الشّخصيّات المتحوِّلة والواقع العنيف

يرصد" واسيني الأعرج" في" مملكة الفراشة"، الواقعَ الجزائريّ المأزوم بعد الحرب الأهليّة. هي رواية عن" الحرب الصّامتة الّتي لا أحد يستطيع توصيفها لأنّها من غير ضجيج ولا ملامح، عمياء"(). والوهم الظّاهر في بنية العنوان (مملكة الفراشة) يتمدّد بالنّظر إلى السّلوك الدّرامي، لا للشّخصيّة الرّئيسة "يامّا" فحسب، بل في سلوك والدتها" فيرجي" الّتي جعلَت من قراءة أعمال " بوريس فيان" مملكتها.

• الشّخصيّات وتحوّلاتها: تقع الشّخصيّة في صميم الوجود الرّوائي، ومن غير الممكن وجود رواية من دون شخصيّة تقود الحدث، وتنظّم الأفعال، وتعطي الرّواية بُعدًا حكائيًّا. وتُعَدّ الشّخصيّة الرّوائيّة" العنصر الوحيد الّذي تتقاطع عنده العناصر الشّكليّة الأخرى بما فيها الإحداثيّات الزّمانيّة والمكانيّة لنموّ الخطاب الرّوائي واطّراده"(). وتكشف الشّخصيّات في حركتها وتلفّظها داخل الرّواية، خلفيّات أُسّسَت سابقًا. وغدت شخصيّة يامّا، ووالدها "زبير" نموذجًا كاشفًا طبيعة هذه القيم، وخلفيّة معرفيّة. لم يكشف الرّاوي شخصيّة "يامّا" بشكل تراكميّ تقليدي، بل جاءت مرتبطة بالتّفتيت، وارتبط ظهور جزئيّات من تكوّنها بمثير آنيّ. وبعد لملمة هذه الجزئيّات يصل المتلقّي إلى صورة شبه كاملة عنها. نتعرّف شخصيّتها من خلال المونولوج الّذي كان متحكّمًا في الاندفاع نحو السّرد التّراتبي أو الارتداد نحو الخلفيّة المكوِّنة له في زمن سابق.

نعرف "يامّا" من خلال الدّخول في وعيها، من دون وساطة الرّاوي، وبذلك يكون المونولوج الدّاخلي وسيلةً فعّالة في اتّجاه إزاحة صوت الرّاوي والتّقليل من سيطرته. وقد فسح المجال أمام" يامّا" لتحتلّ مقدّمة المشهد السّردي، فحلّت في أحيان كثيرة، محلّ الرّاوي، ولم تعد تؤدّي وظيفة الفعل فحسب، بل أخذت مبادرة الكلام والحكي، مبرزةً موقفها ودوافعها وشكوكها وأسئلتها. هي صيدلانيّة وعازفة كلارينات، مع فرقة Depot Jazz، فقدت حبيبها داود(ديف)، قتلته رصاصة طائشة على الجسر. تهرب يامّا من الحرب الصّامتة، إلى حبيب افتراضيّ، عبر الشّاشة الزّرقاء، مملكة مارك روزنبرغ، إلى(فادي) الّذي أصبح كلّ شيء في حياتها، وبات رهانها الّذي تركض وراءه. صار"الحاسوب الوسيلة الوحيدة لرؤية الحياة"() هربًا من " حياة معطّرة بالدّم والأشلاء ومعطوبة في الصّميم"(). تروي" مملكة الفراشة" الحرب الأهليّة الّتي يذهب ضحيّتها أصحاب المبادئ والقيم، يُقتَل والدها الزّبير على عتبة المنزل، برصاصة غادرة.

حوّلت الحرب الشّخصيّات إلى كائنات سريعة الهشاشة، كالفراشات، منها من اختار الموت(فيرجي)، ومنها من وقع عليه(ديف-والزّبير)، ومنها من اختار العيش في الغربة(كوزيت: هجّرتها الحرب إلى كندا، وارتضت البقاء هناك-وفادي أو فاوست: مؤلّف ومخرج مسرحي رفض البقاءَ في أرضٍ، الموتُ فيها عبثيّ ومجّاني)، ومنها من تاه بين السّجون والأزقّة( رايان). باستثناء يامّا الّتي اختارت، مع مَن تبقّى من أعضاء ديبو جاز، تحدّي الموت بالموسيقى. كان العزف على الكلارينات من أفضل الوسائل الّتي ساعدتها على استنزاف الحزن والكآبة واليأس، وعلى التّخفيف من آلام متجذّرة في نفسها. يقول الرّوائي على لسان إحدى الشّخصيّات عن تلك الحرب المجنونة:" الحرب الأهليّة مثل الفيروس المدمّر، لا تتوقّف إلّا إذا أحرقت ثلاثة أجيال متتالية على الأقلّ. مَن قاموا بها. مَن عاشوها[عايشوها] واكتووا بنارها. ومَن ورثوا أحقادها"().

تختار الذّات المتألّمة بعد وفاة أبيها الزّبير ووالدتها فيرجي، استحضار الذّكريات والأصوات الّـي تربطها بموضوع حبّها المفقود.

• التّحليل العاملي والممثّلي: يظهر في مملكة الفراشة برنامجان سرديّان رئيسيّان هما: الّلجوء إلى العالم الافتراضي، ومقاومة الموت عبر الموسيقى. فإلى أيّ حدّ نجحَ كلّ منهما في تحقيق هدفه؟ سيتمّ التّحليل استنادًا إلى النّموذج العامليّ لغريماس، والّذي يتكوّن من الذّات، الموضوع، المرسِل، المرسَل إليه، المساعد، المعاكس، وهو عبارة عن تعديل لنموذج"بروب"Propp (الشّخصيات الخرافيّة)(). وستتمّ دراسة البرامج السّرديّة، بهدف كشْف "سيرورة الفعل الّذي ينجزه العامل الذّات لتحويل حالة من الانفصال مع العامل الموضوع، إلى الاتّصال، أو العكس"().

• البرنامج السّردي الأوّل الّلجوء إلى العالم الافتراضي: شكّل عنْف العالم الواقعي العامل المرسِل الّذي دفع بالعامل المرسَل إليه(يامّا) إلى البحث عن بديل لهذا الواقع، فكان البديل هو الشّاشة الزّرقاء، الّتي صارت مملكتها، وعليه كلّما لمع اسم فادي(فاوست)على الشّاشة، تتسمّر الذّات، ويهجرها النّوم(). ويومًا بعد يوم صار الحاسوب هو الوسيلة الوحيدة لترى الذّاتُ الحياةَ من خلاله. وشكّلت وفاة والدها عاملًا مساعدًا على انغماس "يامّا" في عالمها الافتراضي. وكذلك، كانت والدتها فيرجي عاملًا مساعدًا في اتّصال الذّات بموضوع سعيها، إذ كانت الأمّ تزداد انكماشًا على نفسها، وتعيش أوهامها، وتنسج حكاية حبّ مع الكاتب الرّاحل بوريس فيان. ولم تجد الذّات عوامل تعيق اتّصالها بموضوع رغبتها، وهذا ما يمكن أن نوضحه في التّرسيمة التّالية:

                  المرسِل                            الموضوع                               المرسَل إليه

          (عنف العالم                      العالم الافتراضي                             يامّا

          الواقعي)

      العامل المساعد                          الذّات                              العامل المعاكس

-وفاة الأب/فادي                                يامّا                                -----

 حاولت الذّات الاتّصال بالعالم الافتراضي، أحبّت "يامّا" شخصًا اسمه فادي أسمته فاوست. أخفق هذا البرنامج: لقد اعترفت الذّات بأنّ مملكة مارك روزنبرغ قد قتلتْها ومسحتْها عن آخرها(). كان الفايسبوك يؤمّن لها الانفصال عن محيطها الذّي لا تريده، فما إن يغيب الّلون الأزرق حتّى يحل ّمكانه الّلون الأسود القاتم. وفي النّهاية تكتشف يامّا أنّها كانت قد أُغرمت برحيم، المنتحل شخصيّة فادي المؤلّف والمخرج المسرحي.

• البرنامج السّردي الثّاني مقاومة الموت بالموسيقى: ما الأسباب الّتي أدّت إلى تكوّن برنامج مقاومة الموت عبر الموسيقى؟ مَن قام بدور العامل الذّات؟ وهل تمكّن من تحقيق هذا البرنامج؟ أو أنّه أخفق بفعل قوّة العوامل المعاكسة؟ عايشت "يامّا" ومعها "داود"()، كما غيرهما من سائر أبناء جيلهما من الجزائريّين، مرارة الحرب الصّامتة. وجد ديف_ كما كان يحلو ليامّا أن تناديه_ في الموسيقى الملاذَ من حربٍ يردّد المسؤولون أنّها انتهت، ولكنّها كانت تحصد الضّحايا يوميًّا. شكّلت الرّغبة في الحياة عاملًا مرسلًا، دفعَت العامل المرسَل إليه يامّا وديف وخمسة شباب إلى تأليف فرقة موسيقيّة، تحلم برسم واقع مغاير لواقع الموت اليومي، والانتصار عليه. تتكوّن فرقة ديبو جاز Depot Jazz" من سبعة شباب مولعين بحاضرهم وبعطر المدينة"(). حملت يامّا أحزانها، ونزلت إلى الفرقة، شاركتهم في العزف، خفّفت من حزنها، ومن خوفها. من العوامل المساعدة توفُّر المكان الّذي تتدّرب فيه الفرقة، كان مخزنًا مهملًا، عمل الشّباب على تهيئته(). وقد كان والد "يامّا" ترك لها مبلغًا من المال، ساعدها في تسديد رسوم البلديّة ليتسنّى لهم متابعة التّمرينات. ومن العوامل المساعدة أيضًا، احتفاظهم بوثائق عائدة إلى جدّ ديف، تثبت أنّ المخزن كان ملكًا له. وشكّل الانسجام الكامل ما بين أعضاء الفرقة عاملًا ساعد الذّات على الاتّصال بموضوع سعيها. كذلك شكّلت الجمعيّة الشّبّانيّة الهولنديّة عاملًا مساعًدا للذّات، إذ وفّرت لهم شراء بعض الآلات الموسيقيّة، وتأثيث المكان(). وقد ظهرت الجهات الرّسميّة عاملًا معاكسًا للفنّ؛ خشيت "يامّا" أن يأتي الدّرك أو الشّرطة" أو جهاز المخابرات السّريّ المطّلع حتّى على أنفاسنا"() لمنعهم من التّردّد إلى المخزن، ومتابعة نشاطهم الموسيقي.

وجد الشّباب في الموسيقى مسكنهم وملجأهم، حتّى صار" الدّيبو" بمثابة البيت الثّاني لهم، تقول إحدى الشّخصيّات إنّ المخزن صار البيت والذّاكرة، يختزن لحظات جميلة. علق اسم الفرقة في ذهن الشّباب بسهولة كما تروي يامّا في " زمن الخوف"(). ساعدت الموسيقى والغناء الذّاتَ يامّا على الخروج من دوّامة التّقتيل اليومي، ومتابعة الحياة. استطاعت أن تبني في الموسيقى عالمًا بديلًا، يطفئ حرائق الأحزان، ويعيد التّوازن إلى ذاتٍ أصابتْها الهشاشةُ في الصّميم. ينجح البرنامج السّردي (مقاومة الموت عبر الموسيقى)، وتنتصر يامّا مع أصدقائها، تقرّر الذّهاب مع الفرقة لإحياء مهرجان الجاز في إفريقيا الجنوبيّة(). وتغنّي في آخر الرّواية:" في بلادنا نحبّ الرّقص ونكره الحروب أيضًا"(). ويتوضّح ما تقدّم من خلال التّرسيمة العامليّة التّالية:

                  المرسِل                            الموضوع                                المرسَل إليه

                 الرّغبة في الحياة                   الموسيقى                               يامّا- أصدقاؤها

                العامل المساعد                         الذّات                                  العامل المعاكس

          الجمعية لشّبّانيّة الهولنديّة، وثائق جدّ ديف،                                            المخابرات

         الأموال الّتي ورثتها يامّا، إرادة الشّباب.

• المستوى الموضوعاتي: ستتمّ ملاحقة مجرى الأحداث على المستوى الموضوعاتيّ، وتتّبع الطّرق الّتي سلكتها حركة الدّلالة، وذلك بالاستناد إلى المنظور التّركيبيّ، ومن ثمّ متابعة الاحتمالات الّتي أمكن رسْمها على المربّع السّيميائيّ القائم على تقابل السّلب والإيجاب(). والمربّع السّيميائيّ من التقنيّات التّحليليّة الّتي تسعى إلى إظهار التّقابل ونقاط التّقاطع في النّصوص والممارسات الاجتماعيّة. وهو أشبه ما يكون نسخة معدّلة من المربّع المنطقي" في الفلسفة السّكولاستيّة"(). وهو يُستخدم" في مستوى التّحليل الموضوعاتي التّجريدي، لإظهار بنية الدّلالة، ويتيح الرّؤية العيانيّة للعلاقات المنطقيّة الأساسيّة الّتي يتمفصل المعنى استنادًا إليها"()، أي تبعًا للمنظور الاستبداليّ.

قدّمَت مملكة الفراشة عددًا من المتعارضات الحسيّة، تلاءمت مع التّحوّل في المستوى السّردي. ونجد عددًا من محاور التّضادّ الّتي تشكّلُ على المستوى الموضوعاتي البنية العميقة للرّواية، وأهمّها:

• الافتراضي≠ الواقعي: ترتسم إمكانات بناء المعنى على المربّع السّيميائي في المستوى الاستبدالي كما يلي:

                                                  علاقة تضادّ

                                  افتراضي............................... واقعي

                تكامل وتداخل في السّلب                                     تكامل وتداخل في الإيجاب

                                  لا واقعي............................... لا افتراضي

                                               تضادّ فرعي أو شبه تضادّ

تُستهلّ الرّواية بشعور الشّخصيّة الأساسيّة يامّا بالأمان للمرّة الأولى، وهي تفتح باب البيت، بعد أن كان قد تملّكها الخوف من الاغتيالات المتلاحقة في المدينة، ومشاهد الموت في حرب لم تعرف نهاية. ثمّ تنتقل حركة السّرد نحو العالم الافتراضي، عندما تهرب "يامّا" من مدينتها الّتي" توفّر الموت بسخاء"، إلى المملكة الزّرقاء. يعود السّرد بعدها إلى العالم الواقعي؛ تروي يامّا بعضًا من ذكرياتها مع ديف. ولكن، لا يلبث أن يسرقها العالم الافتراضي مجدَّدًا(...)

وبقيت بذلك حركة الدّلالة مترجّحة ما بين العالمَين الواقعي والافتراضي. وفي كلّ مرّة تهرب يامّا من الواقع، من الحرب الصّامتة، من الموت، من الدّمار، من الفراغ، من ذلك كلّه، إلى الشّاشة الزّرقاء، يترجّح مجرى الدّلالة، ولكنّه يصل في نهاية الرّواية إلى العالم الواقعي مع عودة المخرج المسرحي إلى دار الأوبرا في الجزائر. تكتشف "ياما" أنّه ليس حبيبها، ولم يكن حقيقيًّا. تقرّر الخروج من دوّامة وهْم العالم الافتراضي، فيترسّخ مجرى السّرد في العالم الواقعي مع قرارها بالذّهاب مع فرقة ديبو جاز...

• الموت ≠ الحياة: " الحياة في الّلغة هي نقيض الموت، وهي النّموّ، والبقاء، والمنفعة"(). تظهر جدليّة الموت والحياة في رواية" مملكة الفراشة" في قصّة مايّا، وفي قصّة والدها الزّبير، وفي قصّة والدتها فيرجي، وفي قصّة حبيبها ديف. ويرتسم المحور الدّلالي، بين القيمتين المتعارضتَين، حياة≠ موت على النّحو التّالي: حياة                                           موت

ترجّح المجرى الدّلالي بين موقعَي الحياة والّلاحياة، عندما تحاول يامّا تجاهل التّهديد، و" التّنفّس خارج الخوف"(). حاولت أن تهرب من الموت المجانيّ الّذي توزّعه مدينتها الجافّة" مثل أهاليها"() إلى عالم افتراضيّ، لكنّه، كان في الحقيقة، اتّجاهًا لمجرى الدّلالة نحو الّلاحياة. تقول يامّا عن تلك الحرب:" التهمت كلّ شيء حتّى ما تبقّى من محبّة النّاس بعضهم لبعض(...) قتلَت والدي، وهزمَت أمّي، وهجّرَت توأمي، نصفي، وأحرقَت أخي، وطوّحَت بي بقوّة في عرْض الحياة"(). يعود مجرى السّرد إلى موقع الحياة عندما ينفتح عالم يامّا على عالم والدها الزّبير، ولكنّه" خرج من هذه الحياة بصمت غريب"()، فانتقلت حركة الدّلالة إلى موقع الموت. إذ فقدت بموته الأب الحنون، والصّديق، والنّاصح. ترك موته فراغًا كبيرًا في حياتها، فإذا بالأحداث تتّجه إلى موقع اللّاحياة(الشّاشة الزّرقاء)؛ تزداد "يامّا" تعلّقًا بفاوست، تنسج أوهام الفراشة، وكلّما ابتعدت "يامّا" من العالم الواقعي وفترت علاقتها بعائلتها ومحيطها، اقترب مجرى السّرد أكثر من موقع الّلاحياة. أمّا الوالدة فيرجي، فتترك التّعليم، وتنزوي في عالمها الخاصّ، تعيش مع روايات بوريس فيان، تنطلق حركة الدّلالة من موقع الحياة(القراءة)، ولكن مع مرور الوقت، واستمرار الحرب الصّامتة على الرّغم من انتهاء الأهليّة، اتّجه مجرى الدّلالة نحو موقع الّلاحياة؛ لم تعد فيرجي تغادر منزلها، لا بل رفضت بعد وفاة زوجها أن تتخطّى العتبة حيث سقط برصاص القنّاص. كانت فيرجي تنحدر يوميًّا نحو نهر الجنون، ويتّجه مجرى الدّلالة إلى موقع الّلاموت، إذ في أعماقها جرحٌ" وحدها مَن كان يعرف عمق ألمه"().

• الإيديولوجيا: برز التّطرّف الدّيني في مملكة الفراشة عاملًا مخلخلًا لبِنية المجتمع الجزائري، وقد ظهر على ألسنة الشّخصيّات: كانت فيرجي تدرّس في مدرسة فرنسيّة، ولكنّها آثرت التّقاعد بعد تضييق الخناق على المثقّفين. وحارب الإرهابيّون العلمَ بكلّ أشكاله، منعوا الكتب، وأحلّوا الجهل محلّ التّعليم. وكأنّهم بذلك أرادوا طمس أعين النّاس عن معرفة الحقيقة، وتعميم ثقافة الجهل والتّقوقع، والتّخلّف، والانغماس في التّقتيل. تقول فيرجي لابنتها يامّا:" سيأتي زمن لن تجدي فيه كتابًا واحدًا في السّاحة. نار الجهل والضّغينة أكلَت كلّ شيء"(). حضر الإرهاب في باحات الكنائس والمساجد، كان يحظّر على المسلمين زيارة الكاتدرائيّات. تقرّر يامّا زيارة حطام أقدم كاتدرائيّة( مريم المجدليّة)() الّتي فجّرتها أيد مجهولة. تلك الكاتدرائيّة كانت ملاصقة للمقبرة المسيحيّة، وكأنّ حرمة الأموات لم تمنع الإرهاب الأعمى من أن يمتدّ ويدمّر مكان العبادة المخصّص لطلب الرّاحة للأحياء قبل الأموات. لقد أدّى تكاثر التّعصّب الدّيني إلى انتشار" العنف المجنون"()، فقدت يامّا، كما غيرها، بتفجير الكنيسة، مكانًا آمنًا كانت تلجأ إليه لتفريغ شحنات الألم الّتي تسكنها بفعل الحرب الأهليّة، الّتي وإن كانت قد انتهت بعد" أن أكلَت البلد قرابة العشر سنوات" لكن بدأت" حرب الانتقامات السّريّة... الانتقام هو دائمًا أعنف من العنف ذاته"(). تتحدّى "يامّا" الإرهاب، تتوجّه نحو من تبقّى من حطام الكاتدرائيّة، لم يكن في نيّتها الصّلاة ولا الدّعوات، الكاتدرائيّة خالية من الأنفاس، فقدت كلّ حياة. (ويحضر في هذا المجال ما ذكرته إحدى الشّاعرات الّتي توجّهت إلى مكّة، ورأت ما رأت من زيف.. فقالت:"أبحث عن الّله... فلم أجده في الحرم"()). هناك، رتّلت" يامّا" نشيدًا بالّلاتينيّة، ناجت العذراء، وطلبت منها أن تحفظ أخاها رايان.

• إيديولوجيا الخوف من الإرهابيّين: فقَدَ حارس الكنيسة كلّ إيمان بقدرة السّيّدة العذراء على مساعدة الإنسان وإنقاذه من آتون الشّرّ:" لالة مريم لم تستطع أن تفعل الشّيء الكثير مع القتلة الأحسن أن تختفي في مكان ما حيث لا يراها ولا يسمعها أحد. طاحونة القتل العمياء الّتي استقرّت في البلاد، لا تفرّق بين الّلصّ والإمام، بين المجرم والخوري، وبين النّبي والدّجّال"(). يبدو الخوف من الموت على لسان حارس الكنيسة الذّي اهتزّ إيمانه، وتمكّن التّكفيريّون من بثّ الرّعب في قلبه، رجاها ألّا تعود ثانيةً إلى هذا المكان، سألها عن دينها، في بلد يصبح فيه الانتماء الدّيني سببًا للموت والعنف والانتقام:" كلّ شيء أصبح ملغّمًا. ويمكن أن تقتلك كلمة واحدة"(). في زمن الحرب لا قيمة للإنسان، رصاصة واحدة تكفي لإنهاء حياة" مَنْ يعتدي على صمت ليس له" يقتلون" النّاس اللي يتكلّموا في الوقت الّذي يفترض فيه أن يصمتوا"(). الحرب الأهليّة أشبه بطاحونة لا تشبع، تستمتع بالقتل الفردي الجماعي. لا رصاص في المدينة، ولكن أصداء الحرب تتردّد في الأدمغة().

• الزّمن: لقد جاء بناء الرّواية في إطار نسق سردي خاصّ، فهي تتجلّى من خلال سرد تصاعدي، ولكنّ الرّوائي استخدم تقنيّات لتكسير خطيّة الزّمن الممتدّ، ترتبط بالاسترجاع أو التّذكّر من خلال ذاكرة منفتحة على الماضي (تسترجع أسماء الكتب الّتي كانت فيرجي تنصح لها بمطالعتها، تتذكّر الكتب الّتي أحاطت أمّها نفسها بها، عشقها للكاتب "بوريس فيان" الّذي توفي يوم مولدها... تستحضر الماضي من أجل مقاومة الموت الكائن في الزّمن الحاضر). وهذا البناء الخاصّ جعل" مملكة الفراشة" منفتحة على عالمَين: العالم الآني، والعالم الماضي. تأرجح الزّمن في هذه الرّواية بين الماضي والحاضر والمستقبل. لقد أوجد ذهن الشّخصيّة الرّئيسة "يامّا" تداخلًا بين الحدث النّامي بشكل تراتبي (السّعي لتأمين الأدوية المفقودة من السّوق، العمل مع الفرقة) والحدث الماضي الّذي يعبّر عن خلفيّة مؤثّرة (موت والدها الزّبير.. ضياع أخيها رايان في السّجن.. تحجّر كوزيت..) والحدث القادم الّذي يتمّ الإعداد له في الّلحظة الآنيّة (لقاء فاوست العائد برعاية رسميّة لعرض عمله المسرحي في دار الأوبرا).

بدَت" مملكة الفراشة" أشبه ببحث في إرهابيّة الحياة العربيّة، في مكبوت الذّات والمنفيّ والمسكوت عنه، تقول الخيانة والفساد. تقف الرّواية على مأساة العنف والدّمار (كنيسة أمّنا مريم المجدليّة، تقطّع أوصال المدينة) وتعاين الخوف من القنص المستمرّ، من الموت في محيط متعفّن، فاسد، مخنوق. وجاءت الرّواية فضاءً حرًّا، وحقّقَت الّلقاء بين الّلغة اليوميّة الجزائريّة والّلغة العربيّة الفصيحة، بين العالم الاجتماعي والنّفسي، بين الماضي والحاضر. سلّطَت" مملكة الفراشة" الضّوءَ على ما يحدث في الجزائر، من مصالحةٍ وبحْثٍ عن المنفيّين، ومحاولة الانتقال من القمع والتّنكيل إلى التّرحيب بالمبعدين...

ـــــــــــــــــــــ

[الجامعة الّلبنانيّة، المعهد العالي للدّكتوراه]

عن مجلة "كتابات معاصرة".

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم