أبوبكر محمد عبدالسلام

" التيه قَدرُنا وعلينا الدَوران كما قدرنا هذه الحيوات ونحن مرغمون على عيشها". ص 12

بهذا النص يسْتل الحكّاء جدي مجاديف حَرْفِه ليغرس في أبطاله شعلة الحياة، يراوغ في صغائر تفاصيل الواقع، يسارع بأن ينفخ روح الأمل في أدق حيوات إنسان هذا البلد المَرمِي في تاريخه المُتشظّ، ومن جغرافيته الواسعة الناقصة بمواردها المسروقة، ودوامته المُملّة، طالب يُخيط مسيرته التعليمية ب"حزمة مَندَوا، وقلم مستعار، وزملاء تغرغر بطونهم جوعا، ومجتمع مكبّل بقيوده، وبطالة تخنق الجميع، وحكومات تستثمر في شعبها بالكذب والزور، وشيوخ دين ودنيا يتمرغون في دروب السياسة وفتاتها، وسفر، وترحال، وموت، وحياة، واغتيالات، وخيانات، وعسكر، ومهاجرين "طلاب القرآن، وهجرة لغزو الماديات والعهر في بلاد اللا دين، كلّها مشاعر أحدثتها زمن الملل، أتفه ما يمكن أن يقال في تفاصيل جمال ماقيل، حوته تلك الرواية، لا يمكن الاسترسال ولو بجرعات ما يحدث، ثورات أكلت أخضرها ويابسها، يستطرد جدي في شق عصا اللاممكن في الممكن، وفي داخل مُشبّع بأكثر من تفسير حيث يقول "صباح من الصباحات الفاترة التي لاتشبه كل الصباحات، في تلك السنوات لم نكن نفعل شيئا، كان اللا شيء هو عنوان حياتنا، في ذلك الزمن كنا نعتقد أننا سنحقق احلامنا رغم أننا لا نحرك ساكنا للقيام بأمر ما".

وعاش القارئ في زمن السلطة وسلطة المال باكياً في صفحات كان يأكل منها، ومكتبات تتسع إلا بما ندر من القراء، بينما من حوله أي القارئ حوّلوه إلى أبله وعاطل وبدون ضمير ولا حتى نخوة، غياب البيت القارئ والأسرة المساعدة في صناعة قارئ، هو الذي فرّخ عصابة من المُتعالمين الذي يسبقون الضوء في تحقيق مجد الشهادات وتكليس عقلية أصحاب القرارات الذين يفكّكُون طلاسم الحرف ويحاولون بأن يسوّدوا الصفحات، وهذا مفهوم المجتمع للمتعلم، حتى مؤسساتنا التعليمية فرض عليها هذا الواقع بأن تغير من جلدها، بدون أدني معاييرية لأي منتسب لها، في مراحلها المتأخرة وما فوق وتحتها .

يستنطق الكاتب الجدران الصامتة، النادل، والسّكير، الغفير، السائح، المرضى، والمجانين، المدن التي تنام على بيوت القش، والمناسبات التي ينتهك فيها الجميع الحيوَنة، طفل يطارد نفسه، وعاطل يتمدد على بروش السعف، وخادم يغسل الجميع ورائحة الاستغلال تفوح منه، أبطال يُولدون على فقر ابائهم، وكبار يلوكون تاريخ خيباتهم، ونساء يصارعن بيوت ترى في تعنيف المرأة والأطفال بطولة، وسلطة الذكور، مشهد خيّب كل ما يمكن أن يولد من رحم الأمل.

تشاد نص شارد في غابات الصنوبر التي تسل رؤوسها من داخل أدبنا وتاريخنا، وسياستنا، منذ زمن ضارب بمرضه وحروبه، وخرابه، وخيباته، تسوق تشاد نفسها من بين ثورات مسلحة أهلكت الحرث والنسل، وحكايات شعبية مضّخمة بالجمال، وجيل من الكهول المعشعشة بالفرار من جيل اليوم، تاريخ متراكم على ملله، داخل الرواية نجد الكاتب يتفنن في استخدام تقنية السرد بصيغها عند المتكلم الذي يستطرد واقعه، وشحن هويته الوطنية في نص منكسر يحاول فيه أبطال الرواية ترميمه بالرمزية المكشوفة، وتجاوز مرحلة من تاريخ أدب المكاشفة والصراحة، الى نقل صادق يتوقف عند الذات التائهة، ومحاربة إشكالات لازالت عالقة فينا أو نستلطف بها من حولنا .

يصارح نص زمن الملل الحياة، الجميع هنا يسعى للتغيير، مع بوابات السفر نحن الأمل والملل القاتل، إنسان يخوض السباق مع عالمه الداخلي الذي يترك ابسط ما فيه بأن يعيش منقسما، مطارد بحلم يكّبله بجنازِير التخلف، واظهار الخوف، والدموع. وتأجيل أي حلم يكبر صاحبه، ولكنه يظّل مرهون بالمواعيد الميتة.

الأدب المكتوب بالعربية صارت قضاياه أكثر نفعا، جيل بدأ يشعل نيران الحرب على كل شيء، فن التعبير عن الرأي والصراع مع الآخر، وهواجس تدفق المشاعر، عاطفة جياشة تخزن الوجع. حب، وطلاق، وعنف، وتفكير، هي مفردات ومعاني تشهدها البيوت المغلقة على أي زمن، المفتوحة على سلطة الأب والحاكم والجندي والمسؤول، واللصوص، وخلق من عبّاد التطبيل المتكاثر.

ثمة حجج تترك على جدران الأعمال الأدبية، قديمها وحديثها، كلاسية النص الروائي محطات لم نعرفها إلا ما ندر، وكتابات غائرة وجارحة بريشة الحقيقة المحضة التي حطّمت وثن ما يدور، في مدارسنا، وشوارعنا، واسواقنا، وبيوتنا، وحضر وبداوينا.

لم ينتصر الخير على الشر داخل فصول رواية زمن الملل، النهايات جاءت باهتة، خفيفة، مخنوقة بالاختصار، منحازة للحظات سلّ الروح، اغتيال، أو اقتتال، موت على سرير، ساحات وفضاءات رسمت كمشهد شبه هندي لنص المادة المفخخة التي لم تفكك خواتيمها داخل الرواية، أطلق الكاتب العنان لقلمه لتصبح لوحات العمل الأخيرة كأنها مربوطة بفصل جديد من كتاب آخر يكون تتمة لما تبقى.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم