«ساعي بريد نيرودا» لأنطونيو سكارميتا.. التشيلي بين شاعر وديكتاتور
يختصر التشيليّ أنطونيو سكارميتا في روايته «ساعي بريد نيرودا» رحلة انتقال بلاده من تجربة الديمقراطيّة الوليدة إلى قبضة الديكتاتوريّة الحديديّة، وتحوّل الحلم الثوريّ الشاعريّ إلى كابوس مزمن جثم على صدر البلاد والعباد.
الشاعر التشيليّ بابلو نيرودا (1904 – 1973) الذي نال جائزة نوبل سنة 1971، وكان عضواً بمجلس الشيوخ وباللجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ، وتمّ ترشيحه لرئاسة الجمهوريّة في بلاده، لكنّه تراجع بعد التوافق على ترشيح سلفادور الليندي الذي أطيح به بانقلاب عسكريّ بعد مدّة قصيرة من انتخاب، يكون أحد أبطال سكارميتا في روايته التي ترجمها صالح علماني، ونشرتها سلسلة ألف ياء في تونس.
تتناول الرواية السنوات الأخيرة من حياة الشاعر الذي وصفه ماركيز بأنّه من أفضل شعراء القرن العشرين في جميع لغات العالم، يختار سكارميتا تلك المرحلة من حياة الشاعر ليطلّ من خلالها على المشهد العام للبلد، وذلك انطلاقاً من قريته البحريّة الصغيرة الوادعة، مروراً بالأحداث العاصفة التي شهدتها البلاد، وصولاً لرزوحها تحت سلطة الديكتاتوريّة التي قيّدت الناس وكبّلت الحرّيّات العامّة.
سكارميتا الذي كان سفيراً لبلاده في ألمانيا عدّة سنوات منذ عام 2000، يقدّم روايته بلسان راوٍ مفترض يكون محرّراً ثقافيّاً في إحدى الصحف المحلّيّة. لا يخفي الراوي نقمته وغضبه من طريقة عمله بناء على توجيهات رؤسائه بتمجيد هذا أو ذاك من أزلام النظام وأتباعه، يجد ضالّته في اقتفاء سيرة الشاعر بابلو نيرودا وإجراء حوار معه واستقصاء عنه وعن علاقاته النسائيّة، ليكتشف أنّه أمام جبل من المآسي، يلتقي بامرأة تطلب منه كتابة رواية زوجها المغيّب منذ سنوات، وتشدّد عليه أن يدوّنها لأنّها متقاطعة مع سيرة نيرودا وسيرة البلاد نفسها.
تتقاطع حكايات الصبر المتأجّج وتكبر دوائر الأحداث انطلاقاً من قرية صغيرة إلى تصوير ما اعترك في البلاد من أحداث مأساويّة عقب الانقلاب العسكريّ ضدّ الليندي، وما تبعه من ويلات وكوارث معمّمة. حيث التعدّي على الحرمات والحرّيّات والتمثيل بالناس وإرهابهم.
ماريو بحّار من قرية الصيّادين في مقتبل العمر، يترك عمله في البحر والصيد، يبحث عن عمل آخر يوفّر له بعض الأمان والاستقرار، يتوجّه إلى دائرة البريد، يتقدّم بطلبه ليصبح ساعي البريد، ينبّهه الموظّف إلى أنّ الراتب قليل، وأنّه ليس هناك من أحد ترسل إليه الرسائل في القرية إلّا رجل واحد، هو الشاعر بابلو نيرودا. يوافق ماريو على ذلك، وستحمّس لأداء عمله الجديد. يقوم بإيصال الرسائل كلّ يوم إلى نيرودا، يتأمّله كلّ مرّة، يتردّد في الحديث معه وطلب توقيع إحدى كتبه له ليتباهى أمام الفتاة التي أعجبته بعلاقته ومعرفته بالشاعر الكبير. يلاحظ أنّ الشاعر يمرّ بفترة عصيبة، يعيش نوعاً من العزلة الاختياريّة.
الرسائل التي يحملها ماريو هي التي ترسم سبل تطوّر الأحداث وسياقاتها المتعدّدة، فهو يحمل كلّ يوم العديد من الرسائل إلى شاعره الأثير، يبدأ بحفظ قصائده عن ظهر غيب، يغدو نافذته على العالم كلّه، كلّ واحد يصبح للآخر بمثابة الوسيط بين الذات والآخر، وبين العوالم الداخليّة أيضاً في الوقت نفسه. ساعي البريد يحمل الجديد والمثير والمفاجئ دوماً لزبونه الوحيد نيرودا، ويلفته أنّ شاعره يهتمّ ببعض الرسائل دون غيرها بداية، يتجرّأ ويسأله عنها، فيجيبه الشاعر برحابة صدر إنّ الرسائل التي ترده من السويد قد تحمله إليه نبأ فوزه بجائزة نوبل.
ماريو يتعرّف إلى ماهيّة الاستعارات والكنايات، يجتاحه حبّ بياتريث على غفلة منه، لا يتمالك نفسه أمامها، يحار في ما يفعل، يجد نفسه لائذاً بالبحر يؤلّف الاستعارات، ويستعيد قصائد نيرودا التي حفظها، يختلط لديه ما يبتدعه من استعارات وما يحفظ من أشعار، فيجد نفسه منساقاً للاعتراف لبياتريث بحبّه لها، يصفها بطريقة شاعريّة وبكلمات مؤثّرة، يستحوذ بها على قلبها.
حبّ العاشق الشابّ ماريو يواجَه بجبروت أمّ بياتريث التي تحذّر ابنتها من الانقياد وراء الكلمات، لأنّها تستدرج الفتاة وتبني لها قصوراً في الرمال، لكنّها تظلّ عبثاً وعبئاً في الوقت نفسه، ويجب عليها أن تتحلّى بالواقعيّة وتختار مَن يؤمّن لها حياتها ومستقبلها، لا مَن يؤلّف لها القصائد والاستعارات. تشكو الفتى إلى نيرودا، وتتّهمه بأنّه يسرق قصائده ليغوي بها ابنتها الصغيرة، ولا تملك المرأة إلّا الرضوخ تالياً لرغبة العاشقين وإصرارهما، وذلك بعد أن تكتشف العلاقة الجسديّة بينهما، فتعلن موافقتها، وتحدّد يوم الزفاف.
يتقاطع يوم زفاف ماريو وبياتريث مع قرار تعيين نيرودا سفيراً لبلاده في فرنسا، فيرافق ماريو كإشبين له في عقد قرانه في الكنيسة، يرتدي بذلته الرسميّة الفاخرة، ليمضي بعدها إلى مهمّته. تكون المرحلة التالية من الزواج مرحلة مسؤوليّات والتزامات وتغيّرات على مختلف الأصعدة. هدوء القرية يتبدّد، يجتاحها المصطافون الموسميّون، يظلّ ماريو من دون عمل بعد رحيل زبونه الوحيد، فيجبَر على العمل مع حماته ويستلم المطعم، ويتمسّك بحلمه في كتابة القصائد. وحين يأتي مولوده الأوّل والوحيد يختار له اسم بابلو تيمّناً باسم شاعره.
بعد فترة من مكوثه في باريس، يرسل نيرودا إلى ماريو رسالة وهدية، يخبره فيها بأشواقه للقرية وأجوائها الفاتنة، ويحدّثه كأيّ صديق قديم يتمنّى له السعادة والبهجة، ثمّ يوصيه أن يسجّل له مختلف الأصوات في القرية، لينقل إليه صورته بالصوت ويعيده إلى تلك اللحظات التي تنعّم فيها بالسكينة والطمأنينة. وتكون تلك الحالة بمثابة الصرخة التي تتشبّث بالماضي الجميل والحلم الأثير الذي يصار إلى تبديده.
التغيّر لا يستثني شيئاً أو أحداً في البلاد، فمرحلة حكم سلفادور الليندي الأولى تتّسم بتكاتف أعدائه ضدّه والتضييق على الناس لدفعهم إلى الاستياء والتذمّر ومن ثمّ رفضه، أي التهيئة للانقلاب عليه، وذلك ما تمّ فعلاً، حيث تمّ القضاء على التجربة الديمقراطيّة التي عاشتها التشيلي لفترة قصيرة، وتم تحطيم أحلام الملايين من أبناء الشعب التشيلي ببلد مزدهر حرّ، لتأتي الديكتاتوريّة العسكريّة وتبالغ في إيذاء الناس وتشويه البلاد.
الشاعر الذي ينكسر حلمه بالديمقراطيّة، يعود إلى قريته على سرير المرض، يختار سلام القرية وهدوءها ودفئها على برودة الغربة ووحشة المنافي، تكون عودته محفوفة بالمخاطر التي لا يكترث لها، يقصده ماريو للزيارة مرّات لكنّه لا يتمكّن من لقائه بسبب المرض، وحين يلتقيه في المرّة الأخيرة يقرأ عليه أشعاراً تعكس فداحة الخسارة وعمق التأثّر. تصف الخيبة المريرة المتعاظمة في روحه، وتمرئي جانباً من العتمة المرتقبة في نفق مديد تدخله البلاد عنوة. وتكون الفجيعة التالية في التنكيل ببيت الشاعر بعد رحيله، وكأنّه ليس ذاكرة لبلاده، بل شيء من الماضي المعادي للديكتاتوريّة ينبغي التخلّص منه.
تكون المفاجأة الصادمة لماريو أنّه يتّهم بمعاداته للسلطة الجديدة، ويكون مصدر الاتّهام الملفّق بناء على خلفيّة علاقته الوطيدة بالشاعر نيرودا، بحكم أنّه كان حافظاً لأشعاره وحاملاً لأفكاره، مناهضاً لأعدائه. يُستدعَى ماريو للتحقيق معه من قبل سلطات الانقلاب، يقال له إنّه لن يتأخّر بالعودة، لكنّ ذلك ما لا يتمّ، لأنّ ماريو يظلّ سجيناً بعيداً عن أسرته، وتظلّ زوجته بياتريث تسأل عنه في أقبية السجون، وتسعى للدفاع عنه في أروقة المحاكم.
يختصر الروائيّ عبر قول نيرودا لساعي بريده ماريو إشكاليّة يومه وغد بلاده، وذلك حين يقول: «الجرح ليس عميقاً مثل بئر، وليس واسعاً مثل بوّابة كنيسة، ولكنّه كافٍ. اسأل عنّي غداً، وسترى كم سأكون متيبّساً». وتكون حالة الاحتضار إيذاناً بالدخول في متاهة من المنازعات التي لن تستدلّ إلى طريق قريب للتهدئة أو السلام.
ينقل سكارميتا أحلام التشيليّين المغدورة، وخيبتهم بالواقع إثر عودتهم إلى عنف الطغيان، وتحطيم أيّة معارضة محتملة، وتقييد الحرّيّات وما تبعه من تجريم وتخوين بناء على التخمين والظنّ، حيث الشكّ بأحدهم كان كافياً لإدانته، ما خلق سلسلة لا منتهية من العذابات. وبالموازاة مع ذلك يصوّر سكارميتا الإرث الفلكلوريّ الذي يعبق به البلد، وذلك عبر الحوارات والأمثال واكتشاف المحيط من خلال الشخصيّات التي تشكّل ضمير القرية وتنطق برغبات الناس ولسانهم.
0 تعليقات