في نهاية الرواية، ورغم تلك الرحلة الصعبة التي خاضتها إيلينا بحثًا عن الحقيقة، تعترف ببساطة أنها تريد أن تعيش حياتها برغم كل شيء! وهي بذلك توجز رسالة ليس من اليسير تقبلها أو التعامل معها، لاسيما في عالم اليوم الذي يهرب فيه الكثيرون من حياة لم تحقق لهم ما يريدون، فضلاً عن تحمل الصعاب والمشقات، بل وربما بعض الحقائق القاسية!

في روايتها التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية لهذا العام 2022، ترسم الأرجنتينية كلاوديا بينيرو حالة واقعية شديدة المأساوية لامرأةٍ تعاني مرضًا عضال هو "الباركنسون/ الشلل الرعاش" فيما هي تسعى لإثبات أن ابنتها قتلت ولم تمت منتحرة كما يعتقد الجميع!

بطلة واحدة أساسية هي العجوز "إيلينا" تخوض تلك الرحلة القصيرة، ولكن الكاتبة تجعلنا نتعّرف من خلالها على طبيعة حياتها وعالمها وكيف كانت علاقتها بابنتها المتوفاة، ثم كيف كانت علاقتهما بالبطلة الأخرى، التي بدت وكأنها البطلة الضد التي تظهر في آخر الرواية لتقلب الآية والمعادلة كلها، "إيزابيل" التي لم تفعل الكثير ولم تقل الكثير، ولكن حياتها كانت قد تغيّرت بأثرٍ يبدو كأثر الفراشة، مساعدة قدمتها الابنة "ريتا" منذ عشرين عامًا، غيّرت حياة إيزابيل وجعلتها أمًا رغمًا عنها!

هكذا تتحرر الكاتبة كلاوديا بينيرو من رواية الجريمة، لتنتقل إلى تفاصيل الحياة الإنسانية شديدة الدقة والتعقيد، تحكي مشاعر الأم المكلومة بابنتها، وبالتوازي معها تظهر بين الحين والآخر مشاعر البنت المتورطة في رعاية أمها العجوز، وبينما يغرق القارئ عاطفيًا ونفسيًا مع تلك العلاقة الملتبسة، تكشف لنا الكاتبة ثم علاقة أخرى نمت في الظل ولم تشأ لها الأقدار أن تكون على نفس المساحة من التورط والحب أو الشد والجذب، علاقة إيزابيل التي نكتشفها في الصفحات الأخيرة بابنتها التي لم تكن تريد لها الحياة.


إلى أي مدى نملك أجسادنا؟ هل يمكن أن نملك في لحظةٍ قرار تحديد مصير غيرنا؟ هل يمكن أيضًا أن ننهي تلك الحياة كلها تاركين خلفنا من يسأل ويبحث عن كيف ولماذا؟ كل هذه الأسئلة وأكثر تثيرها لدينا كلاوديا في روايتها من خلال أبطال عملها المتورطين في هذه الحياة وما تفرضه عليهم من مواقف وخيارات، في نهاية الرحلة تحكي إيلينا:

(كنت جالسة هناك في انتظار ابنتي لتراني بشكلي الجديد، فقد قصصت شعري، وصبغته، وأزلت الشعر الزائد بالشمع أخذت لي «ريتا» موعدًا في صالون التجميل، لم أكن أرغب في الذهاب، ولكن بمجرد الانتهاء من كل ذلك، أردت أن أريها، وأن أجعلها سعيدة، حتى تعرف أنه عندما تأتي لتضعني في السرير هذه الليلة، لن تضطر إلى رؤية الشارب حول فمي الذي اشتكت منه كثيرًا، أو جذور شعري الرمادية. لكن «ريتا» لم ترَ أيًا من ذلك، ولم ترني مرة أخرى.)

لم تر ريتا أمها بعد أن تغيّرت من أجلها، وكانت تظن أنها تعرف كل الحقيقة، ولكن انتحار ابنتها كشف لها حقائق أخرى أكثر قسوة ومرارة من الموت، في رحلتها ومن خلال تعرفها على حكاية إيزابيل عن قرب اكتشفت وجهًا آخر للحقيقة، ربما لم يكن لتعرفه لولا حادثة ابنتها المأساوية تلك!

من جهة أخرى استطاعت الكاتبة أن ترسم عالم بطلتها بالتفصيل وبقدرٍ كبيرٍ من التشويق، ففي الوقت الذي تتلاحق أنفاسنا لمتابعة الأحداث لا يفوتها أن ترسم المشاعر النفسية للبطلة، ومعانتها بين مرضها الذي تسميه اللعنة من جهة وبين الشخصيات التي تتعرف عليها في الرحلة من جهةٍ أخرى، وبين نقلاتها الزمنية المدروسة للماضي بتقنية الفلاش باك لكي نتعرف على أجزاء ومواقف من علاقتها بابنتها التي كانت السبب المباشر لكل هذا!

في الحياة والموت دروس مستمرة، هذا ما ترسمه وتحكيه كلاوديا ببراعة في روايتها، التي استطاعت أن تنقل فيها أدق تفاصيل حركة بطلتها ومشاعرها، وجعلتنا نتعاطف مع الأم والابنة على حدٍ سواء، ونخرج بأسئلة أكثر عن علاقتنا بالناس من حولنا وحقيقة ما نعرفه عنهم.

(( عندما تواجه «إيزابيل» ستكون مهمة «إيلينا» هي شرح من هي ولماذا هي هنا. ستخبرها عن «ريتا» وعن وفاتها. أو بالأحرى ستخبرها بالقليل الذي تفهمه من كل ما قالوه لها. تعرف «إيلينا» أين تجد «إيزابيل»، لكنها لا تعرف كيف تصل إلى هناك، على الرغم من أنها ذهبت إلى هناك منذ عشرين عاماً مع «ريتا». إذا وافاها الحظ، أو إذا لم تنتقل «إيزابيل» للسكن في مكان آخر، أو إذا لم تمت مثل ابنتها، فستجدها هناك، في ذلك المنزل القديم في منطقة «بلجرانو». المنزل الذي له باب خشبي ثقيل بإطار برونزي، بجانب بعض عيادات الأطباء))

تجدر الإشارة إلى أن كلاوديا بينيرو روائية أرجنتينية عرفت في الأوساط الإنجليزية باعتبارها رائدة أدب الجريمة لاسيما بعد حصولها على جائزة "بيبي كارفايو" للرواية البوليسية عام 2019 ، إلا أن ذلك لا ينفي اهتمامها بقضايا اجتماعية شديدة الأهمية والحساسية على النحو الذي تعرضه في هذه الرواية ورواياتٍ أخرى، ولعل القراءة النقدية المرفقة بالرواية في نسختها المترجمة عن دار العربي للناقدة فيونا ماكينتوش تمنح القارئ العربي بعدًا آخر ومعرفة أكثر عمقًا بالكاتبة وعالمها الروائي، الذي بدأته برواية "أرامل الخميس" التي حصلت بها على جائزة كلارين للرواية في الأرجنتين عام 2005، وصدرت ترجمتها العربية عام 2017.

..................................

(مابين الأقواس من الرواية)

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم