«التاريخ لا يهم المؤرخ وحده، وإنما يهم المجتمع ككل».

عبدالله العروي

حاولت بعض النماذج الروائية العربية الحديثة والمعاصرة، أن تسهم في استجلاء الأحداث التي وقعت في لحظات تاريخية معينة، بحكم أن هذا الفن الأدبي يتميز بمرونة مدهشة، وقدرة هائلة على إعادة تمثيل وخلق الوقائع، واستبطان دواخل الشخصيات الصانعة للأحداث، والقبض على مختلف التفاصيل والجزئيات التي تعجّ بها الحياة، والتقاط اللغات التي تلهج بها النفوس، ويعج بها المجتمع. كل ذلك، عبْر رصد اللحظات الفارقة في مسار الأمم، وإعادة تمثيلها فنيًّا تمثيلَ احتمالٍ وإمكانٍ كفيليْن بجعل القارئ، يعايش تلك الأجواء التي مضت وانقضت، معايشةً حية خصيبة توقظ في مداركه الرغبة في السؤال، وتدفع به دفعًا غير مباشر نحو تيقظ وعيه بذاته ومحيطه، وإعادة ترتيب معرفته بالبواعث والأسباب التي أدت إلى حصول ما حصل في ظروف وملابسات معينة؛ إذ إن ما يهم في الرواية التاريخية مثلما يؤكد جورج لوكاش، ليس إعادة بناء الأحداث الماضية كما وقعت حرفيًّا، وإنما «بعثُ الحياةِ فيمَن اشترك من الكائنات البشرية في تلك الحياة، بعثًا يكون بكيفية جمالية وشاعرية، حتى يستطيع القارئُ إدراكَ البواعث التي حركت هؤلاء الناس، وفهمَ نفسِه هو بالذات في نطاق الحاضر».

أكثر من رحلة

تعد رواية «الصريم» للروائي السعودي أحمد السماري، تجربةً سردية طريفة تتأسس في خضم هذا الجدل، الذي يتفاعل ضمنه البُعد الروائي بالتاريخي، وهي تجربة تَسْجُرها لمسةُ حنينٍ رومانسي إلى مرحلة البدايات، تتحكم الرغبة في الوفاء لروح «الآباء والأجداد الطاهرة، إلى الأسلاف الذين عاشوا تلك الفترة العصيبة من الكوارث والعوز، من تاريخ نجد والجزيرة العربية، ولم يتذكرهم إلا القليل من الناس»، مثلما نقرأ في الإهداء (ص: 7).

أحمد السماري

ولأجل استحضار معاناة هؤلاء الأسلاف، وما عاشوه مكرهين من آلام شاقة، تخللتها أشكالٌ شتى من الابتلاءات والمُلمات، اختار الكاتب لروايته مرجعية زمنية تُراوِحُ بين العقد الخامس والسادس من القرن المنصرم، إلى جانب تقنية الرحلة المضاعفة والمفتوحة على أكثر من مسار ودائرة، بوصفها ذريعة لبناء محكي يقوم على السرد المنساب أو الاسترجاعي حينًا، وحينًا آخر على الوصف البَرَّانِيّ أو الجَوَّانِيّ، مثلما يقوم حينًا ثالثًا على الاستبطان والتأمل المستغور للأعماق. ومن ثم، تغدو رحلة البطل (زيد بن عثمان)، مع رفيقه البريطاني (وليم) أكثر من رحلة؛ لأن حكاية الرحلة المركزية في «الصريم» (التي هي عودة البطل من مهجره في الكويت، إلى أهله وذويه بنجد، بصحبة الرحالة البريطاني وليم)، تساوقها حكايات عن رحلات أخرى، تتم ضمن أكثر من زمكان، تستحضرها ذاكرة زيد من خلال محكي شفوي ليلي شائق تارة، أو يرويها وليم لمرافقه تارة أخرى، على شكل واقعة تستدعي استخلاص العبرة والموعظة؛ ومن ثم، تُضاعِف المحكيات الرِّحْلية بعضها بعضًا، وتضيف للرحلة المركزية زخمًا سرديًّا يغنيها، ويفتحها على أكثر من سِفْر من أسفار الماضي القريب، سواءٌ أَتَمَّ ذلك بلسان الحفيد زيد، أم بلسان رفيقه وليم، الذي يشكل في الرواية نموذج الغير، ويأتي لإثراء ما يعجز عنه لسان البطل، وذلك من خلال إضافات معرفية تكشف عن معرفة علمية راقية؛ ما دام أن ثمة بين زيد ووليم «مسافة حضارية وثقافية تُضْعِف بينهما موجات التواصل أحيانًا، وتُشكل حاجزًا عن فهمها» (ص179).

ومن ثم، تتخلل الرواية مشاهد وصفية هائلة عن الصحراء (الربع الخالي)، وعن عادات البدو وتقاليد قِراهم ودماثة أخلاقهم، إلى جانب نتف سائغة من التراث القصصي العربي والغربي، إضافة إلى مقطوعات شعرية؛ مثلما تتخللها أيضًا شذرات من كتب الوصف الجغرافي، وتدوينات بعض الأنثروبولوجيين الذين زاروا المنطقة، في أوقات متفرقة في القرن التاسع عشر، واحتكوا ببعض القبائل البدوية العربية. كل ذلك يُعتَمَد ضمن ضفيرة سردية يتحكم في خيوطها منظوران: خارجي يُسرَد بضمير الغائب، وهو المعتمد في الفصل الأول والثالث، حيث تقديم الشخصية الرئيسة والتعريف بأحوالها وواقعها… إلخ؛ بينما يتغير المنظور وضمير السرد معًا، لتقديم وقائع الرواية وأحداثها عبر ضمير المتكلم المفرد، في الفصل الثاني والرابع.

رواية التحولات الحضارية والثقافية

بهذا التنويع في المنظور، تنجح الرواية كثيرًا في تقديم محكيها على نحو مرن، تمنح فيه الفرصة للقارئ كي يدنو أكثر من الشخصية المركزية، وينظر إلى الأحداث من خلال منظورها الذاتي، حتى تزداد درجة تعاطفه أكثر مع تلك الشخصية، ولا سيما أن وضع زيد بن عثمان يشكل نموذج الجيل النجدي الجديد، الذي عايش أهم التحولات الحضارية والثقافية التي طالت منطقة الخليج، وحاول الخروج نسبيًّا من قوقعة التقليد المبلد للأذهان، والمحنط للهِمَم والإرادات، لكنه سرعان ما اصطلى بنيران المد النكوصي، واكتوى بسوط الرقابة.

يذكر لنا زيد في الفصل الثاني من الرواية، كيف أنه عاش محنة الجَلْد بسبب سماعه المذياع، رفقة ثلة من أصدقائه، فيقول: «امتلك صديق لي اسمه حسن مذياعًا، جلبه من الرياض التي أصبحت مصدرًا للحداثة، بعد استقرار الحكم… وكُنا نجتمع بسرية معظم الليالي عنده، في بيت داخل الديرة في منطقة السوق، وكان بث الإذاعات القادمة من مصر ولندن وغيرها تجذب أسماعنا، والخطب السياسية للثورة العسكرية في مصر تدغدغ مشاعرنا المتمردة، ووصلات أغاني أم كلثوم وأسمهان وعبدالوهاب تلهب قلوبنا للفرح والحب، وتُشعرنا بحرية مؤقتة تنعشنا قبل أن نأوي إلى فُرشنا للنوم. وفي إحدى الليالي، وشى بنا جارٌ إلى رجال الحِسْبة يرأسهم الشيخ فهد، ذو السطوة القوية… فنُقلنا إلى السجن داخل مقر الحِسْبة، وعُرِضنا على الشيخ بتُهمة سماع المعازف التي تصدّ عن ذِكر الله، فحكم علينا بالسجن أسبوعًا كاملًا، وحلق شَعَر رؤوسنا، وبالجَلْد… وتحطيم آلة الشيطان «المذياع» أمام الناس، بعد صلاة الجمعة» (ص 117/118).

وبالجملة، فإن رواية «الصريم» بقدر ما هي حكاية لحال ومآل زيد بن عثمان -الشخصية الرئيسة التي ثابرت بهمة كبرى لتطوير وتثوير وضعها الاجتماعي، والانتقال من حالة العوز إلى بعض اليُسر- فهي أيضًا حكاية بلاد برُمّتِها، وحكاية أسلاف عانوا الأمرّين في أزمنة الفاقة، خلال لحظة ظلت بَيْنية تسْجُرها شتى الاضطرابات، ويفعمها الكثير من الأحزان. ومن ثم، فـ«الصريم» نص يُسائل حاضره باستحضار وقائع الماضي القريب، ملتمسًا من أبناء الحاضر عدم الانجرار الخادع وراء مظاهر النعمة الوفيرة، والاغترار باليُسر المتاح اليوم؛ لأن ذلك قد يكون سريع الزوال، إذا لم تُساوِقه وفرة معرفية ونهضة علمية مبنية على أسس قويمة. ولا أدل على ذلك من تلك الإشارة، التي تنتهي بها الرواية فجأة، حيث التركيز على سعود أخي زيد، الذي انتهى به المطاف أخيرًا، إلى قبول طلب دراسته للطب في ألمانيا.

عن مجلة الفيصل

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم