التخييل باعتباره أحد أسرار الفنّ الروائيّ

يلعب الخيال دوراً محوريّاً في مختلف الأجناس الأدبيّة، ذلك أنّه يتكفّل بسدّ الكثير من الثغرات التي يخلّفها الواقع، أو يتسبّب بها، وبقدر ما قد يُظنّ بالخيال من وفرة أو سهولة، فإنّه يبقى ذروة عصيّة من ذرى الأدب، قلّة من المحظوظين الموهوبين يبلغون حوافّه، فتراهم يبدعون أدباً غرائبيّاً ساحراً. ولا يكون الخيال بمتناول المستسهل قطّ، لأنّه يحتّم على الساعي إلى امتلاكه والتمتّع به، جهداً دؤوباً، ومثابرة مضاعفة، قد يتمكّن بعدها الساعي إليه من إبداع متفرّد، أو ينقاد له في عملية التخييل ليبدع صوراً لامألوفة، تتخلّل جوانب السرد المحكَم المعتمد على التخييل كركيزة هامّة. لكن تحضر عدد من الأسئلة حول الخيال كآليّة وفعاليّة، كوسيلة وغاية، منها: هل يمكن تعليم التخييل لراغبٍ بامتلاكه..؟ وهل يصحّ أن نجعل من الخيال عنصراً قابلاً للتحصّل عليه بطريقة ما..؟ ثمّ ألن يكون في الحديث عن الخيال كتجسيد أو تمثيل غبناً بحقّ هذا الاكتشاف الإنسانيّ العظيم..؟! هل يقصَد بالخيال ما يتَشَبَّه لك في اليَقَظة والحُلُم من صور وأطياف..؟! هل حقّاً هناك محاربة للخيال بوصفه مُضلّلاً ومُوهماً، أم أنّ هناك توجّساً دفيناً منه..؟! إلى أيّ حدّ يمكن الوثوق بالخيال والبناء عليه..؟! هل الخيال إشكاليّة أم أنّه مُحمَّل علل الكتّاب في مسعى للتملّص منها وعزوها إلى عنصر مغيّب..؟!

• نهاية الخيال..؟!

هناك مَن تنبّأ بنهاية الخيال الذي يستمدّ قوّته من الأنا وحده، لأنّ الواقع الساحر الخدّاع حين يلامس البناء الهشّ للحلم سيقوّضه لا محالة، حيث أنّ الخيال يقصر عن أداء أدواره المختلفة في تشييد وبناء عوالم غرائبيّة، لا يقوم بالإيحاء والإيهام والمخادعة كما ينبغي. نجد جوانب من ذلك عند المفكّر الفرنسيّ رينيه جيرار في كتابه الهامّ «الكذبة الرومنسيّة والحقيقة الروائيّة»1. يناقش جيرار بعض تفاصيل التخييل، يعرض نظريّته المتعلّقة بالرغبة المحاكية، أي بالرغبة بوصفها محاكاة، مُعارِضاً النظرة الأوديبيّة الفرويديّة، حيث ينظر إلى الرغبة بوصفها تابعة لرغبة أخرى متأتّية من آخر، وليس بوصفها نابعة من ذواتنا، حيث تستلزم وجود وسيط، أي لا تتحقّق أركانها إلاّ بتكامل الشروط الثلاثة، راغب ووسيط ومرغوب فيه، تغدو الرغبة بحدّ ذاتها غاية ووسيلة، تنشأ بالتأثّر، وتتلاشى بانتفاء شروطها، من دون أن يزعم اكتفاءها بذاتها، تأخذ بذلك شكل مثلّث، يسمّيه جيرار «مثلّث الرغبة»، ولا تكون العلاقة بين الراغب والمرغوب علاقة مباشرة، بل تكون عبر الوسيط، أو النموذج. داخليّ أو خارجيّ. ويؤكّد جيرار أنّ الأغراض التي يمكن أن تكون موضوع رغبة هي تلك التي تقبل المشاركة وتولّد بين البشر مشاعر التعاطف، بالموازاة مع تلك التي لا تقبل المشاركة، وتكون مجالاً للمنافسة المحمومة، بالتالي تولّد الكره والبغض والحسد والغيرة، ثمّ تنتج العنف الناشئ عنها.. ولا تكون الرغبات مادّيّة فقط، بل تكون هنالك رغبات ميتافيزيقيّة، كأن يكون حلماً بكمالٍ منشودٍ، وتوقاً إلى العظمة..

ينطلق جيرار من التجريد إلى التطبيق، يعتمد في تطبيقه الإجرائيّ، وتحليله الفنّيّ والأدبيّ والفكريّ والفلسفيّ المعمّق، على أعمال كبار الروائيّين كسرفانتس وستاندل ودستويفسكي وبروست، حيث يرى أنّ هؤلاء الروائيّين المميّزين تمكّنوا من كشف حقيقة الرغبة والوسيط، كما أظهروا الوهم الرومانسيّ الذي يغلّف الرغبة ويتعلّق باستقلاليّتها وأصالتها، ليبلغوا عبرها الحقيقة الروائيّة الكبرى. يظهر جيرار من خلال تفكيكه وإعادة اكتشافه العلائق بين الحقائق التي تثبتها الروايات التي تطرّق إليها، والأوهام التي كانت قد انطلقت منها، منقّباً عن الدرر التي تنطوي عليها الإبداعات المتجاوزة، يقف مطوّلاً عند قدرة الروائيّ المبدع على التحليق في عوالم فريدة، لا تقلّ روعتها الفنّيّة، وحقيقتها المثبتة عن الكذبة الرومنسيّة الكبرى التي توهِم بها..

أمّا الناقدة شلوميت ريمون كنعان فإنّها تركّز على الأسئلة للتنقيب في بحر التخييل في كتابها، «التخييل القصصي – الشعريّة المعاصرة»2، تستهلّ شلوميت كتابها بعدد من الأسئلة المحوريّة الهامّة التي تبني عليها، وتحاول الإجابة عنها بطريقة إجرائيّة تحليليّة دقيقة، ورويداً رويداً، حيث تسأل ما هو التخييل؟ كيف يختلف عن الأنواع القصصيّة الأخرى، كيف يتمّ التفريق بين التقرير الإخباريّ القصصيّ والتخييل القصصيّ؟ ما هي الخصائص التي تحوّل نصّاً ما إلى نصّ قصصيّ؟ ما هي المظاهر الأساسيّة للتخييل القصصيّ وكيف تتفاعل فيما بينها؟ كيف يفهم المرء نصّاً قصصيّاً وكيف يمكن وصفه للآخرين؟ ثمّ تبدأ بسرد تعريفات للمفاهيم التي ستنطلق منها، أو تلك التي ستركّز عليها، كالشعريّة، والتخييل القصصيّ الذي تعني به السرد المترابط للأحداث التخييليّة، وغيرها من المفاهيم العديدة التي تقف عندها محلّلة بطريقة معاصرة تحمل من الجدّة والاجتهاد ما تحمله. وعلى الرغم ممّا يسِم الكتاب من تبسيطٍ أحياناً، لكنّه يقدّم صورة شاملة متكاملة عن آليّات القصّ، التي تجعل منها الكاتبة منظومة تدرس جوانبها المختلفة، تنتصر فيها للتخييل الشعريّ المتشظّي، الذي لا يني ينفتح على تأويلات متجدّدة..

في حين تفصّل الناقدة اللبنانيّة رفيف رضا صيداوي في كتابها «الرواية العربيّة بين الواقع والتخييل»3، علاقة الرواية بكلّ ما يحيطها، يكتنفها، يتبعها، يسبقها، من ظروف زمانيّة ومكانيّة، وهي إذ تحلّل بنيات الخطاب الروائيّ العربيّ، تستعين بالمنجز النقديّ الغربيّ، لتفكّك، وتعيد بناء العلاقة بين الواقع والرواية، ومدى التصاق كلّ منهما بالآخر، أو تمرئيه فيه، حيث أنّ الرواية العربيّة قد خطت خطوات إبداعيّة هامّة، لأنّها جنس أدبيّ مفتوح على التحوّلات التي تقتضيها كلّ حقبة تاريخيّة بآفاقها في مختلف الاتّجاهات، حتّى بات يُنادى هنا وهناك بأنّ الرواية تكاد تطغى على غيرها من الأجناس الأدبيّة الأخرى، ومع التقدّم الملحوظ في سير الرواية العربيّة، يكون هناك قصور نقديّ لا يوازي الإبداع الروائيّ، كمّاً وكيفاً.. ومن هنا يشتدّ حرص الناقدة صيداوي على تقديم كتاب نقديّ يسدّ جانباً من الثغرة الموجودة في هذا المجال.

تسبر صيداوي في كتابها أغوار الخيال كلعبة أدبيّة روائيّة، والخيال المتحقّق واقعاً، تكشف الخيوط الدقيقة التي تفصل/ توصل، بين الفنّ والحياة، كما تكشف عن مساعي الروائيّين في تجريبهم، في البحث عن الالتباس بين النظر إلى الرواية العربيّة على أنّها فنّ المدينة أو الريف. وفي البحث عن جذور الواقع في فضاء التخيّل غير المنتهي، يكون بذلك مقارباً لركيزة هامّة من ركائز الرواية والواقع.

• التخييل من أسرار الفنّ الروائيّ:

الخيال متسرّب في غالبيّة الروايات، حتّى في تلك الموسومة بالشديدة الواقعيّة، والتخييل المصاحب يمنح الوقائع والشخصيّات أبعاداً مختلفة. يكون التخييل في معظم الحالات، فرحاً وحزناً وتصويراً توصيفاً. التخييل في الرواية موازٍ للوصف، ينهض بوظائف كبرى، لا ينوب منابه عنصر آخر. ولا يختصّ التخييل بجانب فقط، بل يشمل مختلف الجوانب.

نعثر على أمثلة روائيّة كثيرة تعتمد التخييل من بين آليّاتها المعاصرة، كحالة التركيّة أصلي توهومجو في روايتها «لا حياة لي من دونِك»4، إذ ترثي شخصاً يخصّها، مات فجأة، رثاءً رومانسيّاً فانتازيّاً تخييليّاً. تحكي توهومجو عن تلاقي وتداخل الحبّ بالصداقة، وتحوّلهما إلى ألمٍ وصرخةٍ وحريقٍ بسبب تدخّل الآخرين.

تتخيّل توهومجو طائراً خرافيّاً تسمّيه الجومور، كأنّما تجعله موازياً أو نظيراً للفينيق، تسعى من خلاله إلى بثّ الأمل والتفاؤل في روحها المكتئبة جرّاء الفقد الفظيع الذي آلمها برحيل صديقها، تناجيه، تجعله النديم والمواسي، تقول له ما لم تتمكّن من قوله لحبيبها وهو على قيد الحياة، تجعله غاية الرواية، حيث ينشط البطل بالبحث عنه، يعاني الويلات للعثور عليه، يقوم بجولات لا تهدأ، وحين تقوده المصادفة إلى الاصطدام به، يحدث الانقلاب الكبير، غير المتوقّع، الذي يصدم القارئ، كأنّ البطل بعدما يصل إلى غايته باكتشاف الطير، والتعرّف إليه، وربّما اختراعه من أوهام متعاظمة متكاثرة، ينقضّ عليه، يضغط عليه قبضته، يقتله في محاولة بائسة فاشلة لاسترداد الحبيب المفقود، الذي لا يستبدل به أحداً، ولا يسعفه الطير في استعادته، لكن يفترض به أن يُنجيه من عذاباته، يستمع إليه، يريحه ويرتضي الموت على يديه. ويكون الجومور ذكراً تخلو سلالته من الإناث، تكون طريقة توالده لغزاً لا تكشفه الكاتبة، تبقيه طيّ الكتمان، تثير في القارئ رغبة التنقيب عنه. لكنّها وهي تنهيه تلك النهاية الفجائعيّة، تغلق دائرة البحث، تكشف السرّ بأنّه إنّما كان من خلق تهويماتها وآلامها غير المحدودة، وأنّ الخيال الذي ابتكره يتكفّل بالقضاء عليه، كي لا ينتقل الوباء إلى غيرها، وكي لا يتأنسن الجومور فيحتلّ حيّزاً أوسع من المسموح له. تبتدع الروائيّة مرآة لرحلة اضطراريّة يقوم بها شخص بغية فهمه سبب فقدانه صديق عمره، الذي يخطفه الموت على غفلة. تسعى إلى التحايل على الزمن باسترداد فقيدها بالذكريات المختلقة، والمتخيَّلة، تتخيّل عالماً مختلفاً، عساها تكتشف فيه السرّ الكامن وراء مصيبة الفقد، لربّما يمكنها بعد ذلك الحؤول دون فقد الأحبّاء، الذين لا تستقيم للمرء حياة من دونهم. تخلو حياتها من المتع بعد الألم الكبير الذي يخلق في نفسها وروحها فجوات يستحيل أن يردمها الواقع المأسويّ الكئيب، فتلوذ بالكتابة، تخلق فردوسها المفقود، تسترجع حبيبها الغائب، تبتكر مشاهد وصوراً متخيّلة، تنوس بين الشعر والرومانسيّة والأحاسيس والتخيّلات، تجد فيها مخارجها من الأزمة التي تحاصرها من دون أن تفلح في التخلّص منها. تعتمد توهومجو بشكل رئيس على الأحلام والكوابيس والخيالات، تطرحها في ثنايا روايتها، لتخلق التباساً وتداخلاً بين الواقع والخيال، بين الحلم والكابوس، بين ما كان وما ترفض أن يكون.

وقد يملأ الخيال الفجوات في ذهن القارئ، أو يكون جسراً لسدّ الثغرات، وقد يغدو عنصراً تفاعليّاً بين الكاتب والقارئ، يترك الكاتب مجالاً ما لينشط فيه خيال القارئ، فيجتهد في اقتراح النهايات أو البدائل أو التأويلات، وهذا من بعض ما اعتمدته البلجيكيّة أميلي نوتومب في روايتها «يوميّات سنونوة»5، سردت سيرة قاتل محترف، يمتهن فعل الشرّ، يحبّ القتل لأنّه يحرّره من التوتّر والكرب، يشعر بنشوة غريبة بعد كلّ عمليّة قتل ينفّذها، تجتاحه تخيّلات تشعره باللذّة المضاعفة، يستوطنه إحساس بالوجود عندما يعدم الآخرين. وبعد عمليّة قتل، احتفظ من إحدى ضحاياه بدفتر صغير، تكفّل ذلك الدفتر بتغيير مسار حياته. فرضت عليه عينا سنونوة، حين نظرت إليه وهو يطلق عليها النار، هويّة جديدة. يتحوّل إلى رومانسيّ شاعريّ، يقع في حبّ مَن قتلها، يغتصبها بتخيّلاته وتهويماته عنها. يضحّي بنفسه في سبيل إخفاء الدفتر، وهو يتخيّل نفسه مدافعاً عن حلمه أو خياله العظيم. تترك نوتومب هامش الخيال مفعّلاً عند القارئ كما عند البطل. يكون التخييل سبيلها للانطلاق والإشراك..

أمّا في الرواية العربيّة، فيعدّ السوريّ سليم بركات أحد أبرز الروائيّين الذين أطلقوا العنان لخيالهم في أعمالهم، سليم الذي يصف نفسه بأنّه عرّاب المتاهة وخيال الهاوية، يغترف من منهل الخيال تخييلاته الغرائبيّة، والخيال عنصر غير منافَس في معظم أعمال بركات، كما في «السلالم الرملية»6، التي ينبئ فيها باكتشاف أطالس غير مكتشفة، يعلنها بلغة لا تملّ من البحث عن الأغرب فالأغرب، لاستخراجه بعد شحذه وتقديمه. تنغلق عوالم مختلقة، صحارى مسمّاة، على الكثير من القرّاء، وتنفتح بوّابات في الخيال، جديدة. قد يحلو  للبعض الظنّ أنهم كشفوا شيفراته، وذلك باعتمادهم التأويل وتأويله، من دون أن يتيقّنوا ممّا توصّلوا إليه من افتراضات ومزاعم، فتبقى روائيّة ساحرة باللامألوف وسارحة فيه في الآن نفسه، يعاني القارئ من صعوبة تهجئتها، وتفكيكها وتركيبها، ويحرّض الأذهان على التنقيب عن معانيها قبل الغوص في الأبعاد الأخرى التي يفترضها.

يسهب بركات كعادته في لعبة التعاريف التي عرف بها، حيث يقلب الصورة متلاعباً باللغة، مخترعاً صوراً جديدة، فيكون للخيال معه براميل: «البحر ضعف في منطق الرسم؛ ثرثرة في منطق اللون. البحر قمامة السماء يجمعها الرسّامون في براميل خيالهم، ثمّ يدلقونها علينا. البحر صدأ أزرق»7.

عالمان متنافران، يربط الكاتب بينهما، يجندلهما معاً فصولاً متتالية تترى في رواية تتشح بالرمل وتنضح بالخيال، تؤمن به وتلحد به، وبه تتزيّا، وتجيّره واللغة، كل منهما للآخر، ليحيّر بهما معاً ويربك. لا يفتأ بركات يفاجئ قرّاءه ومتابعيه، ولا سيّما أنهم اعتادوا  المضيّ في عوالمه الغرائبية التي افتتن بها، وفتن بها كثيرين. نراه يمازج مقرّباً ومبعّداً في الوقت نفسه بين الرمل والخيال، هل ليفترض أنّ كلّ ما يبنى في الرمل هو محض خيال، هل ليلغي الكاتب عالم الرواية واقعاً ويثبته خيالاً؛ ليحافظ على عنصر رئيسي في هذه الحياة، من دون أن يخيب أمله، ومن دون أن يتناثر رمل كلماته، وإن انتثرت فتصير أملاً حيناً وألماً حيناً آخر، تحت سلطة الخيال في كلّ حين..؟

كما يكون التخييل أحد أبرز معالم رواية «جنود الله»8 لفوّاز حدّاد، الذي يعتمد التخييل وسيلة مماهاة بين الرواية والواقع، حتّى ليخيّل للقارئ أنّ بطل الرواية سطا على مذكّرات أحد الهاربين أو الناجين من جحيم القصف والاحتلال في العراق. كأنّما تكون بغداد الواقعة بين جنّة متخيّلة مهروب إليها، وجحيم متربّص يُحرق القريبين منه بلظاه وألسنة اللهب التي تستقطب البعيدين ببريقٍ مضلّل، هي الرازحة في قلب الجحيم بعينه، أو ترمّز إلى الجحيم من دون الوقوع في فخّ التصريح بذلك، كونها تبقى نفسها، مهما تتغيّر الظروف أو تتبدّل القوى الحاكمة. تتشابك الفصول فيما بينها، تتقاطع الخيوط والخطوط، لتقدّم عوالم روائيّة غنيّة، يستعرض الكاتب فيها الأدواء المتفشّية، والإجرام المتناسل عبر فنّيّات عديدة، اعتمد الحلم الكابوسيّ بالموازاة مع اعتماده على مأسويّة الواقع، لاذ برحابة الأحلام، لوذه بجنون الواقع، قدّم صوراً متضاربة عن الحياة في ظلّ الدمار والحطام والأنقاض والكوارث، التي يخلّفها الاحتلال في بلدٍ قُدِّر له أن ينتقل من مستبدّ إلى محتلّ.

وقد يعتمَد التخييل وسيلة للتذكّر، وربّما للاقتصاص، كما في رواية ثلاثيّة عبد الجليل غزال ج 1«حافّة النسيان»9. للبنانيّ أحمد علي الزين، الذي يتصدّى فيها لمعالجة موضوع السجن، ولكن من زاوية مختلفة، أرادها جديدة، ووفق لعبة روائيّة متقنة، حيث خيوط السرد تتشعّب في الأزمنة والأمكنة، بينما يبقى السجن الفضاء الذي يجمع شتات الأفكار والأرواح، وحطام الأجساد، ويلفظها إلى عالم النسيان، ذواكرَ تتأبّى على النسيان وتستعصي عليه، لأنّها يجب أن تبقى شواهد إدانة لواقعٍ نال من الكلّ على السواء، من الضحايا والجلاّدين بالمثل. يجد بطله نفسه حرّاً، وحيداً، أكثر ممّا ينبغي، معدوم الخيارات، أو مخيَّراً، من دون أن يخيّره أحد، بين البقاء ميتاً، أو المشي ميتاً، فيختار المشي نحو اللا جهة، كونه افتقد بوصلة النجاة، وبقي هدفه أن يتحدّى الموت بالتذكّر والتخيّل، يتصدّى للآلام المبرّحة، بالذكريات التي لا تقل تبريحاً وتأذية عمّا يعانيه من ظلم لا يزايله. يعود إلى داخل السجن بعدما أصبح خارجه، يعيد بناء السجن في خياله، بعدما انهار وتهدَّم جرّاء القصف والدمار الذي استهدفه، من دون أن يشرح سبب ذلك، لا مَن استهدفه، ولا لماذا تمّ ذلك. قد تكون الإجابة في أجزاء قادمة!

يسرد ما يسرده وهو على حافّة النسيان، التي هي شبيهة إلى حدّ ما بالهاوية، أو لربّما هي ذلك تماماً، أو هي الموت أو الانهيار أو الضياع، لذلك وقبل السقوط، أو استنفاد فرص النجاة، لابدّ من إنهاء سرد المآسي التي حلّت، وتذكّرها قبل أن تتوه عنه، أو يتوه عنها، وقبل أن تنتكس ذاكرته التي قد يطالها النسيان ويقصفها، فتكون عرضة للنهب تذروها رياح الحافّة، التي تدلّ على قعر دون قرار. السجن يرتحل معه في داخله، ينسجن بعتمته وكآبته ومأسويّته، يصبح سجين حكايا المساجين والسجناء على السواء، هؤلاء الذين تساووا عنده بعد موتهم جميعاً، ومن ذلك ما شعر به نحو جلاّده من شفقة وتسامحٍ، عندما وجده ضحيّة، يتيماً، هشّاً، فاقداً جبروته وطغيانه. يصبح سجين الذاكرة والخيال معاً.

التخييل أحد أسرار الفنّ الروائيّ، ولاشكّ أنّه، وإن كان يستبطن الوهم أو الإيهام، فإنّه لا يرمي إلى التضليل أو التمويه أو التتويه، بل تراه ينشّط الخيال، يزيد من فاعليّة الزمن، يحفّز على النشاط، يبعث على التجدّد، ويقدّم بدائل وعوالم ما كانت في الحسبان.. ولا حتّى في الخيال نفسه..

ـــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

 • جيرار، رنينه، ترجمة: د. رضوان ظاظا، الكذبة الرومنسيّة والحقيقة الروائيّة، دراسة، المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت، 2008م. ط1

 • ريمون كنعان، شلوميت، ترجمة: لَحسن أحمامة، التخييل القصصي – الشعريّة المعاصرة، دراسة، التكوين، دمشق 2010م.

 • رضا صيداوي، رفيف، الرواية العربيّة بين الواقع والتخييل، دراسة، الفارابي، بيروت، 2008م. ط1

 • توهومجو، أصلي، ترجمة: بكر صدقي، لا حياة لي من دونِك، رواية، قَدْمس، دمشق2010م.

 • نوتومب، أميلي، ترجمة: محمّد عبدالكريم إبراهيم، يوميات سنونوة، رواية، علاء الدين، دمشق، 2010م.

 • بركات، سليم، السلالم الرمليّة، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2008م.

 • المرجع السابق. (ص 18).

 • حدّاد، فوّاز، جنود الله، رواية، الريّس، بيروت، 2010م.

 • علي الزين، أحمد، ثلاثيّة عبد الجليل غزال ج 1«حافّة النسيان»، رواية، المدى، بيروت، 2008م.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم