كيف يمكن لعلاقة حبٍ وزواجٍ دامت لخمس وعشرين عامًا أن تنتهي ..هكذا فجأة؟ هل يمكن لأي طرفٍ من طرفي العلاقة أن يبرر تخليه المفاجئ عن الآخر؟ لاسيما إذا كانت علاقتهما قائمة على الحب والتفاهم؟! هل ثم مسارب خفية للنفوس يختبئ فيها السخط والغضب والتحمل حتى تأتي لحظة فارقة ينفجر فيها البركان، ويعلن أحد الأطراف عدم قدرته على تحمل المزيد؟ وكيف يواجه الآخر هذه الحقيقة بعد كل تلك السنوات؟ وأيهم يمكن أن نصفه في هذه الحالة بأنه "خدع الآخر" .. أم أن هناك مساحة يمكن بسطها بعد كل هذا للتقبل والتعقل وإدراك أننا لم نكن بالفعل محبين أو سعداء؟!

تترك الشاعرة والإعلامية ريم نجمي عالم الشعر ورهافته لتتقصّى في روايتها الأولى (تشريح الرغبة) تفاصيل تلك العلاقة الملتبسة، بين عادل الروائي والأستاذ الجامعي المغربي الذي يقرر فجأة أن ينفصل عن زوجته الإعلامية الألمانية يوليا، لا يستأذن الرجل في الانصراف أو يخيِّر حبيبته وشريكة حياته على مدار 25 عامًا، بل يضع القرار أمامها فجأة تاركًا كل شيءٍ خلفه، ومن خلال الرسائل المتبادلة بينهما نتعّرف على كواليس تلك العلاقة ونفسيات ومواقف كل واحدٍ منهما وكيف كان يرى ويعامل شريكه.

مغامرة روائية ورهان صعب وضعت الكاتبة نفسها فيه، في أول تجربة روائية لها، أن تعبّر بصدقٍ وشفافية عن أطراف تلك العلاقة المعقدة بكل حساسية وتجرد، وهو الرهان الذي يبدو أنها نجحت فيه إلى حدٍ بعيد، فمن خلال تقنية الرسائل تلك استطاعت ريم نجمي أن تنقل لنا كيف يرى كل طرفٍ منهما الآخر، حتى أن القارئ ليتمثل كل موقفٍ منهما أثناء قراءة كل رسالة، وكيف تكون المواجهة الدائرة بينهما من خلال تلك الكلمات والحكايات، فالأمر لم يقتصر على استدعاء ما بينهما من ذكريات ومشاعر، ولكنه انتقل بسرعة إلى تبادل الاتهامات والتصريح بالإساءات التي كان أحدهما يغض الطرف عنها للآخر، حتى جاءت لحظة الاعتراف أو المكاشفة تلك بين سطور الرسائل.

لم تكن العلاقة بين عادل ويوليا فقط هي محور الرواية، بل انضمت إليهما، ومن خلال الرسائل أيضًا، تلك الفتاة السورية (جوري) التي أحبها الأستاذ الجامعي وأغدق عليها من مشاعره مالم يشاركه مع زوجته، تلك الفتاة التي بدا من البداية فقط أنها السبب الخفي لانهيار تلك الأسرة وتفكك أوصالها، ولكننا نتتبع تلك العلاقة بين عادل وجوري لنكتشف وجهًا آخر لهذا الأستاذ الجامعي المشتت في الواقع بين هويته وأصله وبين حياته الجديدة، بين الحب والرغبة، وبين ادعاءه للحرية ووقوعه في أسر العادات والتقاليد!

(خلال تلك الليلة البيضاء كنتُ مشتتا ومبعثرا على سريري كالكتب المتناثرة على الأرض فكرتُ في أن أوافقكِ الرأي ونقطع علاقتنا بل كان ذلك الحل هو الأكثر واقعية بالنسبة إليّ لكن فكرتُ أيضا في إمكانية التجربة، في مهلة لي ولكِ نفكر خلالها بوضوح أكبر، بعيدا عن تيار المشاعر المختلطة التي يحدثها لقاؤنا وتواصلنا يستحق الحب دائما فرصة ثانية كان من الضروري أيضا أن أحسم أولا في أمر علاقتي بزوجتي، لقد كانتْ تلك خطوة أخلاقية بالدرجة الأولى بالطبع لم يكن لكِ دخل في حكاية امتدتْ لربع قرن وبدأت ربما قبل ولادتكِ، لذلك كان من الظلم أن أشركك في حكاية معقدة وأنتِ ما زلتِ تفتحين باب الحياة بحذر)

تحضر جوري وحكايتها المعقدة هي الأخرى، كلاجئة سورية تعاني في ألمانيا بين محاولتها العيش وتجاوز المأساة التي قدمت منها، وسعيها أن يعيش والديها معها، بين هذا وذاك يظهر لها الأستاذ عادل كطوق نجاةٍ على المستويين المادي والمعنوي ينتشلها من هذا كله، ورغم الفارق السني الكبير بينهما تقوم بينهما علاقة حب قوية يسعى فيها الكبير لممارسة سيطرته وقوته و"ذكورته" على الأخرى الأضعف، ولكن الأمور لا تسير بينمها أيضًا على ما يرام!

ثم مساحات غامضة داخل نفوسنا لانكشف عنها أمام الآخرين بسهولة، حتى لو كانوا هؤلاء الآخرين من نقتسم معهم الفراش كل مساء! ومن بادلناهم الحب والجنس والرغبة المحمومة، تستعيد يوليا في رسائلها لقاءاتها بحبيبها عادل، تذكره كيف كان الحب بينهما عاصفًا مجنونًا، وكيف ظل يشتعل ويزداد في كل مرة، وكيف استطاعا معًا أن يتجاوزا كل العقبات حتى يصلا سويًا إلى المرفئ الهانئ، فيما يكتب عادل لجوري كيف مثل ظهورها له في لحظة فارقة من حياته قارب النجاة الذي انتشله من رتابة حياته الزوجية إلى استكشاف المتعة واللذة من جديد، وكأنه لم يكن في علاقة زواج وحب ناجح استمر لسنوات!

(كان عبوسكَ فقط يسبب لي الخوف، يكفي أن تجلس على كرسيك الهزاز دون كلام، ليبدأ فيلم الرعب في رأسي وتتوالى سلسلة المشاهد التي تحلل ذلك العبوس: هل فعلتُ شيئا؟ هل أسأتُ التصرف؟ هل قلتُ ما يضايقه؟ هل كتبتْ له زوجته رسالة جديدة؟ هل سيتركني ويعود إليها؟ هل شبعَ مني بعد أن أعطيتُه جسدي وتبددتْ لحظة الاكتشاف؟ أسئلة كانتْ كالأشباح تُطَوّقُنِي وترافقُنِي في كل لحظة ومكان إن انتقادا بسيطا منكَ لأمر عابر أعتَبِرُهُ فورا تشكيكا منكَ في نجاح علاقة بين رجل وفتاة يفصل بينهما خمس وعشرون عامًا!)

الكتابة وسيلة لتجاوز الألم!

ثلاثين رسالة بين ثلاث أطراف في علاقات يتجاذبها الحب والغضب والألم والقسوة، تجعل القارئ متوحدًا مع أبطال الرواية مستمتعًا بما يلتقطه من تفاصيل حياتهم المسرودة بشاعرية وصدق، ولكن يمر الزمن بالثلاثة، والزمن طبيب العاطفيين كما قال درويش (يحول الجرح ندبة، ويحول الندبة حبة سمسم) تهدأ الجراح وتسكن، وتكتشف يوليا في نفسها مهارة خاصة، بعد عامين من توقف الرسائل بينها وبين طليقها، تكتشف قدرة الكتابة على نقلها إلى حالة أخرى، بل تفاجئ طليقها بمواجهةٍ أخرى على الورق لم يكن يتوقعها!

(كتبتُ كثيرا بعد انفصالنا حتى تحوّل فعل الكتابة إلى رياضة روحية يومية أكاد أقول إن الكتابة أنقذتني، فقد كانت الكلمات المسكوبة على شاشة اللابتوب بمثابة مهدئات أو مضادات اكتئاب الكتابة اغتسال روحي لاستعادة بياض البدايات ومصباح يدوي للعثور على الحلم. كتبتُ لأبكي في صمت دون أن أجرح آذان الكون. كتبتُ لأسمعَ صوت المطر كما تسمَعُه الأرض في يوم صيف حار. كتبتُ لأمسح الغبار عن أحرف اسمي، ولأتقاسم الألم مع نفسي)

تختم الكاتبة روايتها كما بدأتها مع يوليا، فيما لم نعرف تحديدًا ما حدث مع جوري بعد السنوات، ولا كيف كان رد فعل الروائي الكبير على القرار الأخير الذي أخذته طليقته، ولكننا ندرك بعد كل هذا أن لكل حقيقة أكثر من وجه، وأننا لايمكن أن نحكم على علاقة ولا حياة ولا إنسان من وجهٍ واحد سواء عرفناه عنه أو حكاه بنفسه، وأن للعلاقات والنفوس دومًا خلفيات أخرى نجهلها.

هكذا استطاعت ريم نجمي أن تسرد أحداث روايتها، وأن تعبّر بمهارةٍ واقتدار عن الرجل والسيدتين على اختلاف ثقافة كل منهم وتوجهاته رغباته، والرواية إن وصفت بالنسوية من حيث قدرتها على التعبير عن المرأة واستكناه مشاعرها باقتدار إلى أن استطاعت في الوقت نفسه أن ترسم شخصية الرجل المشتت بين أفكاره ورغباته، ولم تلجأ إلى شيطنته أو وصمه، ولكنها عبرت عنه بذكاء، وجعلتنا نتعاطف معه حينًا ونستفز من تصرفاته وأفكاره في أحيانٍ أخرى.

ريم نجمي شاعرة مغربية، وهي ابنة اثنين من الأدباء المتمرسين، فوالدها الشاعر والروائي حسن نجمي، وأمها الشاعرة والروائية عائشة البصري، فلا عجب أن تأتي البنت متقنة لأدوات الكتابة شعرًا ورواية، هذا بالإضافة إلى عملها الصحفي والإعلامي الذي لاشك يمدها بالكثير من الخبرات والتجارب، مع اشتراكها في الترجمة مع المترجم المصري سمير جريس لعدد من الكتب.

صدر لها في الشعر ثلاث دواوين «أزرق سماوي الرباط 2008، كأن قلبي يوم أحد _دار النهضة العربية 2011، و"كن بريئًا كذئب" عن دار المتوسط 2018، كما ترجمت للأطفال «رحلات باولا» للكاتب باول مار، و"نمر يتعلم الطيران" لنيوكلاس أوبر عن دار تنمية 2021، وصدر لها مع المترجم المصري سمير جريس الترجمة العربية لمسرحية «99 في المائة، الخوف والبؤس في الرايخ الثالث»، للكاتب الألماني برتولد برشت.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم