(كن جبانًا يا ولدي! كن جبانا؛ فلا شيء في هذا العالم يستحق أن تهرق دمك لأجله).

هكذا يفتتح الكاتب بدر أحمد روايته، على لسان شفاء الشركسية، والدة زياد النقاش – بطل الرواية، وراوي أحداثها – وهذا المقطع ذاته أجده الأنسب لافتتاح قراءتي للرواية، بعد أن باغتني السؤال:

  • هل فعلًا لا شيء يستحق أن يهرق المرء دمه لأجله؟ ولا حتى الوطن؟

ووجدتني أقولها نعم. ولا حتى الوطن؛ لأن الوطن يحتاجنا أحياء، لا موتى، يحتاجنا لنكون معًا، لا متفرقين، يقتل بعضنا بعضنا؛ ليدّعي بعدها كل فريق أنه يموت من أجل الوطن.

الوطن يريدنا أحياء، والحياة هنا ليست حياة الأجساد فقط، بل حياة الأرواح، والقلوب، والعقول، والضمائر. يريدنا أحياء لنحييه. لذا؛ كن جبانًا يا ولدي؛ سأقولها لابني لو كنت مكان شفاء الشركسية.

تبدأ دهشة الرواية من العنوان: خمسة أيام لم يسمع بها أحد. هذا العنوان المثير للفضول، والدافع لقراءة الرواية؛ لمعرفة ما تخبئه هذه الأيام، ولماذا لم يسمع عنها؛ لتجد نفسك غارقًا فيها، تحاول النجاة منها.

إنها خمسة أيام (لم يسمع بها أحد)، أو ربما سمعنا بها كثيرًا، ولكننا لم نعش تفاصيلها بهذه الدقة، أو لم تجتمع جميع أطرافها في حكاية واحدة كما فعل كاتب الرواية بحرفنة عالية، وسرد فائق الإتقان.

تدور أحداث الرواية في بلادٍ ما (لم أجد ما يشير إليها أبدًا)، ولكنها بالتأكيد في بقعةٍ ما في هذا العالم، وبالتأكيد أكثر هو بلد عربي، قتلته الحرب، والفرقة، والفساد، ولكنه ليس أي بلدٍ بالتحديد؛ فما أكثر البلدان المتشابهة هنا.

إن عدم تحديد البلد، جعل الكتاب يخرج من الإطار المحلي، إلى العربي، والدولي أيضًا، وهذا يحسب لصالح الرواية، ويدل على ذكاء الكاتب.

لم يدخل الكاتب مباشرة في أحداث الأيام الخمسة، التي لم يسمع بها أحد، بل عرفنا في البدء على الأطراف الأساسية للرواية، وهي عائلة محيي الدين النقاش – عائلة زياد -، وزياد النقاش، وناجي عواد.

خمسة أيام عاشها كل من زياد النقاش، وأسرته، وناجي عواد، ببعض التفاصيل المتشابهة، والكثير من الخصوصية لكل طرف من الأطراف السردية، رغم أن السرد كان يتم على لسان زياد في كل الفصول، وحول جميع الشخصيات.

بدأ اليوم الأول بتاريخ 3 كانون الثاني/ يناير، وانتهى اليوم الخامس بتاريخ 7 كانون الثاني، وما بين 3 و7 كانون الثاني ما لا يمكن احتماله من الألم، والحزن، لدرجة أنني اختنقت، وبكيت، وهو الأمر الذي كنت أظن أنني تجاوزته، ولولا أن الكاتب كان رؤوفا في خاتمة روايته، ورسم شعاعًا من النور، وسط كل تلك العتمة، لما استطعت الخروج من كآبة ما قرأت.

هذا النور الذي تبدّى في عطف الجلاد على زياد، لحظة تنفيذه لحكم الإعدام، هو ذاته الأمل في أن تتحد القلوب المتناحرة في بلداننا العربية، وأن يجمعها الحب رغم الاختلاف.

كما ذكرت سابقًا، بنى الكاتب روايته على خمسة فصول أساسية، هي الأيام الخمسة، وفي كل فصل، كان هناك ثلاثة أطراف محورية هي:

  • زياد النقاش:

الابن الوحيد، والناجي الوحيد، من ذاق خلال خمسة أيام ما يجعلها كخمسة أعوامٍ، أو خمسة قرون.

الابن الوحيد الذي لم يشفع له إعفاؤه من التجنيد من طلبه؛ ليذهب إلى الموت، كما حدث مع كل رفاقه، وكما كان يرى في أعين الناس الذين تمر بهم شاحنة التجنيد التي تحملهم إلى مقر الجيش.

سيُقاتِل من؟ ومن هو عدوه؟ وبأي سلاح؟ كل ذلك كان غير واضح لزياد، ولا لأيٍّ ممن كان معه. لقد بدا واضحًا من البداية أن زياد ورفاقه، ليسوا سوى أكباش فداء، دون أن يعلموا حتى فداء لِمَ، ولمن.

  • عائلة محيي النقاش، أو عائلة زياد:

العائلة التي لا تختلف أبدًا عن أية عائلة عربية، طحنتها الحرب، التي لا تنتهي إلا لتبدأ، وحين تبدأ لا تنتهي إلا بعد أن تأخذ كل شيء معها.

العائلة التي لا يساورك شك ولو للحظة، في أنها لا ترغب من الحياة إلا بالعيش معا، وألا يفرقها شيء، حتى الموت.

لذا لم يكن غريبًا أن تجمع الأم بناتها إليها، وتقربهن منها، عند موت الأب، ولذا أيضًا لم يكن غريبًا أن يختتم الكاتب روايته بمشهد الأم، تقف خلفها بناتها الثلاث، في مراسم عزاء زياد، أو استقباله، وقد عاد من الموت، إذا تذكرنا أن هذه الأم رمت بجسدها فوق بناتها؛ لحمايتهن، عند قصف منزلهم.

  • ناجي عواد:

الناجي الوحيد أيضًا من عائلة يهودية مكونة من أب، وأم، وأحد عشر ابنًا، ماتوا جميعهم غارقين في يومٍ واحد، دون تأكيد أن الطفل الذي وجد طفلهم، أم طفل عائلة أخرى جرفه السيل؛ فأُسمي ناجي لأنه الناجي الوحيد، ونُسب إلى عواد الرجل الذي وجده، وقام بتربيته.

ناجي عواد لم يكن سيئًا منذ خلق، ولكن المعاملة التي عومل بها عند اكتشاف أصله اليهودي، واتهامه بالتآمر، والتخطيط لإرسال اليهود العرب إلى إسرائيل، وسجنه، وإخراجه لذات السبب من الكلية العسكرية، جعل منه إنسانًا آخر. إنسانًا لا يهتم إلا بجمع المال، ولو كان من دماء الناس، وهو ما فعله بعد تعيينه ضابط توجيهٍ سياسي، لدرجة أنه لُقّب بالجلاد.

بعض الروايات تنتهي، بمجر انتهائك من قراءتها، وطي غلافها الخلفي، وبعضها لا يفارقك، وتجد نفسك تود لو تعرف أحوال أبطالها، وكيف هم الآن؟ هل هم بخير؟ هل تجاوزوا ما حدث؟ هل ثمة ألم أكبر يخبئه لهم القادم من الأيام؟

ورواية (خمسة أيام لم يسمع بها أحد) من هذا النوع الذي لا يتركك أبدًا، بل تود لو تحجز تذكرة، وتذهب إلى حيث أبطال الرواية؛ لتطمئن عليهم ولو من بعيد، وتعود.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم