يتبنى شعارات التنوير في سياسته الاستعمارية، فقد تم نفيه إلى كاليدونيا، ثم عاد بطرق ملتوية إلى أرض الوطن، وقبل وفاته، خلف الكَليدوني رسائل ثلاث مثلت خريطة الكنز التي سيهتدي بها أحفاده إلى حقائق مغيبة عدة منها قبره الذي يرمز للتاريخ الوئيد. ليبقى التغييب يلف مصير المنفيين،جاعلاً من حكايتهم لغزاً عصياً عن الحل. أورثهم وعياً شقياً لا سبيل إلى تلافيه.

لغز لم تحله لا السلطة، ولا الأسلاف ولا أي جيل من أجيال الآباء والأبناء بعد الثورة، إلى أن يأتي بطل الرواية امحمد شعبان الذي يجد نفسه محل سخرية المجتمع بلقب "المنفي" الذي يحمله كالعار، لكنه ما يفتأ يتحول إلى مصدر عز وفخار. و بعد اكتشافه الثمين لشرف نسبه و حقيقة جده الكَليدوني. ينطلق البطل حافياً عاريا في رحلة  مجهولة العواقب نحو موطن الأسلاف (كاليدونيا) واصلاً حديث النهايات بغبطة البدايات..

تنتهي الرواية إلى بلورة موقف سردي يناهض التاريخ الرسمي ويدينه بخطاب واخز، يطرح أمام القارئ أكثر من إشكال حول كتابة التاريخ وإشكالاته المعقدة، حينما يتعلق الأمر بترسيم الرسمي وتهميش الهامشي، و ينبه إلى أسرار دفينه تمتلكها الذاكرة الشعبية وتقدسها، وتحييها معالم أنثروبولوجية لا حصر لها تقاوم النسيان. و تُذَكِّر مراكز القرار بمسكوتاتها و مجاهيلها في موقف سردي نقدي يتعمد التلغيز وتلغيم الحقول الدلالية للحكي، وإثارة التساؤل أمام القارئ، تاركاً له مهمة مواصلة رحلة البحث عن شبح الحقيقة المنفية في هذا الزمن..

لا بد في الأخير من الإشارة إلى موضع الوهن في نمط السرد المعرفي الذي إن كانت له فضيلة شحن النص مخاطبة القارئ برأس مال معرفي تدعمه الحقائق والمراجع مما يرفع من شأن الكاتب في نظر من يقرأ نصه، فإنه من جهة أخرى يضعف (في أغلب الحالات) من دور القارئ ويلغي فاعليته على مستوى التلقي. و يستبعده من المشاركة في حل العُقد، و توقع مسارات السرد، وفي المقابل يحتل السارد كل الأمكنة، ويسبر كل الثغرات والفراغات ويجيب عن كل الأسئلة، و غالباً ما يضطلع بدور الصوت المهيمن، وصانع العقدة وصاحب حلها، أمام قارئ صامت وسلبي لا مكان له في استراتيجية السرد المعرفي التي تمنح الأولوية للسارد العليم .

-----------------------------

*- هذه الإشارة التاريخية لا تخص معركة تحرير وهران في نهاية القرن التاسع عشر(1890)، بل إن قصة استشهاد الداي شعبان ومعاركه القديمة مع الإسبان في وهران.. كانت قبل هذا التاريخ بحوالي قرن من الزمان.

**- ينظر مسرحة أوديب في كولون، ضمن كتاب: تراجيديات سوفقليس، ترجمة، عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت (دت) ص 236.

ناقد وأكاديمي جزائري

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم