لم يكن فوز "تغريبة القافر" لزهران القاسمي بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) مؤخرًا إلا تتويجًا لمسيرة هامة في الكتابة والبحث الدؤوب عن أعماق النفس البشرية في بلاده ومنطقته بكل ما تحمله من خصوصية وفرادة، وهو الأمر  الذي أخذ القاسمي على عاتقه التعبير عنه بطرق مختلفة، ولئن كانت الجائزة تمنح في النهاية لرواية واحدة، إلا أنها تشير وتلفت النظر إلى جهد روائيٍ طويل بدأ منذ نحو عشرة أعوام مع رواية (جبل الشوع) 2013، وتواصل حتى حصوله على جائزة الإبداع الثقافي العمانية عام 2015 عن روايته (القناص) وتوالت بعد ذلك أعماله "جوع العسل" في 2017، حتى جاءت تغريبة القافر 2021،  والجدير بالذكر أن القاسمي بدأ حياته الأدبية شاعرًا، وأصدر أربع دواوين شعرية قبل كتابته للرواية، ولايزال يواصل عطائه الشعري، فهو يرى أن الشعر والرواية ينبعان من معينٍ واحد. وكانت بدايته في كتابة الرواية أن رصد بعض حكايات قريته التي يعيش فيها ويرى فيها مخزونًا لا ينضب من الحكايات.

منذ روايته الأولى يبدو المكان والبيئة الجبلية حاضرين بقوة،  وقادرين على التعبير عن شخصيات تلك البيئة وعالمها على الفور، فجبل الشوع ليس مجرد جبل مميز في عمان، ولكنه ملتقى حارات القرية التي تتقارب وتتباعد فيما بينها حسب الظروف والمواقف والأحوال، وهناك تعرف عبد الله الحرقوبي النشيط المجتهد على زميله الهادئ البليد سلمان الشباصي ورغم الفروق العديدة التي بينهما إلا أن كل واحدٍ منهما كان حريصًا على علاقته بالآخر، وهناك أيضًا تنهتي حياة سليمة بنت عمران لتترك ابنها حميد الصابر الذي يتعرّف في كتّاب القرية على سليمان ويكون ثالث ثلاثة، تتشابك الحكايات وتتلاحق،  ونتعرّف من خلالها على مشكلات تلك العائلات البسيطة التي تبحث عن لقمة عيشها بالكاد وتتنقل حياتها بين الجفاف والخصب تبعًا لمواسم الأمطار، شريفة الشاوية نموذج المرأة المكافحة التي ترعى الغنم وتغني بصوتها الشجي بين الجبال، وليس الشوع فقط ما يجمع أهل القرية من جبال تلك البلاد، بل هناك جبال العسبق أيضًا التي يستخدمها أهل القرية لكي ينادون على بعضهم لأنها تردد صدى الصوت بقوة، هكذا ينقلنا القاسمي إلى تلك البيئة شديدة الجمال والخصوصية، وما تحمله من خصوصية وما تمتلئ به من أسرار، كما نتعرف على كيف تؤثر تغيرات تلك الطبيعة وتحولاتها على علاقات الناس ببعضهم، في الرواية أيضًا إطلالة على جزء مهم من تاريخ عمان  حرص القاسمي على أن يوثقه من خلال تلك الحكايات، حيث العلاقة الملتبسة بين أهل القرية والخدمة العسكرية، وكيف كان السعي إليها في البداية حلمًا من أحلام هؤلاء البسطاء، كما تناول هجرة الأبناء للعمل سواء في الخليج أو في شرق أفريقيا، تلك الفترة التاريخية الهامة التي حكمت فيها عمان زنجبار، ويمر على تلك الأحداث الهامة وكيف انعكست على شخصيات الرواية ومصائرهم.   

وإذا انتقلنا إلى روايته التالية "القنّاص" نجد تلك البيئة قد اكتسبت مع بطل الرواية "صالح الشيخان" أبعادًا أخرى، فنحن هنا ومنذ العنوان بإزاء بطلٍ فرد تروى حكايته وسيرته وحلمه الأساسي المتمثل في اصطياد ذلك "الوعل" الجبلي، وهو في سبيله إلى ذلك نتعرّف عليه وعلى ما بذله من جهدٍ وقاساه من عزلة كي يصل أخيرًا لتحقيق حلمه، وعلى عادة روايات الأبطال يبدو صالح بطلاً استثنائيًا، يحب الصمت ويركن إلى الوحدة، يبدأ حكياته بتلك الحكايات الشيقة التي تحكيها الجدات عن الصيد، فيتعلق قلبه بالأمر، حتى يتحوّل إلى هاجسِ وحلم أساسي لا يجد له خلاصًا إلا بتحقيقه.

ومع حكاية القنّاص يأخذنا القاسمي في جولة شيقة بين الوديان والجبال  التي يعيش فيها ويمر بها، ويعرفنا عليها واحدة واحدة، حيث تلك الطبيعة الثرية أصبحت جزءًا تاليًا لحياة الناس هناك، ليست مجرد أماكن معيشة، ولعل هذا أبرز وأجمل ملمح فيما يقدمه ويرسمه القاسمي في رواياته بشكلٍ عام، إنها دعوة ولاشك للعودة إلى عالم الطبيعة الساحر، رغم ما يشملها في الوثت ذاته، وما يعانيه أهلها من صعاب ومشاق في هذه الحياة، ولكنها في النهاية تحمل جمالاً خاصًا وتنطق بحب من حولها. كما يعرفنا على ذلك الوعل وطريقته وحيله في الفرار من القنّاصة، وكيف يتحرك خلال الجبال والوديان ويعرف كيف يفلت منهم كل مرة.

وهكذا جمعت القناص بشاعرية بين عرض سيرة حياة بطلها وحلمه وبين ذلك المكان وتفاصيله، واستطاع أن يقدم من خلالها القاسمي رؤية فلسفية شديدة العمق والثراء، حيث ذلك الحلم بعيد المنال وما يمكن أن يبذل المرء من أجل الوصول إليه.

ولعل "جوع العسل" تنقلنا نقلة أخرى، إلى ثلاث أصدقاء/ شخصيات رئيسية للعمل يبحثون عن العسل، ويسعى من خلالهم للتعبير عن نزعات النفوس الإنسانية وطرق تلقيها وتعاملها مع واحدة من الغرائز الأساسية وهو الشبع، وكيف يؤثر الجوع على شخصيات العمل، فنجد عزان بن سعيد الذي ينتقل من وديان القرية إلى قمم جبالها بحثًا عن العسل، ينتقل من عالم القرية إلى عالم البداية ويصادق هناك من يشاركونه البحث عن العسل وعن ملذات الحياة، وكذلك عبد الله بن حمد الذي يجمع بين مطاردة ملكات النحل ونساء القرية اللاتي يوقعهن في حباله بمعسول كلامه، وكيف تدور حياته بين هذا وذاك، وكيف يتمكن الكاتب من التعبير عن نفسية كل واحدٍ منهما وصراعاته على اختلافها، وفي الوقت نفسه تحضر نساء ذلك العالم، والذي نفاجئ أن منهن نحالات أيضًا مثل الشاوية "ثمنة" نموذج المرأة القوية التي تواجه مصائبها وأحزانها وترحل بحثًا عن العسل بين الجبال..  ويحضر كذلك ناصر الحطاطي الذي يضيعه تعاطيه للكيف..

 بين هؤلاء جميعًا ينسج القاسمي سطور روايته، ويأخذنا إلى عالم آخر شديدة الثراء والجاذبية، لا يبتعد عن الوديان والجبال ولكنه يكشف عالم النحل والنحالين وما يدور بينهم في سبيل وصولهم للعسل، وهو مع ذلك يضيف أبعادًا نفسية واجتماعية لشخصياته وعلاقاتهم وكيف تنشأ روابط الحب والهجر وكيف تؤثر على نفوس النساء والرجال!

حتى نصل في 2021 إلى "تغريبة القافر" تلك الحكاية الفريدة من نوعها التي تحكي عن مهمة شديدة الغرابة والخصوصية وهو "القافر" الذي يبحث عن الماء بين صخور الجبال الصلبة،  وبرز في الرواية قدرة القاسمي على التعبير فيها عن بطله ومشاعره ونفسيته، وكذلك جمع عدد من الحكايات الشعبية والعلاقات الخاصة بين شخصيات القرية، بل ومن جانب آخر ظهر تحويل الكاتب للماء أيضًا كبطل رئيس في هذه الرواية، وقد أثير أن القافر ذكر بعض القراء بغرنوي بطل العطر لزوسكيد، وجاء رد القاسمي على هذه النقطة جميلاً في الحوار الذي  الذي أجراه معه أسامه فاروق، حيث قال:  

لم يكن المجتمع يعطي أهمية وبالاً لغرنوي ولا يراه، بينما يضع المجتمع القافر تحت المجهر، فهو ابن الجن الذي يتطيرون ويخافون منه، مجتمع يتنمر ويطغى على الإنسان المختلف لأنه لا يشبه الجميع، في الوقت الذي يحاول فيه هذا المختلف إنقاذهم من الهلاك. القافر أشبه بالنبي الذي يضطهده قومه، ومع ذلك ينسى ما فعلوه ويساعدهم، بينما غرنوي لم يفكر إلا في ذاته في صناعة عطر خاص به، ما حمله على قتل ضحاياه.

(حوار مع القاسمي ـ المدن 13 إبريل 2023)

جمال الطبيعة  وشاعرية اللغة 

وهكذا ينقلنا القاسمي في رواياته على اختلافها بين الجبال والوديان، وذلك السحر الخالص، ولكن القارئ سيلاحظ بشدة أن تلك الجمادات التي اكتسبت أبعادًا أخرى سواء في علاقتها بالناس أو في طريقة تصويرها والتعبير عنها، فالمكان عند القاسمي ليس صلبًا جامدًا بل هو ي ومتحرك، يمزج فيه بين رصد جمال الطبيعة وبين التعبير عنها بشاعرية اللغة التي عرف بها، بل إن بعض مقاطع الروايات تبدو شعرًا خالصًا، ولكنه منسوج في حبكة سردية متقنة:

(ذهبت ، وبقي معلقًا من شرايين قلبه، لا المكان اتسع له، ولا قدماه استطاعتا أن يحملنه ليمشي مكملا عمله، بقي جالسا بينما الظل ينكمش معلنا ظهيرة حارقة، وكان عليه أن يتذكر الطرود التي تنتظره ليأخذها معه في سيارته، ولولا لسعة الشمس المتمددة إلى قدميه لبقي مكانه عالقا في تذكر كل ما حدث، هل حدث حقا؟ هل كانت بجانبه تشرب من قهوته، وهل ضحكت ثم رحلت ليبقى شيء في نفسه، شيء يشبه الحزن وليس بحزن، يشبه الفرح لكن به وجع، يشبه زرقة السماء في يوم صحو وهي تتبقّع ببضع سحابات بيضاء، أو ربما يشبه انجراف السيل الهادر لحظة قدومه من الوديان البعيدة ) .. من رواية جوع العسل

وعلى الرغم من ثراء وتنوّع الحكايات، وأنا أيًا من رواياته الأربع لا تشبه الأخرى إلا قليلاً إلا أنني أظن أن الرهان الأصعب على كتابة زهران وعالمه، ما الذي يمكن أن يقدمه بعد تلك الروايات؟ وبعد ذلك الفوز الجميل المستحق في بوكر هذا العام، والرجل لا يبدو مشغولاً بتلك الفكرة، والمراقب لللمسافة التي يتركها بين كل رواية وأخرى يدرك أنه كاتب يتأنى في كتابته بشده، وهو  يشير في عددٍ من حواراته بعد فوزه بالبوكر  إلى أنه منشغل بالقراءة أكثر، ولكن لاشك أن القراء  متشوقين لعمله القادم وكيف سيقدم فيه الجديد والمختلف أيضًا وهو ما ستخبرنا به الأيام.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم