▦ تــوطئــة :
هناك نوعان من الروايات التاريخية التي سادت على مستوى الكتابة السردية:
- أولاهما، رواية تستثمر التاريخ؛ بغية إعادة إنتاجه، وتدويره، وهذا النوع يقوم بكتابة الماضي على نحو جمالي ذاتي، لا حيادي، ويستند إلى نص تاريخي يظنه الكاتب غير مكتمل؛ بحيث تكون مهمة الكاتب استيضاح معالم ذلك النص، ومحاكمته، وتصويبه؛ فيضيف، ويختزل بنيّة إتمامه، من وجهة نظره الخاصة.(مثال ذلك رواية " مملكة الجواري" للغربي عمران، في اليمن)، ورواية " الزيني بركات" لجمال الغيطاني، في مصر" ..  
فنحو هذه الروايات- التي يعد التاريخ رافداً حكائياً أصيلاً تتشكل منه البنى الروائية- لا يمكن أن نقول عنها: " إعادة لكتابة وتدوين التاريخ عبر سياق روائي " لأن الروائي لا يكتب التاريخ، بل هو يقتاتُ من التاريخ، ويأخذ منه ما يسترعي انتباهه، وما ينصاع لمضمون كتابته، دون الخضوع لمنطق الحقيقة القانونية فيه.
وهذا النوع من الروايات هو الأكثر شيوعاً في الكتابات المعاصرة (الحداثية، وما بعد حداثية) .

- وثانيهما : هو تلك الروايات التي تستفيد من التاريخ، بقصد إعادة تدوينه، وإخراجه للقارئ بصورة وثائقية منقحة (من وجهة نظر الكاتب)؛ حيث يُسرْدِق فيها الكاتب التاريخ، لا بقصد إعادة إنتاجه- وفق رؤية فنية، وجمالية محددة- وإنما يسرد فيها الأحداث بقصد تسجيلها، وتوثيقها، فتبرز فيها سطوة التسجيل على سطوة الجمالية، والأدبية، لكن ما يجتمع في كلا النوعين هو "الزمان الموثق، والمكان المحدد" ..
وهذا النوع من الكتابة الروائية يُقصِي التبئير الروائي، وأدبية الرواية؛ لكونه لا يتجاوز حدود التاريخ الخارجي، ويقوم بتغليب تاريخية الرواية على فنيتها، ورؤيويتها التخييلية.
ومثالنا على هذا النوع - الأخير - رواية  "موكا سيتي" للكاتب" سمير محمد" الصادرة مؤخرا عن دار "عناوين بوكس في القاهرة"، التي  تندرج حكائياً في هذا النمط السردي لكتابة التاريخ .. 

▦ فـضاء الأحـداث : 
تقدم لنا رواية "موكا سيتي" وصفاً وضَخّاً معلوماتيأّ، وتوثيقياّ، وتسجيلياّ،  لتاريخ البن اليمني، وموانئه، ومقاهيه، وأماكن مروره في أنحاء العالم ..
وتسهب الرواية حوارياً - عبر شخصياتها - في الحديث عن زمنيات تأسيس المقاهي في العالم، وتاريخ نشوئها، ومناطقها، والتنافس العالمي (الأوروبي) على تدفق البن اليمني لأراضيها، وتحكي عن علاقة القهوة بالتصوف، والمتصوفين، وأول من شرب القهوة، ومن اكتشف البن من المتصوفة اليمنيين..
كما تثير قضايافلسفية، لأشهر المتصوفة في اليمن، كمتصوفي المذهب الشاذلي، وابن علوان، وغيره .. 
- كما يعرج السارد- عبر شخوص الرواية- إلى معلومات ثقافية مثل: أول من اضاف السكر، والحليب للقهوة، وأولى الدول التي فتحت مقاهيَ للبن في مدنها، ومن هم "البانيان" وأصولهم، وماسبب التسمية، وتاريخ وجودهم في اليمن . 
وأحاديث جانبية عن الكنائس، وأسمائها، وأنواعها، والاختلافات بين معتنقيها، والفروقات الزمنية في تاريخ الاحتفال بأعياد الميلاد..
ويطيل ( عبر الشخوص) في الحديث عن  العملة اليمنية، وتاريخيتها، وأنواعها، وأسمائها، من أيام المتوكل ، وما بعده.
- كما يتوقف عند أحداث داخلية يمنية ( صراعات وحروب، وفتن) في تلك الفترة الزمنية، المرتبكة  من التاريخ ، وربطها بأحداث عالمية أيضاً، كانت تجري في نفس الفترة الزمنية ..
- وكان للشعر نصيب في سياقات بعض الحوارات، لتطعيم الأحداث بنفَسٍ وجداني، و صوفي. ومن تلك النصوص ما كان للكاتب نفسه، أوهي نصوص مترجمة للغة العربية- يقول السارد إنها تـُترجَمُ لأول مرة- وبعضها ماكان  منقولاً عن شعراء لهم شهرتهم ..

- في الرواية يُعْـلـي السارد من شأن الصداقة، التي تتنزل إلى مرتبة الأخوة؛ بغض النظر عن الديانة، والمذهب؛ حيث يجعل الإنسانية أساس كل علاقة تجمع بين البشر. وتمثل هذا النموذج في العلاقة التي جمعت بين كل من صابر (اليمني
القروي ) ، و"مارك" (المسيحي الهولندي)"  إذْ تبدأ الرواية بتكوين صداقة بينهما، وتنغلق بتجذير حميمية تلك الصداقة، في مشهد وديٍّ، قل أن نراه بين اثنين ..   

▦ فـضاء الــزمـكان والشخوص:
- في "موكا سيتي" اختار الكاتب القرن السابع عشر ليكون هو الزمن المثالي الذي يُعمِل فيه الكاتب أدواته السردية، لإظهار تلك الفترة، كما رواها التاريخ الخارجي. وكان المكان الذي دارت فيه وقائع الرواية، ومنطلقها هو مدينة "المخا" ومنها جاءت العنونة الكتابية للرواية( مـوكا)، وهي تسمية إيطالية - كما نعلم- لأشهر أنواع القهوة التي كان ميناء"المخا" هو أشهر موانئ تصدير بـُنـّها لأنحاء العالم .. 
وقد حاول الكاتب- في هذه الرواية- أن ينقل لنا الحياة المجتمعية في زمانها، ومكانها كما تراها عين الكاتب المؤرخ، وعين الكاتب الروائي معاّ .
وتألفت مادة الرواية من مجموعة من الشخوص ، بعضها حقيقية في زمنها ووجودها، مثل "طه الشاذلي" وبعضها تخيلية، اقتضى وجودها حبكة السرد الروائي.
وكان للشخوص الأجنبية حظها من الظهور  مثل: مارك، جاسبرت، سايمون، روبير، البافاري فريدريك، سوراجي ..وغيرهم .. وهم يؤلفون جنسيات مختلفة : هولندية، وألمانية، وانجليزية، وفرنسية، وهندية...
وارتكزت الرواية على شخصيتين محوريتين هما "صابر ، ومارك" وهما شخصيتان مركزيتان، أخذتا من الحوار الناقل للمعلوماتية مايقدر ب90٪ من مجمل السرد، والحكاء، إلى جانب شخصية طه الشاذلي- العالم المتصوف- الذي ظهر كعالم إسلامي، وموجه، ومرشد ديني للشخصيات، لاسيما شخصية صابر..

▦  الحَـبكـة : التقاطع، والتباعد ..
لم يكن ثمة حبكة واحدة في هذه الرواية، بل تعددت الحبكات الفرعية في رواية "سمير محمد"، ولكن مهما تعددت الحبكات الفرعية- من وجهة نظر فنية- فيجب أن تدور كلها في فلك الحبكة الرئيسية للرواية وتتقاطع معها؛ لدعم الفكرة الأساسية، وتقويتها. 
فالرواية يجب أن يتسع فضاؤها لعدد من الحبكات التي تغذي الفكرة، من خلال تفاعل الشخوص في المجالات الحياتية المختلفة : كالمجال العاطفي، ومجال، الصداقة، والمجال العائلي، والمجال العملي الوظيفي، وغيرها من المجالات...  
وفي رواية سمير محمد- التي تتشح بعدد من الحبكات الفرعية- نرى أن بعضها كانت تنمو وتتصاعد، وتتقاطع مع الحبكة الرئيسية، وبعضها- الأكثر- تنفصل تماماً، عن الحبكة الأم، ولها سياقاتها المستقلة عن حدث الحكاء الرئيسي، ولربما كان ذلك سببه الالتزام بالتسجيلية التاريخية، أكثر من الالتزام بالجمالية الروائية، مما شتت تلك الحبكات، وجعل منها أقرب للقصصية منها إلى الروائية.
وسوف نتناول هنا إحدى تلك الحبكات الفرعية؛ ليطلع القارئ على مفهوم الحبكة الفرعية، ولتكن حبكة المجال العاطفي .   

▦ حبكة الحب في "موكا سيتي"
لأن شخصية الرواية " صابر" كانت تركيبته النفسية، والتربوية أقرب إلى التدين، والتصوف الروحي؛ لذا جاءت موضوعة "الحب، والعاطفة" تبعاً لهذا المنحى السلوكي. 
فالعاطفة، وإن ظهرت لدى شخصية الرواية مشبوبة، ومتقدة، و حالمة بما وراء الثياب الأنثوية، إلا أنها كانت دائما محاطة بتأنيب الضمير، وكل نظرة شيطانية لجارته الجميلة يعقبها توبة .
عاطفة الحب في شخصية صابر تقف خلفها التربية الدينية؛ بتهذيبها للنشاط الانفعالي، والوجداني، وعدم تجاوز الخط الأحمر، والذهاب به بعيداً نحو تداعيات الشهوة؛ لذا عاشت هذه الشخصية الروائية صراعاً داخلياً بين الإقدام على التماهي مع جارته الحسناء الفاتنة، والتردد بين الرغبة، والكبح.
يقع أحياناً في فخ التلصص اللذيذ لجارته الحسناء المثيرة، لكنه يعود لنفسه ليحاسبها. 
وحين تصبح لذة التلصص على جارته الناهدة الفرعاء طقساً يومياً، تضحى لذة التوبة طقساً موازياً أيضاً ..إنها ذنبه الوحيد الذي يستمتع به، لهذا يأوي كل يوم إلى فراشه باكياً، وخائفاً من الخالق !
فلماذا يجعل السارد من شخص كصابر بهذا السلوك، وهذه التربية الدينية؟
لثلاثة أسباب وجيهة؛ أولاً : لكونه قروياّ طري العقل، والوجدان، وثانياّ  لقربـه من معلمه "طه الشاذلي" العالم المتصوف الذي يلازمه في صلواته، ومنتدياته. وثالثاً؛ لأن السارد يكشف نهاية هذه القصة أن هذه المرأة الحسناء الفتية الجسد، الصغيرة العمر،  متزوجة من رجل كبير في السن، يغار عليها، ويحبسها في منزلها خوفاً عليها، ولذا لا تستطيع أن تمنع نفسها من التماهي مع من يتابعها، وقد تقع معه في المحظور .. 
لهذا يُقنـع صابر نفسه بأن الاستمرار في التلصص عليها، ومحاولة جذبها إليه لا يجوز في شرع الإسلام. فيعقد العزم على تركها؛ لتتصالح مع زوجها، فلعله يعوضها ما ينقصها من عاطفة، وعطش روحي، وجسدي ..
وبذلك تنغلق هذه الحبكة الفرعية القصصية على هذا المعنى الديني، والتربوي السلوكي، دون ان تتماهى، أو تتمازج بفكرة الرواية المحورية ..

-------------

▦ بطاقـة الكتاب  :
○ العنوان : "موكا سيتي" 
○ الجنس : رواية
○ الكاتب :  سمير محمد .
○  الناشر: عناوين بوكس. القاهرة .
○  سنة النشر: 2022
○ عدد الصفحات: (   204  ) صفحة
○  عدد الفصول (  8 )
○ تصميم الغلاف: سمير محمد   
.......
▦ سبق للكاتب أن أصدر رواية، بعنوان" قصة قريتين" عام 2020م ، عن مكتبة مدبولي للنشر، والتوزيع في القاهرة.
تلا ذلك ديوان شعري عن دار عناوين بوكس، في القاهرة ، عنوانه "تأتين.. سامية" 2022 م . 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم