لعل أكثر ما يميز كتابة زهران القاسمي ويكاد يجمع عليه كل من قرأ له هو قدرته الفائقة على استحضار عالم الصحراء والقرية العمانية وثراء الطبيعة فيها بمهارة، والتكيف الشديد مع ذلك العالم البدائي والتقاط العديد من جمالياته والتعبير عنها بشكل متقن، كل ذلك بعيدًا عمّا يحيط بنا من صخب المدن وعنفها وضوضائها من جهة، وبعيدًا أيضًا عن عوالم التكنولوجيا الذي يفرض حضوره في كل وقت، هناك عالم شديد الخصوبة والثراء أكثر ارتباطًا بروح الإنسان وطبيعته وحياته على هذه الأرض، ذلك العالم الذي باعدت بيننا وبينه المدنية الحديثة وما فيها من إغراء وإغواء.

وقد عرفت الرواية العربية عالم الصحراء وما فيه من تنوع وثراء، وعالم الريف والقرية وما يعج به من شخصيات وعوالم، ولاشك سنجد ذلك قريبًا وحديثًا في التجارب الروائية المختلفة، ليس بداية بتوفيق الحكيم وما رصده في ريف القرية المصرية، مرورًا بتجربة فارقة وضعها إبراهيم الكوني في ليبيا، وربما نذكر هنا أيضًا ما فعله مؤخرًا الروائي المصري علاء فرغلي في روايته وادي الدوم، حيث جاب عالم الصحراء ودهاليزه وابتعد عن غواية المدينة وحكاياتها وعوالمها.

وفي عمان ومع كل تجربة روائية جديدة يؤكد زهران القاسمي ثراء عالم الطبيعة والقرية العمانية، كما يؤكد من جهة أخرى خبرته ودرايته بهذا العالم وما فيه من خفايا وأسرار، ويتجلى ذلك في قدرته على لملمة جوانب جديدة من هذا العالم وتقديمها للقارئ بشكلٍ يجعله يتماهى تمامًا مع شخوصه بل وربما يتورط في الغرق معهم في دواماتهم وحياتهم.

لايمكن _في ظني_ الحديث عن "تغريبة القافر" ـ الرواية الأحدث لزهران القاسمي ـ دون الإشارة إلى عالمه الروائي الثري الذي كانت بدايته مع جبل الشوع منذ عشر أعوامٍ تقريبًا، والتي تناولت الحياة القبلية في عمان بشخصياتٍ مرسومة بدقة وعالم شديد الخصوصية، تبع ذلك روايته الفريدة والهامة "القنّاص" التي جمعت بين عالم الصيد والصحراء وبين القدرة على فتح المجال للتأويل حيث تحول اقتناص الوعل إلى فكرة الحلم وتحقيق الأمل وما إلى ذلك، كذلك كانت روايته "جوع العسل" حيث رحلات البحث الطويلة عن العسل الجبلي من جهة، وعن النفس الإنسانية في واحد من تجلياتها حينما ترتبط بالطبيعة وما فيها من صعاب تفرق بين الأصحاب أحيانًا.

عالم ثري ولاشك يختار منه القاسمي هذه المرة رحلة القافر في مجاهل الصحراء للبحث عن قطرات الماء المخبوءة بين الصخور، تلك الرحلة التي لم تبدأ عند الولد سالم القافر بطل الرواية، وإنما بدأت قبل ولادته مع أمه مريم التي سماها الناس "الغريقة" بذلك المشهد الأخاذ الذي يفتتح به هذا العالم ويجذب انتباه القارئ إلى وجود "غريقة" وكيف يتجمع أهل البلدة للتعرف على هوية تلك المرأة، وكيف تتناسل الحكايات لنتعرف من خلال هؤلاء البسطاء على عالم القرية ومن فيها، وكيف تقوم العلاقات بينهم وكيف تتكون.

خصوصية اللغة وثراء العالم 

لاشك أن واحدًا من عوامل تميز هذه الرواية هو ذلك المعجم القروي الخاص، بل وسيفاجئ القارئ بأنه يقرأ اللهجة العمانية المحلية ويفهمها، رغم غرابتها وربما بعدها عن الأسماع، ولكن هذه قدرة الروائي المحترف على أن يجمع بين خصوصية اللغة قدرته على توصيل المعنى من خلال السياق، يبدو ذلك جليًا في حوارات أهل القرية التي جاءت كلها باللهجة المحلية، وكان ذلك ولاشك متسقًا مع طبيعة الرواية وعالمها.

وإذا كانت علاقة القافر بالأرض والتربة والصخور على هذا النحو من الخصوصية، حتى أنه يسمع خرير الماء من داخلها، فلاشك أن علاقته بالآخرين أيضًا تحمل بعدًا آخر، يتجلى في تلك الفتاة التي تشررق له من بين صفحات الصحراء، ويراقبها فتيًا وتلفت نظره شابًا حتى يقرر الزواج بها:

(كما ينفجر الماء من قلب الحجر ويسري الينبوع منحدرًا برقته على الأرض العطشى، وكما كان القافر يطرب لخرير الماء في الأعماق، ناداه الحب. رآه في ابتسامتها عندما كانت تقف أمام داره، في نظرتها الحالمة وهي تحنو على الكدمات التي خلفتها ضربات المعلم فترفع عنها الألم، ناداه الحب ليذهب إليها دون أن يدرك أنها هناك تنتظر في البلاد البعيدة.. ناولته حباتٍ من التمر وهي تبتسم فرق قلبه واستكان ألمه، أراد أن يرتوي بابتسامتها ويعلق نظره في أسنانها البيضاء، أما هي فقد جلست بجانبه وبدأت تتحدث وكأنها تعرفه من قبل، كانت كثيرة التلفت كثيرة الحركة، وكان ساكنًا ينصت بقلبه إلى صوتها الشبيه بأغنية نسيتها الجنيّات في جنبات الدار)

للماء في هذه الرواية حضور خاص، فالناس تشعر بالعطش بل وتعاني منه، وبطل الرواية القافر يدلهم عليه، بطريقة تبدو سحرية ولكنها واقعية في الآن نفسه، ذلك الماء الذي تبدأ به الحياة وتنتهي، والغريب أن القرى تصاب بالجفاف والرياح التي تهلك كل ماحولها، ويلجؤون إلى الجبال يحتمون بها من الكوارث والنوازل، ثم يعودون مرة أخرى بعد زوال الخطر، وينتظرون المياه التي تسقي أرضهم وتعيد إليهم الحياة من جديد، وكأنها دورة الحياة الطبيعية لا تتوقف، بل تبدو في طريقة حكيها وسردها وكأنها تستحضر الإنسان الأول وعالمه بالفعل، لا وجود للتاريخ الراهن ولا تحديد للزمان، هي حكايات متتالية وعالم نغرق جميعًا في تفاصيله ونتفاعل مع شخوصه ونتأمل حياتهم وتصاريف القدر معهم.

كما يدخلنا الكاتب من حين لآخر في عدد من الحكايات الجانبية لأفرادٍ عابرين في القرية، ولكننا نتعرف من خلالهم على ما يدور بينهم من علاقات وخلافات، وكيف ينشأ بينهم الحقد والغيرة، وكيف تؤثر عليهم طبيعة تلك الحياة القاسية، وتجعل بعضهم كالحجارة بل هم أشد، وبعضهم الآخر يبدون في انسيابية الماء ونعومته،

وللمرأة كذلك حضور شديد الخصوصية والأهمية، ليس فقط لتلك الأم التي نستقبل بها الحكاية والعالم، بل حتى مع المربية التي تحمل صفات ذلك العالم من احتضان الصبي والحفاظ على سره حتى مراعاته وتجنيبه أخطار وشرور أهل القرية من حوله حتى وفاتها، كاذية بنت غانم التي تبدو واحدة من بطلات الروايات التي لا تنسى، رغم أن دورها ينتهي في الرواية بسرعة إلا أنه يبقى حاضرًا مؤثرًا، حتى تنتهي الرواية بين يدي الزوجة "نصرا" التي بقيت على حال الوفاء لزوجها الذي لا تعلم هل يمكن أن تغدر به الصحراء بالفعل وتقتله، أم أنه سينجو بعد غيابه الطويل ويعود إليها!

(يزداد العتاب ويتكاثر الكلام فيملأ صدرها، وتضيع التفاصيل والكلمات في انتظار عودته، ستقول له كذا وكذا، ستمنعه في المرة المقبلة من السفر، ستصرخ في وجهه وتغضب، لكنّها تعرف أنه ما إن يعود وتسطع رائحته في أنفها، يحتضنها حتى يندثر ذلك الجدار الذي شيدته في مواجهة غيابه، إنها ترى فيه إنسانًا غير الذي يراه الناي، الناس الذين يقيسون بمسطرة الجاه والمال والمكانة الاجتماعية، ويعدون كل مختلفٍ عنهم مجنونًا أو ممسوسًا، ولطالما حمدت ربها على بذرة الحب التي ألقاها في صدرها لتكبر يومًا بعد يوم حتى صارت شجرة عشقِ فارعة كثيفة الظلال)

ورغم أن السارد/ الكاتب قرر أن ينهي الرواية بفصلٍ أخير يستدعي ما دار مع القافر في آخر لحظات حياته وتغريبته، إلا أنني كنت أرى أن النهاية التي جاءت مع زوجته نصرا كانت أشد وقعًا وأكثر تأثيرًا.

هكذا قدم لنا القاسمي رواية أخرى من روايات عالم القرية العماني شديد الثراء والخصوصية، وكشف لنا عن جانب آخر من جوانبه، بعيدًا عن تقييد الزمان، وقريبًا من الأثر الفني والإنساني الأبقى، وهي رواية تنضم لرصيد رواياته شديدة الجمال والخصوصية، كما تضيف حجرًا آخر في بناء الرواية العمانية الذي يبدو شديد الحضور والتميز في الآونة الأخيرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجمل بين الأقواس من الرواية ـ الصادرة عن دار مسكلياني 2021

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم