عبد الرزاق دحنون

في أقاصي الدنيا، تبسط زوبعة فستانَها بأذياله المزركشة في رقصة عجيبة مرعبة لساحرة هائجة؛ لم تتمكن هستيرياها حتى من نفض الغبار عن النخلتين المكلّستين المنتصبتين في السماء كما ذراعي معذّب. في حين أن الرمضاء امتصّت نفحات الهواء المفترضة التي يكون الليل، في فوضى انسحابه، قد نسي أخذها معه. ومنذ نهاية الصبيحة، لم يجمع طائر كاسر واحد الحوافز الكافية ليحلق فوق فرائسه.

اختفى الرعاة الذين تعوّدوا على دفع قطعانهم الهزيلة إلى غاية سفح التلال. لكن على بعد أميال، وباستثناء الحراس القليلين القابعين بداخل مَراقبهم الهشّة، لا أثر لحياة تذكر. لكن على مدى البصر، يرافق الصمت القاتل هذه القفار التي يبدو أن الآلهة قد تخلّت عنها.

إن الأراضي الأفغانية ليست سوى ساحات للقتال، مُصْطَرعات ومقابر. تتفتّت الصلوات في غضبة شظايا الرصاص. كل مساء، تعوي الذئاب إلى حدّ الموت. والريح، حينما تنتفض، تسلّم شكاوى المتسوّلين إلى نعيق الغربان.

النص أعلاه من مقدمة رواية "سنونوات كابول" تأليف الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا في 2002، واقتبستها مخرجتان فرنسيتان هما زابو بريتمان و إليا موغي ميفليك، لتصبح عملاً سينمائياً. الفيلم يروي ظروف الحياة في مدينة كابول في ظل التشدد الديني من حركة طالبان.

بهذا الفيلم تعود سينما الرسوم المتحركة لتحاكي رواية من أهم روايات الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا. استغرق إنجاز الفيلم نحو ست سنوات واستخدمت فيه تقنية جديدة تمثَّلت في جعل الممثلين الحقيقيين يؤدون أدوارهم بشكل كامل وحقيقي، ثم تحويل المشاهد إلى رسوم متحركة، مع الاحتفاظ بالشكل الحقيقي للممثلين. تجربة رائعة قد تسمح لروايات أخرى بالتجسُّد على الشاشة الفضية.

ولمَن لم يقرأ لياسمينة خضرا من قبل، فهو الاسم المستعار الذي يكتب تحته الروائي الجزائري الفرنكفوني محمد مولسهول، والذي ولد في جنوبي الجزائر عام 1955، وقد اعتمد هذا الاسم المستعار عام 1988 عندما كان ضابطًا في الجيش الجزائري، ليوقِّع به بعد ذلك عدة روايات هرباً من الرقابة العسكرية.

وتشكِّل رواية “سنونوات كابول” الجزء الأول من ثلاثية تشمل روايتَين أخريين هما “الاعتداء” و ”صفارات إنذار بغداد”، لينطلق ياسمينة خضرا من خلال الروايات الثلاث في وصف الشرق المعاصر وعلاقة الصراع التي دخلها مع الغرب، وذلك من خلال التركيز على الاتجاهات المتشددة وموجات التطرف التي ضربت بعض بلدانه.

السؤال الذي يطرحه المشاهد في بداية الفيلم هو: ما الذي يدفع مواطن أفغاني متعلم، عانى كثيرًا من حكم “طالبان” لبلده، إلى المشاركة في رجم امرأة متهمة بالفجور حتى الموت في مدينة كابول، عاصمة أفغانستان الخاضعة لحكم حركة طالبان؟

ذلك هو السؤال المحوري، الذي يحاول الفيلم الإجابة عنه من خلال سلوك أربع شخصيات رئيسية: محسن بامات المعلم المطرود من عمله بعد أن رفض التدريس في المدارس القرآنية رغبة منه في عدم تلويث عقول الأطفال بالفكر المتطرف الذي فرضته “طالبان”، وزوجته زنيرة، المحامية الموهوبة في الرسم، والتي منعها التطرف الديني من ممارسة مهنتها، وعتيق شوكت، الذي حارب في صفوف “طالبان” ضد الاجتياح الروسي لأفغانستان، وانتهى به الأمر مسؤولًا عن أحد سجون كابول، فضلًا عن زوجته مسرة المصابة بمرض السرطان.

يبقى الذنب يلاحق محسن الذي يلمح صورة المرأة التي رجمها في كل مكان، ويصارح زوجته التي فوجئت بما أقدم عليه زوجها المثقف، وفجأة تبدأ الأمور في التدهور بينهما خصوصاً عندما يحجم محسن عن الدفاع عن زوجته التي عاقبها عنصر من “طالبان” بالوقوف حافية القدمَين تحت حرارة الشمس، بعد أن لمحها تغازل زوجها في الشارع منتعلةً حذاءً أبيض وهو ما تمنعه قوانين “طالبان”، وفي المقابل بادرت زنيرة إلى معاقبة زوجها بارتدائها البرقع أو الشادور الأفغاني الذي فرضته “طالبان” زيًّا على النساء، حتى في المنزل.

وبعد أن فاض به الكيل من تصرفات زوجته، يطالبها محسن بخلع النقاب لأنها كما يقول الشمس الوحيدة التي تبقَّت له في هذه الحياة المظلمة، لكنها ترفض ذلك قائلة: “ما من شمس تصمد في ظل كل هذا الظلام الدامس”، كلمات لامست مشاعر محسن الذي حاول أن يخلع النقاب عن زوجته بالقوة، فما كان منها إلا أن دفعته -دون قصد- باتجاه حافة صخرة في منزلهما المتهالك، فسقط صريعاً على الفور.


في السجن حيث حُكم عليها بالإعدام، تقابل حارسها السجان عتيق، والذي يعيش فترة حرجة من حياته، مع قرب وفاة زوجته المريضة بالسرطان، دون أن يتمكن من فعل شيء. ينظر عتيق إلى زنيرة التي ترفض وضع الشادور داخل الزنزانة فيُغرم بجمالها الأخاذ ويقع أسيراً في حبها من النظرة الأولى، تشعر زوجته بذلك وتذهب بنفسها إلى السجن، لترى شكل المرأة التي خطفت قلب زوجها.

وبينما باءت كل محاولات عتيق لتحرير زنيرة أو تبرئة ساحتها أمام القضاء الشرعي بالفشل، تعرض عليه زوجته قبل ساعات من تنفيذ حكم الإعدام، ارتداء شادور زنيرة، والموت بدلاً منها رغبة منها في أن تطمئن على زوجها الذي وجد أخيراً مَن ستؤنس حياته.

يوافق الثلاثة على مضض، وتنطلق السيارة العسكرية وعلى متنها الزوجة مسرة والزوج عتيق لتتمكن زنيرة من الهرب، لكن العنصر الذي نفَّذ حكم الإعدام في مسرة رمياً بالرصاص، يرفع نقابها ليكتشف أنها ليست المحكومة الحقيقية بالإعدام، فيطلق النار على السجان عتيق انتقاماً منه على فعلته، ليغادر الزوجان إلى السلام الأبدي، وتنجو زنيرة التي قال لها عتيق يوماً: “شابة بجمالك لا تستحق سوى الحياة”.




0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم