الجَّنْقُو: فِي الاِقْتِصَادِ السِّيَاسيِّ لِلإِبْدَاع!
(1) التَّخييل هو أحد أهمِّ عناصر الإبداع، عموماً، والرِّواية بوجه خاص، بينما الموضوعيَّة هي شرط أيِّ درس في الاقتصاد السِّياسي للظاهرات؛ لذا فالعلاقة بين هذين النَّشاطين الإنسانيَّين تتَّسم بقدر كبير من الطابع الإشكالي للتَّعقيد الذي يستوجب التَّمكُّث المنتبه في البحث والتَّقصِّي حتَّى لا تنبهم الحـدود الفاصـلة-;- والواصلة بينهما. -;-فالرواية حين تتناول أحداث تاريخيَّة، على سبيل المثال، فإنَّما تنفذ إليها من المنظور الذَّاتي البحت للمبدع؛ أمَّا الدِّرس العلمي فيفعل ذلك من منظور التَّوثيق والتَّحليل اللذين ينبغي أن يمارسهما المؤرِّخ بموضوعيَّة تامَّة، وبعقل بارد. وإذن، فعمل الرِّوائي يختلف، منهجيَّاً، عن عمل المؤرِّخ، لكنه، في ذات الوقت، يتفوَّق عليه في نقطة فارقة تتعلق، أساساً، بطاقة الإبداع التأثيريَّة على الوجدان الإنساني للمتلقي، وهنا مكمن الخطر! لكن هذه الطاقة التَّأثيريَّة لا تفعل فعلها في المتلقِّي إلا بتوفُّر مستوى عالٍ من الصِّدق الفني في العمل الإبداعي، وإلا فإن البداهة الإنسانيَّة الغالبة خليقة بأن تعصم المتلقي من الوقوع في حبائل الإبداع الزَّائف! ومع ذلك فإن هذا المتلقي قد يستقبل عمل الرِّوائي، أحياناً، وتحت ظروف خاصَّة، باعتباره وثيقة تاريخيَّة عن حقبة ما، بكلِّ ما قد ينطوي عليه هذا العمل من انحيازات مع أو ضدَّ أحداث معيَّنة، أو شخوص محدَّدين. وقد تصلح، لتلخيص هذه المسألة، حكمةٌ أفريقيَّةٌ قديمةٌ صادفتني، بنيروبي، منقوشة في ملصق مثبت على الجِّدار الخارجي لإحدى المنظمات المدنيَّة الكينيَّة النَّاشطة في حقل الدِّفاع عن حقوق الإنسان، تقول: "إلى أن يكون للأسود مؤرِّخوهم، فإن تاريخ الصَّيد سيواصل الاقتصار على رواية بطولات الصَّيادين"! غير أنه ينبغي ألا ينطوي شيئ من هذه المحاذير، بأيَّة حال، على أيِّ حكم بأن ينأى الرِّوائيُّون بإبداعهم عن الخوض في مخاضات الاقتصاد السِّياسي للظاهرات، فهذا غير وارد نظريَّاً، وغير ممكن عمليَّاً. كلُّ ما في الأمر أن الروائيِّين الحقيقيِّين لا يقتحمون هذا الحقل من باب غربتهم عنه، وإنَّما كمحض فضاء من الفضاءات العديدة التي يرتادونها للتَّخييل والإبداع، شريطة أن ينأوا بأنفسهم عن تزييف الحقائق، حذر أن يُعمَّدوا شهود زور. مهما يكن من شيئ فإن تاريخ الأدب يحفظ سير الكثير من الرِّوائيِّين الذين ولجوا هذا الحقل، فنجحوا، أيَّما نجاح، في تقديم إضاءات ذات قيمة فنيَّة عالية حول التَّاريخ، والاقتصاد، والسِّياسة، والاجتماع.
(2) ولأن لكلِّ من هؤلاء الرِّوائيِّين، بالغاً ما بلغ من غزارة الإنتاج، عملاً مميَّزاً، بوجه خاص، يتربَّع فوق قمَّة سنام أعماله طرَّاً، بصرف النظر عن موقعه الزَّماني منها، تقدَّم أو تأخَّر، فيُعدُّ، عن جدارة، تاج رأسها جميعاً master piece، فإن رواية "الجَّنقو مسامير الأرض" للسَّارد السُّوداني عبد العزيز بَرَكةْ ساكِنْ، الذي ما انفكَّت شهرته تطبِّق الآفاق، منذ حين، والمقيم، حاليَّاً، بالنِّمسا، في هجرة قسريَّة، هي، في تقديري، كما وفي تقدير الكثيرين، داخـل وخـارج السُّـودان، تاج سـرديَّات هـذا المبدع المتمـيِّز العـديدة، عن جدارة. وقد تُرجمت إلى لغات عدَّة، حيث صدرت، مؤخَّراً، النُّسخة الإنجليزيَّة منها، والتي أنجزها المترجم البارع عادل بابكر، عن دار Africa World Press بنيو جيرسي الأمريكيَّة، في طبعة زاهية، بغلاف من تصميم جوشوا بورتر، ولوحة من أعمال إبراهيم الصَّلحي، وقد شرفني المؤلف والناشر بالتَّقديم لها.
(3) أوَّل ما يتبادر إلى الذِّهن، لدى الفراغ من مطالعة الرِّواية، الفروق في أوضاع التَّهميش والمهمَّشين المقارنة، في جغرافيات السُّودان المختلفة، على صعيد حياة المزارعين بالذَّات. فلئن كان المكان في سرديَّات الطيِّب صالح، التي تشكل قيمة معياريَّة في حقل الإبداع عموماً، والإبداع الرِّوائي بوجه خاص، هامشاً زراعيَّاً، والنَّاس مزارعين مهمَّشين، فإن ذاك، على أيَّة حال، هامش شمال البلاد الذي لا يُعتبر غالب أهله، نسبيَّاً، في مرآة المركز وإعلامه، خصوصاً الرَّاديو والتِّلفزيون، غرباء سحنات، أو ثقافة، أو لسان. أما "الجَّنقو"، في سرديَّة بركة ساكن، الذين هم شريحة من مهمَّشي فئة العمَّال الزِّراعيين الموسميِّين، والذين ربما لم يسمع بهم المركز يوماً، وإن كان لا ينفك يستهلك ناتج عرقهم بشراهة، فإنهم يرتبطون بمناطق الزِّراعة المطريَّة في أقاصي جغرافية الهامش الكائن على مثلث التُّخوم السُّودانيَّة ـ الإثيوبيَّة ـ الإريتريَّة. ورغم أنه مكان عبقري، بكلِّ المعايير، إلا أنه قلما خضع لبحث علمي أو دراسة متمكِّثة، كما وأنه لم يسبق أن جرى تناول أوجه الحياة فيه من خلال أيِّ عمل إبداعي. وتقوم رواية بركة ساكن، بدرجة عالية من الإبداع، على تفاصيل حياة هؤلاء المهمَّشين الموسميِّين، والاقتصاد السِّياسي لنشاطهم الموسوم بالشَّقاء طوال أشهر الزِّراعة، وبالانتعاش لفترة قصيرة عقب موسم الحصاد، وتعكس، أيضاً، وقائع تفاعلهم مع الخليط المتباين للمهمَّشين المحليين، في هذا المكان الاستثنائي، شديد التميُّز بشريَّاً، واجتماعيَّاً، وثقافيَّاً، ولغويَّاً، وتعكس، إلى ذلك، كدحهم، وعلاقاتهم بالعمل المأجور، وبالمحصول، وبإغواء النِّساء والخمر، وبفرع البنك المنحدر من سلطة المركز، وبرأس ماله المعجون بفسادٍ أكبر من فساد الحانات وبيوت الدَّعارة، والمحمول على ظهور الشَّراكات والصَّفقات الخفيَّة بين القائمين على أمره وبين الملاك الخاصِّين للأراضي الخصبة والآلات الزِّراعيَّة الحديثة، كما تعكس، كذلك، علاقات هذا الخليط من "الجَّنقو" والسُّكان الأصليِّين بمصادر معتقداتهم، وأوهامهم، وأفكارهم، وتصوُّراتهم، وأمزجتهم، وأخيلتهم، ومجمل الأعمدة الرُّوحيَّة المركوزة في ظروف حياتهم الاجتماعيَّة الماديَّة على أرض الواقع.
(4) لم تبلغ "الجَّنقو" كلَّ ذلك الشَّأو، بطبيعة الحال، من فراغ، وإنما لأن ثمَّة عناصر محدَّدة توفَّرت لها. ففضلاً عمَّا سلفت الإشارة إليه من عبقريَّة اختيار المكان الذي يشكِّل مسرح أحداثها، وصنف البشر الذين يمثلون أبطالها، هنالك، أيضاً، المستوى الرَّفيع من التَّعاطي الفكري معها. هذا العنصر، وإن كان يمثل نزوعاً عاماً، على نحو أو آخر، في كلِّ سرديَّات بَرَكَةْ، إلا أنه يبرز بإلحاح في هذه الرِّواية، بالذَّات، حيث يتعاطى الكاتب معها كضرب من الاشتغال على علاقة "الخاص والعام"، عبر جدل الأنا الفرديَّة والأنا الجَّمعيَّة، في كل أحوال انسجامهما وتنافرهما، ترابطهما وتفكُّكهما، صعودهما وهبوطهما، تماسكهما وانهيارهما. فـ "الخاصَّ"، عند بَرَكَةْ، "عامٌ"، بل وقد يتماثل لديه هذان الضِّدَّان بحيث لا يكون ثمَّة وجود لـ "الخاصِّ" خارج السِّياق المفضي إلى "العامِّ"، ولا يكون ثمَّة وجود لـ "العامِّ" إلا في صميم "الخاصِّ"، رغم أن "الخاصَّ" لا يتَّخذ طابعه "العامَّ" بصورة مطلقة، وإنما بصورة تقريبيَّة، كما وأن "العامَّ" يشكِّل، فحسب، جزءاً، أو جوهراً، من "الخاصِّ"، وليس كلَّ "الخاصِّ" بتفاصيله كافَّة. على أن المؤلف، وهو يخوض في كلِّ ذلك الشَّأن "الفكري"، لا تُفلت أصابعه شيئاً من أدوات "التَّخييل"، و"فنيَّاته" الهادفة لإمتاع المتلقي في المقام الأوَّل، قبل إكسابه أيَّة فائدة معرفيَّة، كبرت أو صغرت. فالمؤلف، في تناوله، مثلاً، لبعض الشُّخوص، لا يتَّكئ عليها كمداخل "فكريَّة" صِرفة نحو الاقتصاد السِّياسي لفساد وتخثُّر الاجتماع الإنساني، بل كتجسيد "فنِّي" كامل، قبل كلِّ شيئ، لذلك الفساد في مختلف مواسم تجليَّاته الوجوديَّة. هناك، أيضاً، مسألة "الحداثة" و"ما بعد الحداثة"، كبنيـة ذهـنيَّة ثقافيَّـة متجـاوزة لا تنهض إلا علـى بنيـة اجتماعـيَّة ماديَّـة "بعـد كولونياليَّـة post-colonial"، وإن رامـت تجاوزها. وغير خافٍ أننا نستخدم مصطلح "مادِّي"، هنا، بدلالة المقولة الفلسفيَّة التي تومئ إلى "الواقع" الموضوعي. فرواية "الجنقو"، بهذا المعنى، "حداثيَّة"، بل و"ما بعد حداثيَّة"، بامتياز، كون هاتين الحالتين تعبيراً عن تطوُّر من باطن ثقافة الجَّماعة، وترميزات عقلها الجَّمعي، فيستحيل استلافهما من خارجها، بعكس الرَّكض الواهم وراء مبتدعات الذِّهن الغربي، و"صرعات" مسكوكاته التي ليس نادراً ما تكون، للأسف، مرغوباً فيها لذاتها! بعبارة أخرى، وباعتبار أن التَّرادف لازم، موضوعيَّاً، في حقل الإبداع، وضمنه الإبداع الرِّوائي، بين أسئلة "الحداثة" و"ما بعد الحداثة"، من ناحية، وبين أسئلة "التَّجريب" من ناحية أخرى، وبوصف الأخيرة شاملة لأشراط النأي عن المألوف، والتَّوق للمقلق، والتَّجاوز للعادي، والذِّهاب إلى المغاير، والاستدبار للسَّائد، والاستقبال للمختلف، بأفق لا يتنافر، وإن كان لا يتطابق، مع مجمل مستوى الوعي الاجتماعي، وما بلغته، داخل المجتمع المعيَّن، صراعات التَّطوُّر السُّوسيوسياسي من جهة، والإبداعي من جهة أخرى، فإن "الجنقو"، من هذه الزَّاوية، ملحمة سرديَّة باذخة، طائر روائي عملاق يبهر القارئ، ويخطف لبَّه، ويحبس أنفاسه، حتى يستبدَّ به، تماماً، فيحمله، عبر الكثير من التبدُّلات الزَّمانيَّة، في اتجاهات شتَّى، ما تلبث أن تلتقي، أجمعها، لتقود إلى مكان عبقريِّ الاختلاف، بأجنحة شديدة التَّعدُّد والتَّنوُّع، ورهانات فلسفيَّة وجماليَّة تزاوج بين "الواقعيَّة الاشتراكيَّة" و"الواقعيَّة السِّحريَّة"، حيث تثرى واحدتهما بالأخرى، دون افتعال أو تعمُّل، وتضجُّ كلتاهما، في كل الأحوال، بالعذابات الاقتصاديَّة السِّياسيَّة، والآلام الاجتماعيَّة الثقافيَّة، مِمَّا يفرزه اختلال التَّعـدُّد والتنوُّع، وانعدام سويَّتهما.
(5) وبعد، ثمَّة ملاحظتان أخيرتان نرى ضرورة إيرادهما قبل وضع النقطة في نهاية آخر سطور هذه المقالة: الملاحظة الأولى هي أن فتنة السَّرد في رواية "الجَّنقو" لا تستند، فحسب، إلى خصوبة خيال كاتبها، على أهمِّيَّة ذلك، بل، أيضاً، إلى ثراء تقنيَّاته الرِّوائيَّة القائمة في دقَّة الصِّنعة، ومضاء الأدوات، وتنوُّع الصُّور، وبراعة الحيل، وعمق التَّرميزات، مِمَّا يشكِّل، في مجموعه، منجزاً روائيَّاً متجاوزاً يتيح، بالضَّرورة، أفقاً أوسع لإغناء البُّحوث والدِّراسات النَّقديَّة حولها. أمَّا الملاحظة الثَّانية فهي أن "الجنقو" نهلت، حدَّ الارتواء، في ما هو واضح، من البيئة "المحليَّة". ولئن كان الأدب الذي يستحقُّ صفة "العالميَّة" هو ذلك الذي ينطلق، أساساً، من منصَّة هذه "المحليَّة"، مغتنياً بخرافاتها، وأساطيرها، وأحاجيها، وحكمها، وأمثالها، وممارساتها الشَّعبيَّة، ومتَّجهاً بها صوب القيم المشتركة بين مختلف الشُّعوب، فإن رواية بركة ساكن هذه لعالميَّة، في هذا المعنى، بامتياز، ولجديرة بوسع التَّلقي .. وأكثر. عن الحوار المتمدن
0 تعليقات