نضال إبراهيم

من حكاية مطبعة عربية حفرت حروفها في روما في وقت ما من العام 1610، صنع محمد العجمي النواة الأولى لروايته "سرّ الموريسكي" والصادرة عن دار عرب اللندنية، حيث تناول ولأوّل مرة حدثا منسيّا تماما في الثقافة العربية، وهو نشوء المطبعة العربية في أوروبا. وبحسب د. ناصر البدري مدير الدار؛ لا تتحدث الرواية تماما عن تلك المطبعة التي كانت الشرارة الأولى التي ألهمت العجمي ليكتب هذه التحفة الأدبية، وإنما عن مأساة عائلة موريسكية تشردت في الأرض بعد قرار طرد الموريسكيين من إسبانيا في 1609. غير أن العجمي نجح وبذكاء ملحوظ أن يربط هذه المأساة بتلك المطبعة، وليأخذنا في رحلة امتدت إلى سبع سنوات؛ من معركة ليزارد بوينت على السواحل الانجليزية في فبراير 1637م وإلى المحطة الأخيرة لروبرت فيبن بأواخر العام 1643، وهو يستلم رسالة الأب يوسف المصوّر من حلب.

يحاول العمل أن يضع القارئ في قلب حبكة درامية تتظافر فيها عناصر العمل الفني عبر تحديد للزمان من غير إلحاح وتذكير، وتوصيف للمكان بدون المبالغة في الوصف والتفصيل الدقيق، مع حرص على أن يكون التدفّق القصصي هادئ وخصوصا في الفصول الثلاثة الأولى. والذي لا يلبث أن يتسارع بشكل مذهل في الفصل الرابع وما يليه ليجعل القارئ في ربكة خفيفة وهو يتتبع ما يكتشفه روبرت فيبن؛ سارد الأحداث، من تنافس أوروبي شديد على المخطوطات العربية في تلك المرحلة التاريخية، وفي الوقت نفسه ما يكتشفه من سرّ الموريسكي.

كان ذكاء الرواية في حشر هذا التنافس على المخطوطات وعلى الأحرف العربية؛ في قلب حكاية يوسف الموريسكي؛ العربي الذي قابله روبرت في السجن الإسباني. دون أن يغفل عن الظرف التاريخي للثورة العلمية التي كانت تنطلق في أوروبا على شكل تيّارات متصارعة في النصف الأول من القرن السابع عشر، وهو القرن الذي يعتبره العجمي قرن التفوّق للأوروبيين على الدولة العثمانية، وعلى الشرق الاسلامي عموما، ومن هنا كان العجمي يحاول أن يضع القارئ في قلب هذا التفوّق والتسارع الذي تجاوز فيه الأوروبيون ما أنتج في العربية من علوم وفلسفة وتراث حضاري. كل ظل في ظل الخلفية التاريخية الدموية للصراع الدينية في أوروبا خلال حرب الثلاثين عاما بين الكاثوليك والبروتستانت.

ليس هذا فحسب ما حرص العمل على معالجته بهدوء في خلفية مأساة العائلة المزريسكية، فالتطورات في الوعي الأوروبي مثّلت رسالة مهمة ربما كان العجمي يحاول من خلالها أن يقول شيئا للقارئ. فعلى الصعيد العلمي؛ وانهيار النموذج البطلمي الذي يجعل الأرض مركز الكون، والانتقال من الخيمياء إلى الكيمياء، والفصل بين السحر والعلم، واكتشاف الهندسة اللاإقليدية، وظهور فكرة المنهج العلمي، وانتشار المطبعة. وعلى الصعيد الاجتماعي؛ ظهور مفهوم الدولة الحديثة، وتطور أدوات التجارة الدولية، وبروز ظاهرة الاستعمار، ونشوء القوميات الأوروبية، وأولا وأخير قيادة الطبقة الوسطى البورجوازية لكافة اشكال التغير الاجتماعي في أوروبا. كل هذه التغيرات في ظل شبه ركود عربي إسلامي؛ وعزوف عن محاولة التعلّم من الأوروبيين.

فأوروبا التي بدأت مع بدايات القرن السابع عشر تكتشف هويتها وتفوقها أمام الجيوش والأساطيل العثمانية المنهكة، حوّرت هذه المرّة المشاعر الصليبية القديمة؛ لتجعلها مشاعر استعمارية شبيهة تماما مع ما فعلته في العالم الجديد بالأمريكيتين. كما لو أن الرواية تريد أن تقول لنا أننا نحتاج أن نتخيّل قليلا كيف كانت بداية فكرة استعمار الشرق، وكيف تم هذا التحوّل مع بدايات الثورة العلمية التي صاحبت النموذج الفلكي لكوبرنيكوس وكبلر وغاليليو، فهذا ربما يساعدنا على تحديد موقعنا الحضاري بالنسبة لهذا الغرب الذي ما زلنا نشتبك معه منذ ألف سنة أو أكثر.

فعملية رصد مثل هذه التغيرات في قالب فني درامي ربما هو ما تطمح إليه هذه الرواية. وقد كان لشخصية روبرت فيبن العامل الرئيسي في تطور هذا الحكاية. وبحسب تصريح للمؤلف؛ حيث ابتكر هذه الشخصية من خلال تتبع التاريخ البحري لإنجلترا في المتوسط؛ بدءا من تأسيس شركة المشرق منذ نهايات القرن السادس عشر.

وهكذا فإن "سرّ الموريسكي" حكاية تجمع داخلها عدة حكايات. حكاية عائلة موريسكية شرّدت بعد مرسوم طرد المور من إسبانيا في ١٦٠٩؛ تتحوّل إلى شاهد على التحوّلات الكبرى التي جرت في محيط البحر المتوسط بين أوروبا والعالم الإسلامي خلال النصف الأول من القرن السابع عشر. فهناك حكاية المطبعة العربية وتجارة المخطوطات العربية، والصراع العثماني الأوروبي والرحلات الأوروبية إلى الشرق الإسلامي. كل ذلك للدرجة التي يخيّل للقارئ أن هناك أكثر من سر في العمل. وريما ليست تماما كلمة "سر" هي التعبير الأنسب لجملة الأفكار التي يجب أن تتسرّب بهدوء لوعي القارئ من خلال هذه الرواية. فلوهلة يبدو أنه لا يوجد سرّ واحد؛ بل يوجد سلسلة من الحكايات المتوازية تعمل معا كمفاتيح لتحرير الموريسكي من السجن. الموريسكي سيكون آخر ما تبقى من وعي بأفول مرحلة حضارية وقدوم أخرى. 

إن سيرة البحث عن معنى يعبر الحدود بخفّة، تبدأ من قدر لا يمكن الهروب منه لتنتهي بفكرة لا حدود لها. ولعلّ هذا ما جعل العجمي يفتح كل هذه الملفات التاريخية المعقدة؛ ملفّ الموريسكيين وظلاماتهم عبر التاريخ، وملف المطبعة العربية في بداياتها الأولى، وملف العلاقات العثمانية الأوروبية، وملف تجارة المخطوطات المشرقية، بالإضافة إلى الثورة العلمية في أوروبا، وتاريخ أوروبا خلال القرن السابع عشر. حيث قام بصهر كل هذه الملفّات جميعها في السيرة المبتكرة لروبرت الإنجليزي وهو يبحث عن سرّ الموريسكي الذي قد لا يكون سوى سرّ خفي للعجمي الذي كتب مرة لإحدى الصحف: "ليس من السهل كتابة عمل تاريخي يراد منه أن يؤرّخ لبعض مآزق الحاضر؛ في قالب إبداعي فني. ستكون الأخطاء كثيرة، وربما لن تشفع كلمة (رواية) لدى البعض لتجاوز الهفوات".

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم